الأعمال الباطلة
الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
قال رحمه الله في تفسير قول الله تعالى:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة هود آية : 15-16]
قد ذُكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعل الناس اليوم ولا يعرفون معناه:
الأول: من ذلك العمل الصالح الذي يفعل كثير من الناس ابتغاء وجه الله، من صدقة وصلة وإحسان إلى الناس، ونحو ذلك، وكذلك ترك ظلم، أو كلام في عرض، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة؛ إنما يريد أن الله يجازيه بحفظ ماله وتنميته، وحفظ أهله وعياله، وإدامة النعمة عليهم ونحو ذلك؛ ولا همة له في طلب الجنة، ولا الهرب من النار. فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب.
وهذا النوع ذكر عن ابن عباس في تفسير الآية، وقد غلط بعض مشائخنا بسبب عبارة في شرح الإقناع، في أول باب النية، لما قسم الإخلاص مراتب، وذكر هذا منها، ظن أنه يسميه إخلاصا مدحا له، وليس كذلك؛ وإنما أراد أنه لا يسمى رياء، وإلا فهو عمل حابط في الآخرة.
والنوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكر مجاهد أن الآية نزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونيته رئاء الناس، لا طلب ثواب الآخرة؛ وهو يُظهِر أنه أراد وجه الله، وإنما صلى، أو صام، أو تصدق، أو طلب العلم، لأجل أن الناس يمدحونه ويُجل في أعينهم، فإن الجاه من أعظم أنواع الدنيا.
ولما ذُكر لمعاوية حديث أبي هريرة، في الثلاثة الذين هم أول من تُسعر بهم النار، وهم: الذي تعلم العلم ليقال عالم حتى قيل، وتصدق ليقال جواد، وجاهد ليقال شجاع؛ بكى معاوية بكاء شديدا، ثم قرأ هذه الآية.
النوع الثالث: أن يعمل الأعمال الصالحة، ومقصده بها مالاً، مثل أن يحج لمال يأخذه لا لله، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذُكر هذا النوع أيضا في تفسير هذه الآية، كما في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة” إلخ.
وكما يتعلم العلم لأجل مدرسة أهله، أو مكسبهم أو رياستهم، أو يقرأ القرآن ويواظب على الصلاة، لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثيرا؛ وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم، لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها، والذين قبلهم عملوا لأجل المدح والجلالة في أعين الناس، ولا يحصل لهم طائل.
والنوع الأول أعقل من هؤلاء كلهم، لأنهم عملوا لله وحده لا شريك له، لكن لم يطلبوا منه الخير العظيم وهو الجنة، ولم يهربوا من الشر العظيم وهو العذاب في الآخرة.
النوع الرابع: أن يعمل الإنسان بطاعة الله، مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفره كفراً يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله وتصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة.
ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم شرك أكبر أو كفر أكبر، يخرجهم عن الإسلام بالكلية، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم؛ فهذا النوع أيضا قد ذكر في الآية عن أنس بن مالك وغيره؛ وكان السلف يخافون منه.
قال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت، لأن الله يقول: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }. فهذا قصد وجه الله والدار الآخرة، لكن فيه من حب الدنيا والرياسة والمال ما حمله على ترك كثير من أمر الله ورسوله، أو أكثره، فصارت الدنيا أكبر قصده.
فلذلك قيل قصد الدنيا، وصار ذلك القليل كأنه لم يكن، كقوله صلى الله عليه وسلم: “صل فإنك لم تصل”.
والأول أطاع الله ابتغاء وجهه، لكن أراد من الله الثواب في الدنيا، وخاف على الحظ والعيال، مثل ما يقول الفسقة، فصح أن يقال: قصد الدنيا. والثاني والثالث واضح.
لكن بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله، طالبا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالا كثيرة أو قليلة قاصدا بها الدنيا، مثل أن يحج فرضه لله، ثم يحج بعده لأجل الدنيا، كما هو الواقع كثيرا.
فالجواب: أن هذا عمل للدنيا والآخرة، ولا ندري ما يفعل الله في خلقه؛ والظاهر: أن الحسنات والسيئات تدافع، وهو لما غلب عليه منهما، وقد قال بعضهم: إن القرآن كثيراً ما يذكر أهل الجنة الخُلَّص، وأهل النار الخُلَّص، ويسكت عن صاحب الشائبتين، وهو هذا وأمثاله، ولهذا خاف السلف من حبوط الأعمال. وأما الفرق بين الحبوط والبطلان، فلا أعلم بينهما فرقا بيّنا، والله أعلم.
نقله لكم:
من الدرر السنية (13/219)