عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ
الْقُرَظِيِّ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلاقِي . فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبَيْرِ وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ . فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَقَالَ : أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ ؟ لا , حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ , وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ , قَالَتْ : وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ , وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ
أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ , فَنَادَى يا أَبَا بَكْرٍ : أَلا تَسْمَعُ إلَى هَذِهِ : مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ.
هذا الحديث فيه مسائل :
المسألة الأولى :موضوع الحديث :
أن من طلق زوجته طلاقاً بائناً بينونة كبرى ثم تزوجت برجل آخر أنها لا تحل للأول إن فارقها الثاني بغير تبييت نية تحليل إلا بعد جماع يشعر بلذته الرجل والمرأة وهل يُشترط فيه الانتشار والإنزال هذا محل
نظر
المسألة الثانية : تخريجه:
أخرجه الحميدي (226) ، وأحمد( 6/34 ) ،والدارمي( 2272 )، والبخاري( 3/220 )،ومسلم( 4/154 )،وابن ماجة( 1932 )، والترمذي( 1118 ) ، والنسائي( 6/93 و148 ) كلهم من طرق عن الزهري.
وأخرجه أحمد (6/193 )، والدارمي( 2273 ) ، والبخاري( 7/56 )، ومسلم( 4/155) كلهم من طرق عن هشام بن عروة.كلاهما (الزهري ، وهشام بن عروة) عن عروة بن الزبير ، فذكره.
المسألة الثالثة : المعنى الإجمالي
تقول عائشة رضي الله عنها جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبت طلاقي وأخبرت أنها تزوجت بعده بعبدالرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب
تعريضاً بأنها تريد أن تخرج منه وتعود إلى زوجها الأول رفاعة فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرف أنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول فقال لها لا حتى تذوقي عسيلة زوجك الجديد ويذوق عسيلتك كناية عن
شرطية وجود لذة الجماع في حل الزواج الثاني وعلى هذا فيحمل قوله تعالى ( حتى تنكح زوجاً غيره ) على أن المراد بالنكاح هنا الذي هو لذة الجماع .
المسألة الرابعة : معاني الكلمات :
امرأة رفاعة القرظي : اسمها تميمة بنت وهب بمثناة مضمومة مصغرة أي تُميمة ، كما في الموطأ
رفاعة القرظي : نسبة إلى بني قريظة . ورفاعة هو ابن سموئل .
عبد الرحمن بن الزَّبير : الزَبِير : بفتح الزاي ، بعدها باء مكسورة . وعبدالرحمن بن الزبير أبوه الزبير بن باطا وكل الثلاثة من بقايا بني قريظة الذين أسلموا أو الذين كانوا وقت قتل آبائهم وأمهاتهم دون
الحلم .
فبت طلاقي : البت بمعنى القطع . و يحتمل أنه قال لها : أنت طالق البتة ، ويحتمل أنه طلقها الطلقة الأخيرة ، وهذا الراجح ، فقد جاء عند البخاري طلقني آخر ثلاث تطليقات ) فيكون طلقها ثم راجعها ثم طلقها ثم
راجعها ثم طلقها
مثل هدبة الثوب : هدبة بضم الهاء وسكون الدال هو طرف الثوب ، وأرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار . قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام (2 / 486): فِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ شَبَّهَتْهُ بِذَلِكَ لِصِغَرِهِ.
وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ شَبَّهَتْهُ بِهِ لِاسْتِرْخَائِهِ ، وَعَدَمِ انْتِشَارِهِ .
عسيلته :العسيلة حلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة في الفرج ، قال ثعلب: شبه لذته بلذة العسل، فاستعار لها ذوقا، وإنما أنث لأنه أراد قطعة من العسل أهـ. قال الجمهور : ذوق العسيلة كناية عن المجامعة ،
وهو تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة .
وأبو بكر عنده : أي جالس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قالت له ذلك.
وخالد بن سعيد بالباب : هو خالد بن سعيد بن العاص.
بالباب : أي ينتظر أن يُؤذن له.
فنادى يا أبا بكر ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
كأنه يريد من أبي بكر أن ينتهرها ولكن أبا بكر لزم الأدب عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يمكنه أن يتقدم بين يديه بشيء .
المسألة الخامسة : الفوائد :
1- الحديث دليل على أن المرأة إذا طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات ، فإنها لا ترجع إليه إلا بشروط :
الشرط الأول : أن تنكح زوجاً غيره . لقوله تعالى : ( فَإِنْ طَلَّقَهَا [ يعني الثالثة ] فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) ، ولحديث الباب .
الشرط الثاني : أن يجامعها في الفرج . لقوله صلى الله عليه وسلم : ( حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته ) فعلق النبي صلى الله عليه وسلم الحل على ذواق العسيلة منها ، ولا يحصل هذا إلا بالوطء في الفرج . وهذا
مذهب جمهور العلماء أنه لا بد من الجماع . قال ابن المنذر : أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول ، إلا سعيد بن المسيب . يعني أنه قال : يكفي العقد .فحاصل قول الجمهور : أنه يكفي لحلها لمطلقها ثلاثاً
، تغييب حشفة الرجل في الفرج ، ولا بد من انتشار الذكر ، ولا يشترط الإنزال خلافاً للحسن البصري .
قال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان : ولا عبرة بما يروى من المخالفة عن سعيد بن المسيب . لوضوح النص الصريح الصحيح في عين المسألة أهـ .وقال العلامة المباركفوري في تحفة الأحوذي : قول سعيد بن المسيب هذا
في الرخصة يقابله قول الحسن البصري في التشديد ، فإنه شرط الإنزال كما عرفت قال ابن بطال : شذ الحسن في هذا وخالفه سائر الفقهاء.
الشرط الثالث : أن يكون النكاح صحيحاً . فإن كان فاسداً كنكاح التحليل أو الشغار ، فإنه لا يحلها وطئها .
ونكاح التحليل هو : أن يعمد الرجل إلى المرأة المطلقة ثلاثاً فيتزوجها ليحلها لزوجها الأول ، وهو حرام ولا تحل به المرأة لزوجها الأول ، لحديث ابن مسعود قال : ( لعن رسول الله المحلل والمحلل له ) . رواه
أحمد والترمذي ، وسماه النبي عليه الصلاة والسلام : تيساً مستعاراً . رواه ابن ماجه ، والدارقطني ، والحاكم ، وحسنه عبد الحق في الأحكام ، وصححه الزيلعي في نصب الراية ، وقال الحافظ في الدراية : رواته
موثقون . فمتى نوى الزوج الثاني أنه متى حللها طلقها ، فإنه لا تحل للأول ، والنكاح باطل .فالملعون على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام هو :
المحلل : هو الزوج الثاني إذا قصد التحليل ونواه ، وكان عالماً .
والمحلل له : وهو الزوج الأول ، فيلحقه اللعن إذا كان عالماً .
قال ابن القيم : وسمعت شيخ الإسلام يقول : نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من أوجه :
أحدها : أن نكاح المتعة كان مشروعاً في أول الإسلام ، ونكاح التحليل لم يشرع في زمن من الأزمان .
الثاني : أن الصحابة تمتعوا على عهد النبي عليه الصلاة والسلام ، ولم يكن في الصحابة محلل قط .
الثالث : أن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يجيء عنه في لعن المستمتِع والمستمتَع بها حرف واحد ، وجاء عنه في لعن المحلل والمحلَل له .
الرابع : أن المستمتِع له غرض صحيح في المرأة ، ولها غرض أن تقيم معه مدة النكاح ، فغرضه المقصود بالنكاح مدة ، والمحلل لا غرض له سوى أنه مستعار للضراب كالتيس ، فنكاحه غير مقصود له ، ولا للمرأة ، ولا
للولي ، وإنما هو كما قال الحسن : مِسمار نار في حدود الله ، وهذه التسمية مطابقة للمعنى .
الخامس : أن المستمتع لم يَحْتَل على تحليل ما حرم الله ، فليس من المخادعين الذين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان ، بل هو ناكح ظاهراً وباطناً ، والمحلل ماكر مخادع ، متخذ آيات الله هزواً ، ولذلك جاء
في وعيده ولعنه ما لم يجيء في وعيد المستمتع مثله ، ولا قريب منه .
السادس : أن الفِطَر السليمة ، والقلوب التي لم يتمكن منها مرض الجهل والتقليد ، تنفر من التحليل أشد نفار ، وتُعيِّر به أعظم تعيير ، حتى إن كثيراً من النساء تعيّر المرأة به أكثر مما تعيرها بالزنا
.
السابع : أن المحلل من جنس المنافق ، فإن المنافق يُظهِر أنه مسلم ملتزم لعقد الإسلام ظاهراً وباطناً ، وهو في الباطن غير ملتزم به له ، وكذلك المحلل يظهر أنه زوج ، وأنه يريد النكاح ، ويُسمِّي المهر ،
ويُشهِد على رضا المرأة ، وفي الباطن بخلاف ذلك .
2- مسألة : لو وطأها الثاني بحيض أو نفاس أو إحرام ، هل تحل ؟
قيل : لا تحل بالوطء المحرَّم . قالوا لأنه وطء حرام لحق الله ، فلم يحصل به الإحلال .
وقيل : أنه يحلها .وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ، ورجحه ابن قدامة في المغني ، حيث قال : وظاهر النص حلها ، وهو قوله تعالى : ( حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ عليه الصلاة والسلام ، وهذه قد نكحت زوجاً
غيره ، وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم : ( حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتك ) وهذا قد وُجِد ، ولأنه وطء في نكاح صحيح في محل الوطء على سبيل التمام فأحلها كالوطء الحلال ، وهذا أصح إن شاء الله ، وهذا مذهب
أبي حنيفة والشافعي .وهذا هو الصحيح .
3- الحكمة من كون الزوج الأول لا يحل له نكاح مطلقته ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره :
أولاً : تعظيم أمر الطلاق ، حتى لا يكثر وقوعه ، فإنه إذا علم أنه لا ترجع إليه بعد الثلاث حتى يتزوجها غيره ، لم يستعجل بإيقاعه .
ثانياً : الرفق بالمرأة ، فإن المرأة إذا طلقت ثلاثاً فإنها تتزوج غيره ، وقد يكون خيراً من زوجها الأول فتسعد به
4- ينبغي للسائل أن يتأدب عن السؤا