دفعتني نحلة إلى رحلة. الرحلة لم أكن قد خططت لها. و مكان الرحلة كان إلى عالم النحل العجيب. سبب هذه الرحلة حديث نبوي.فلقد قرأت ما جاء في شعب البيهقي عن مجاهد قال:صاحبت عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مكة إلى المدينة فما سمعته يحدث عن رسول الله إلا هذا الحديث:
” إن مثل المؤمن كمثل النحلة. إن صاحبته نفعك، وإن شاورته نفعك، وإن جالسته نفعك، وكل شأنه منافع ”
ودفعني هذا التشبيه إلى تلكم الرحلة. و كان القصد من ورائها الإجابة على سؤال:لماذا شبه الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن الحق بالنحلة ؟
خاصة أنه قال في حديث آخر:
” المؤمن كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا وإن وضعت وضعت طيبا وإن وقعت على عود لم تكسره ”
وأثناء رحلة البحث عن الإجابة عن هذا السؤال جاءت هذه اللقطات .
اللقطة الأولى:
يظهر فيها حسن تعامل النحل مع أوامر ربه.يظهر فيها كيف يتعامل هذا المخلوق مع أوامر الخالق
فمنذ أن أوحى الله سبحانه وتعالى إلي النحل
” وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون* ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا……”(النحل 69)
منذ ذلك الوقت يستحيل أن تجد للنحل بيوتا في غير هذه الأمكنة الثلاث: الجبال.. والشجر..
والبيوت. على نفس ترتيب الآية. أمر من الله. أعقبه تنفيذ من النحل.بلا تسويف ولا تحايل ولا تباطؤ .
أنها صورة تعكس أرقى درجات السمع والطاعة للخالق من مخلوق.
ومن حسن الامتثال وكمال السمع والطاعة عند النحل, تجد أيضا أن أكثر بيوت النحل في الجبال –
وهي المتقدمة في الآية ثم الشجر ثم فيما يعرش الناس ويبنون بيوتهم. وكذلك تجد أن أرقى وأجود
أنواع العسل هي عسل نحل الجبال ثم عسل نحل الشجر ثم عسل نحل البيوت. وهنا لا يجب أن
يفوتنا أن نضع هذه الصورة جنبا إلى جنب مع صورة تعاملنا نحن بني البشر مع أوامر ربنا عز وجل.
http://www.55a.net/firas/ar_photo/bee/mbee.jpg
صورة لخلية نحل اتخذت بيتاً على أحد الجبال
لنقارن.. ونقارن.. ونمعن في المقارنة. علنا ندرك جانباً من الإجابة علي السؤال: لماذا شبه الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن الحق بالنحلة ؟.
ومن طبائع النحل المعروفة والتي تدل على حسن امتثاله لأوامر ربه, أنه دائما ما يتخذ البيوت قبل
المراعى. فهي إذا ما أصابت موضعا مناسبا بنت فيه بيوتها أولا. ثم بعد ذلك تخرج من تلك البيوت
ترعى وتأكل من كل الثمرات ثم تأوي إلى بيوتها. لأن ربها سبحانه وتعالى أمرها بذلك. أمرها
باتخاذ البيوت أولا ثم الأكل بعد ذلك. وهنا قد تبعد المراعى عن البيوت الأميال والأميال. وقد يفصل
بين المراعي وبيوت النحل السهول و الجبال.
http://www.55a.net/firas/ar_photo/bee/treebee.jpg
صورة لخلية نحل اتخذت بيتاً على جذع شجرة في إحدى الغابات الطبيعية
وقد يتطلب هذا من النحل عبور الروابي والوديان . ومع ذلك فإن طاعتها لربها جعلها تنسى بعد
المسافات وكثرة المشقات فالمؤمن الحق – كالنحل – يجب ألا يفكر إلا في تنفيذه الأوامر الربانية.
أما المشقات, والتبعات, والمنغصات فهي أمور ثانوية يجب ألا يفكر فيها المسلم . لأنه لو فكر فيها
فربما تلكأ أو تباطأ أو قصر. ولكن طالما أن الأمر من عند الحق فيجب أن لا يشغل بال المؤمن
الحق غير تنفيذ أمر الحق. وهكذا يفعل الصالحون.
انظر إلى نبي الله نوح لما أمرها لله:بأن يصنع الفلك في البيئة الصحراوية.
وانظر إلي سيدنا موسى لما أمره الله: ” أن اضرب بعصاك البحر” وانظر كيف تعامل سيدنا إبراهيم
مع أمر الله له بذبح إسماعيل. لكن انظر كيف كانت درجة السمع والطاعة من هؤلاء جميعا وكيف
كانت النتائج . ليتأكد لك أن السعادة والفوز يكمنان في حسن تنفيذ العبد لأوامر ربه, حتى ولو كانت
هذه الأمور تفوق قدرات عقولنا القاصرة, أو حتى عجزنا عن استيعاب مرامي التكاليف ساعة التنفيذ.
اللقطة الثانية:
وتظهر فيها كيف أن النحل يقضي حياته في حركة ونشاط وانتقال من طيب إلى أطيب, ومن أثر
نافع إلى أنفع. “فمن اجل أن تقوم النحلة بإطعامنا كيلو جرام واحد ومن العسل إنها تقوم بما يقرب
600ألف إلى 800الف طلعة وتقف على مليون زهرة وتقطع ما يزيد عن 10أضعاف الكرة
الأرضية رغم الرياح والأنواء”. وكأن الرسول لما شبه المؤمن الحق بالنحلة أراده أن يتمثل هذا
الخلق. وأراده أن يتحلى بثقافة النحل في السمو, وعلو الهمة, والتعامل مع الأمور بجدية, وقوة من
يبتغي وجه الله:-
طالب العلم مع علمه
والعامل في صناعته
والتاجر في تجارته
والمزارع في زراعته
و الداعي إلى الله في دعوت
فلا فلاح لكل من ينتج إنتاجا ماديا أو معنويا دون أن تسود بينهم ثقافة النحل في النفع والعطاء.
http://www.55a.net/firas/ar_photo/bee/bee.jpg
النحل يقضي حياته في حركة ونشاط وانتقال من طيب إلى أطيب
اللقطة الثالثة:
ويظهر فيها كيف أن النحل يجيد توظيف الطاقات. فالنحل يجيد هذه المهارة. وهذه مهارة لازمة
للأمم والأفراد والجماعات. ولا يرقى الإنسان إلا بها. فمن النحل من يعمل العسل, وبعضها يعمل
الشمع, وبعضها يسقي الماء, وبعضها يبني البيوت, وبعضها يقوم بأعمال النظافة، وبعضها يقوم
بأعمال التكييف والتبريد والتهوية, وبعضها يقوم بالتلقيح, وبعضها يقوم الاستكشاف والاستطلاع.
الكل يعمل وينتج. كل حسب سنه ووظيفته وقدراته وميوله واستعداداته. فلقد علمنا النحل من خلال
هذه اللقطة أنه من لا يجيد توظيف الطاقات يغرق في العثرات. ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم
كان ينوه- لي ولك- أن يتحلى كل منا به بهذا الخلق.
اللقطة الرابعة:
ويظهر فيها أحد طبائع النحل العجيبة. فالنحل يرفض رفضا باتا أن يوجد في مملكته عاطل عن
العمل
” فمن طبائع النحل أنها لا تترك عندها بطالا إلا نفته وأبعدته وأقصته عن الخلية. لأنه
يضيق المكان.
ويفني العسل.
ويعلم النشيط الكسل.
وهذه مهارة إدارية راقية ما أحوجنا أن نتمثلها واقعا في حياتنا الإدارية. فلو علم كل عامل في
مؤسسته أن مصيره الإقصاء ما لم يؤدي ما هو مطلوب منه. وما لم يحقق ما هو مطلوب منه من
مستهدفات حسب خطة المؤسسة العامة التي يعمل فيها, لعاد ذلك بمردود ايجابي على الأمة. أما أن
تدخل المؤسسات الحكومية في بلاد المسلمين وتجدها مكتظة بالعشرات ممن لا وظائف لهم ولا عمل لهم فهذه انتكاسة.
لقد وصلت المؤسسات الصناعية العظمى في اليابان وأوروبا إلى ما وصلت إليه من رقي وارتقاء
وتقدم بفضل تطبيقها لهذه السياسة الراقية التي يجب أن نتعلمها نحن من النحلة.
اللقطة الخامسة:
تظهر كيف أن النحل يفضل العمل في صمت وهدوء وبعيدا عن أعين الناس. فيروى أن
آرسطاطاليس صنع بيتا من زجاج لينظر إلى كيفية ما يصنع النحل. فأبت أن تعمل حتى لطخته
بالطين من الداخل. لطخته بالطين حتى تنأى بنفسها عن الظهور. وكأنها وعت خطورة آفة الرياء
والنفاق وحب الظهور وحب الرياسة وكلها آفات مهلكات. لطخة بيتها بالطين من الداخل بحثا عن
الإخلاص. وكأنها تدرك قول ابن القيم رحمه الله تعالى:
(الإخلاص ألا تطلب على عملك شاهداً غير الله، ولا مجازياً سواه).
لطخته وكأنها أرادت أن ترسل لنا من- خلف الطين -رسالة مفادها أن
عليكم بالإخلاص في كل أعمالكم وأقوالكم . فالإخلاص وهو قارب النجاة من الغرق في بحر النفاق
والشرك والرياء وحب الظهور وبوار الأعمال نعوذ بالله من ذلك. و لعله الدرس الذي أراد الرسول
صلى الله عليه وسلم من تشبيه المؤمن بالنحلة أن يأخذه عنها و يتعلمه منها.
اللقطة السادسة: –
ويظهر فيها مجموعة الآفات التي تعوق النحل عن العمل والإنتاج والتميز هذه الآفات هي: الظلام
الغيوم الرياح الدخان الماء النار
وكذلك المؤمن له آفات تبعده عن العمل والإنتاج والتميز في حياته منها: –
ظلام الغفلة غيوم الشك رياح الفتنة دخان الحرام ماء السمعة نار الهوى. كما قال ابن الأثير
اللقطة السابعة: –
ويظهر فيها مجتمع النحل وهو لا يستطيع أن يعيش أو ينتج أو يعمل إلا في جماعات. جماعات
يحكمها تنظيم دقيق مبهر. تنظيم تتوزع فيه الاختصاصات المسؤوليات والمهام
في عيش جماعي رائع وتكافل عجيب. فإذا ما انعزلت إحداها عن جماعتها لسبب من الأسباب فإنها
تسارع إلى أن تنضم إلى جماعة أخرى من طبيعتها. إذا قبلتها فنعمت. وإن تموت.لها فإنها
تموت.نعم تموت. تموت ببعدها عن الجماعة. فكأنها تدرك أن (الجماعة رحمة و الفرقة عذاب ).
كأنها تعلم ( أن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار)، و كأنها وعت قول سيدنا على رضي الله
عنه:( كدر الجماعة خير من صفو الفرد). كأنها تريد إن تذكرنا- ونحن في زمن التشرذم- بما جاء
في الصحيحين: «أن مَن فارق الجماعة شبراً فمات، فميتة جاهلية».
اللقطة الثامنة: –
ويظهر فيها إلى حسن استخدام النحل إلى الوقت. فالنحل لديه قدرة فائقة على الاستخدام المزدوج
للوقت. فهو لا يضيع وقته أبدا فيما لا فائدة منه. بل يستغل كل ثانية فيما هو نافع.” فمثلا في
طريقها الذي قد يصل إلى عشرات الكيلو مترات من مكان رحيق الأزهار إلى خلاياها. تجري النحلة
عدة عمليات كيميائية بالغة التعقيد لتحويل الرحيق إلى عسل. ويتم هذا في الطريق ولا تنتظر حتى
تعود. ” ولقد أخذ اليابانيون هذه الفكرة من النحل في مجال الصناعة . فمعروف أن اليابان ليس
عندها مواد أولية. وهم من كبار مصدري الستانلس.هذه المادة تتواجد بوفرشاسعة.تراليا.والمسافة
بين البلدتين شاسعة. فصنع اليابانيون بواخر عملاقة تصل إلى أواخر استراليا. تأخذ المواد الأولية
من هناك. وفي الطريق إلى أسواق الشرق الأوسط يتم تصنيع هذه المواد الأولية في البواخر أثناء
العودة. ثم يتم تسليمها مصنعة جاهزة إلى أسواق المستهلكين في كل مكان. وهذا ما تفعله النحلة.
وهذا ما يجب أن يتحلى به المؤمن الحق. فالوقت سلاح ارتقى من أتقن حسن استغلاله وتعس من
عطله. وتاريخ الأمم خير شاهد: فالأمة التي لا تنشئ أبنائها على كيفية إتقان إدارة الوقت والاستفادة
من كل وحداته أمة مهزومة لا يمكن لها ولا لأبنائها أن يرتقوا أو يتبوؤا منزلة بين العظماء.
وفي النهاية
هذا عرض سريع لعدد من اللقطات السريعة التي سجلها الباحث خلال هذه الرحلة. ولعل الرسول
صلى الله عليه وسلم لما شبه المؤمن الحق بالنحلة كان يدعونا إلى أن نتمثل هذه الصفات واقعا في
حياتنا:
فمن خصائص ملكة النحل أنها ليس لها إبرة تلدغ بها أحد من مملكتها.
أنها تتصف بالعدل والإنصاف بين أعضاء مملكتها.
ملكة النحل لا يسمح لمتطفل ولا لعدو أن ينتهك حرمة بيتها.
ملكة النحل ترعى صغارها وتهتم بهم اهتماما لا حدود له.
إن اتخاذ القرار في عالم النحل عملية تحكمها أرقى درجات الشورى والتشاور.
النحل دائما ما يتنزه عن النجاسات والأقذار.
النحل لا يأكل إلا طيبا.
النحل لا يأكل من كسب غيره.
النحل لا يأكل إلا قدر شبعه.
إذا قل غذاء النحل ( العسل ) قذفه بالماء ليكثر خوفا على نفسه من نفاذه.
النحل لا يشرب من الماء إلا ما كان صافيا عذبا. ويجد في طلبه مهما بعد.
النحل من أصغر المخلوقات حجما وأضعفها بنية إلا أنها الأكثر عطاء وتأثيرا.
بيت النحل تنطبق عليه أرقى المواصفات الهندسية في العمران والبنيان.
النحل يسير في سبيل جمع الرحيق بسرعة 60 كم / ساعة وهو ما يعادل عشرة أمثال سرعة الإنسان.
يعرف عن النحل قلة أآذاه.
يعرف عن النحل النظافة الكاملة والتامة.
النحل يسعى في النهار سعيا لا حدود له.
– 18. النحل يوفر الجهد والوقت على بعضه البعض.
http://www.55a.net/firas/ar_photo/bee/queen.jpg
ملكة النحل ترعى صغارها وتهتم بهم اهتماما لا حدود له.
فإذا ما وقعت نحلة على زهرة وامتصت رحيقها فإنها تترك علامة أن هذه الزهرة مُص رحيقها من
قبل حتى توفر الجهد والعناء على بني جنسها.
إن حشرة بهذه الصفات وهذه القدرات وهذا السمو وهذا الرقي لجديرة بأن يشبه بها المؤمن الحق كما
يريده الله ورسوله.
ولما قال صلى الله عليه وسلم ( كل الذباب في النار إلا النحل ) جاء هذا الكلام.فكما استثنى طياته
بشارة للمسلم الذي تعرف على طبائع هذه الحشرة وتعلم منها وسلك مسلكها أن يحرم جسده على
النار. فكما استثنى رسول الله النحل من بين الذباب من دخول النار. فلعل الله يستثنى المسلم العامل
بهذه الأخلاق السامية وهذه الطبائع وهذه المهارات من بين بقية البشر ويحرم جسده على النار لينعم
بصحبة النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.