وحيداً كان… جائعاً ومتعباً ومغلفاً بالألم والفجيعة.. لا الحقول تنبت سنابلها، ولا الواحات تبسط ظلّها، ولا الكلمات تداوي قروح القيظ… فتح صديد الحنجرة، وصرخ: من يبادل الدمع بأغنية؟.. والقصيدة بحرية!.. والقرنفلة بحب؟!.. تحولت الصرخة إلى حمامة بيضاء.. رفرفت بجناحين من أمل ويقين، وطارت في فضاءات لاحدود لها… لم يكن للأرض جهات أربع، بل جهة واحدة تدعى العشق..
حين أتعبته الصحراء، وحاصره الرمل، خاف على الكلمات أن تجفّ، وعلى الحكايات أن يتآكلها النسيان، وعلى القيثارة أن تشيخ البحة فيها… قال: ثمة سلام في هذا العالم سوف يأتي.. سوف يأتي.
عادت المرفرفة البيضاء.. تحمل قرنفلة كلون ريشها الثلجي.. وهدَلَتْ: وجدت بحراً، وزوارق وغيوماً، وصيادين، وأطفالاً يسبحون بلا ملابس، وعصافير ملونة… فمسح على بشارتها، وهمس: حسناً فعلتِ.. وأطرق يقرأ ملياً أشواك الحصار حوله… ثم رفع مرساة أحلامه، وأعلن: نحن محاصرون هنا، ولا إبل تحملنا لنجتاز الربع الخالي…
رددت الحمامة: اعزف على قيثارتك، وغنّ أشعارك أيها الملك الضليل.. فستسمعك البحار والوديان، وتأتي إليك… الأغنيات العذبة لاتضيع، والكلمات التي تقاتل بسيوف الحياة لاتقتلها انحرافات الأعاصير.. والذاكرة المورقة لاتستسلم للنسيان… ووحدهم الذين يعزفون الحب، ومقاومة التماسيح، ينامون على برّ السلامة..
وصلت الأغنية الى شاطئ بحر.. رقص الموج، وخرجت من اليم حورية لاعنوان لها.. ولم يكن لها أصدقاء سوى النوارس المستوحشة.. والدفاتر المدرسية.. فتحت أحد دفاترها، وكتبت فوقه: سمعت أغنياتك.. وأخشى أنها أغنياتي، وعزف أوتاري.. لكن السامعين قليل..
رتّلي ياصديقتي.. رتّلي، ياشقيقة الروح، أنا أسمعك ياحنونة، مثلما يسمع الرب صلاة المضطهدين باسمه.. مثل أزهار قرنفل، تتشبث بترابها.. مثل عنب لم يُقطف.. مثل عرائش ياسمين تتستر على قمح الجدار.. مثل (ليلك) بنفسجي له رائحة خلاياك.. مثل أمسيات على شرفات دمّر، وقت كنا نستحم تحت ضوء القمر.. ويغمض القمر عينيه حين نشرب كوب الحقيقة..
نسي الرجل أوجاع جسده، وأوجاع روحه مع الحبيبة… حمل قيثارته بعد رقاد.. غسل غبار الصمت عن أوتارها.. واسترجع الأغنيات الخافتة.. وغنى للوطن، وللطفولة، والشمس… ففتح الأفق نوافذ سكونه، وتحول الى ألق مضيء… وأما الريح فقد لبست عباءة الصمت، كي لاتسمع أسطراً ناشدة في الأغنية النقية..
وصلت الأغنية الى شاطئ بحر.. رقص الموج، وخرجت من اليم حورية لاعنوان لها… لم يكن للحورية أصدقاء سوى الموج، ودفترها المدرسي.. فتحت الدفتر، وكتبت فوقه: سمعت أغنيتك.. لست أدري لماذا أشعر برغبة في الكتابة إليك.. ترددت قبل البدء.. ثم داهمتني خيالات أن الأغنية لي.. وأنت تجسّد ما أقوله في أحلامي، وأخشى البوح به… كلماتك كتبتها أنا.. وقيثارتك ربما تكون قيثارتي.. وربما لنا الأنامل ذاتها، فكلانا محاصر.. أنت في صحراء.. وأنا في بحر… قد تظن أني مجنونة، أو معجبة.. ولست هذه ولاتلك.. كل ما يعتريني أنك طيف سرقته العاصفة.. أو ضاع في لجج الوقت.. وها بحة نايك تقول إنك مازلت ابناً للحياة..
غنِّ ياصديقي.. غنِّ.. أنا أسمعك.. عاشقة للقرنفل والياسمين مثلك.. عاشقة لدالية مثمرة وليل حزين.. لغابات من الليلك.. وأراض بكر لها لون السماء.. سيأتيك الغيم.. وتأتيك الأنهار.. ويأتيك الفرح.. وتغمرك الطمأنينة.. ذات
يوم …ذات يوم …..
>>وليد معماري<<
منقول لروعته برأيي