قبل أربعة أشهر من الآن، وبالتحديد في شهر مايو/ أيار أطلق لونيه ثومبسون تحذيرًا مفاده أن الغطاء الثلجي على الكرة الأرضية، وفي المناطق غير القطبية تحديدًا سيأخذ بالتلاشي خلال العشرين سنة القادمة. ويعتبر ثومبسون من أبرز الجيولوجيين في مركز بيرد للأبحاث القطبية التابع لجامعة ولاية أوهايو الأمريكية، وقد بدأ أبحاثه بهذا الخصوص في العام 1977م، بعد أن تعرَّض إلى حادث أثناء تفقُّده للغطاء الثلجي في بيرو، حيث هاجمته صخرة بحجم الحافلة المدرسية بعد انهيارها بسبب ذوبان الثلوج حولها، وقد عاد ثومبسون إلى تلك المنطقة في العام الماضي؛ ليفاجأ بأن الصخرة التي هاجمته ما زالت ملقاة في مكانها، إلا أن الثلج الذي كان يحيط بها قد تآكل مع السنين، وابتعد عنها مسافة كبيرة، مخلفًا وراءه بحيرة ضخمة.
وبالنسبة لعالم ضليع مثل ثومبسون كانت ذكريات الصخرة المأساوية والبحيرة الناجمة عن ذوبان الغطاء الجليدي تشيران إلى نتيجة خطيرة تتعلق بتغير المناخ في تلك البقعة من جبال الأنديز. ويعلِّق ثومبسون في تقريره قائلاً: “إن هذه المنطقة محفورة في الذاكرة وكأنها بيتي، ولا أحتاج إلى كثير جهد لأقنع الآخرين بأن ارتفاع درجات الحرارة على الأرض خلال الخمسين سنة الأخيرة قد أحدث كل هذه التغييرات الماثلة أمامي الآن”.
لماذا بيرو بالتحديد؟
ويُعتبر الغطاء الثلجي في منطقة بيرو أكبر غطاء ثلجي على امتداد خط العرض المار به في الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية؛ لذا كان يمثِّل مركزًا لاهتمام فريق العلماء الذي يرأسه ثومبسون على مدار العقدين الماضيين، ولكنه ليس الغطاء الثلجي الوحيد الذي يتعرَّض لعمليات ذوبان بسبب ارتفاع درجات الحرارة في الكرة الأرضية، بحسب النتائج التي توصَّل إليها ثومبسون وفريقه. بل يمكننا التأكيد على عدم وجود أي تقدم ونمو في معظم الأغطية الجليدية في المدارات القطبية وشبه القطبية. ويؤكد ثومبسون على أن العديد من الجبال الجليدية سوف تذوب وتتلاشى خلال العشرين سنة القادمة.
ومن الأمثلة الدَّالة على هذه النتيجة الجبل الجليدي الأفريقي الذي يدعى كيلمانجارو حيث فقد 82% من مساحات الجليد التي تكسوه منذ عام 1912م ميلادية، ففي تلك السنة كان كيلمانجارو يغطي ما مساحته 12.1 كيلو مترًا مربعًا من الجليد، أما اليوم فلا تتجاوز المساحة الجليدية 2,2 كيلو متر مربعًا. ويتوقع ثومبسون أن الجليد على كيلمانجارو (وهو الجبل الذي كتب عنه إرنست هيمنجواي) سيذوب بالكامل خلال السنوات الخمس عشرة القادمة إذا استمرَّ معدل الذوبان بوضعه الحالي، ولكن المؤسف في الأمر أن معدَّل الذوبان مرشَّح للزيادة، وبالتالي فإن السنوات المتوقعة مرشحة للتقاصر.
ولعلَّ معضلة ذوبان الثلوج التي أشرنا إليها فيما سبق ليست محصورة في المناطق القطبية، بل هي ظاهرة ممتدة في البلاد الأوروبية، وروسيا، ونيوزلندا، والولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها. ووصل الداء إلى آلاسكا وكولومبيا اللتين تعتبران مضرب المثل في الحجم الهائل للأغطية الجليدية، حيث انحسرت تلك الأغطية مسافة 10 كيلومترات خلال القرن الماضي. وفي دراسة لمجموعة من الجيولوجيين في جامعة كولورادو تنبأت بأن الكتلة الجليدية الضخمة للمتنزه الوطني الشهير في مونتانا ستتلاشى بالكامل بحلول العام 2070م ميلادية.
ولعلَّ التفسير الذي يجمع عليه العلماء لظاهرة ارتفاع درجة حرارة الأرض الخطيرة يعود إلى عبث الإنسان نفسه، حيث تسبَّب من خلال صناعاته، ونشاطاته المختلفة في زيادة كميات ثاني أكسيد الكربون، وغيره من غازات البيت الزجاجي الملوثة في الجو.
هيئة حماية الأرض
وأكَّد التقرير الأخير للهيئة الحكومية المتخصصة بدراسة ظاهرة تغير المناخ في العالم، والذي شارك في إعداده مئات العلماء الذين يمثلون أكثر من 100 دولة حول العالم، -أن “ظاهرة ارتفاع درجة الحرارة على الأرض خلال الخمسين سنة الأخيرة هي بالتأكيد ناجمة عن نشاطات بشرية”. وتمَّ إصدار التقرير في يناير/ كانون الثاني من هذا العام، وأضاف أن “درجة حرارة سطح كوكب الأرض ازدادت خلال القرن العشرين بمقدار 0.6 درجة مئوية، وهي مرشحة للزيادة ما بين 1.4 ولغاية 5.8 درجات مئوية بحلول العام 2100م، وهذا المعدل في الزيادة لم يتم تسجيله خلال أكثر من 10000 سنة”. حسب ما ذكر التقرير.
ويعلِّق ثومبسون على التقرير مشيرًا إلى حالة التوازن الطبيعي الذي كانت تشهده الأرض خلال القرون الماضية، وفي جميع القارات باستثناء أستراليا، حيث إن المعادلة الطبيعية تقضي بزيادة الجليد عبر الثلوج الشتوية والأنهار الجليدية المتجمدة، ثم ذوبانها بالمعدل نفسه في أشهر الصيف، ولا شك أن وجود اختلال هنا وهناك بفعل الزلازل والبراكين لم يكن يؤثر إلا في مناطق محدودة لا تذكر، إلا أن الوضع القائم حاليًا يمثل خطرًا ماحقًا، حيث يرتفع معدل الذوبان بطريقة لا يمكن تعويضها طبيعيًّا.
وبناء على ذلك بدأ فريق ثومبسون رسميًّا عام 1978م دراساته على الغطاء الثلجي في بيرو، وهو غطاء رئيسي كما أسلفنا، وقد استخدمت الدراسات صورًا للأقمار الصناعية، بالإضافة إلى مسوح ميدانية، وكان جبل كوري كاليس من أسرع المناطق ذوبانًا وتراجعًا في نسبة الجليد، حيث بلغ معدل تراجعه حوالي 4.9 أمتار في العام، وازداد معدَّل التراجع ما بين عامي 1978م و2000م، حتى وصل إلى 155 مترًا في العام الواحد، أي أكثر من قدم في اليوم، وهو ما يعني أن المعدل تضاعف 32 مرة منذ العام 1978م. ويعلق ثومبسون بحزن: “يمكنك الجلوس هناك ومراقبة ذلك عن كثب”. والأمر نفسه تمَّت ملاحظته عند دراسة الواقع الجليدي لجبل كيلمانجارو صديق هيمنجواى الذي ذكرناه سابقًا.
وقد قام فريق ثومبسون بإجراء اختبار الحفر في الجليد لمسافات تزيد عن 100 متر، وقاموا بوضع علامات على الصخور التي وصلت إليها أجهزتهم، ومع مرور سنوات البحث الطويلة، كانت تلك العلامات تظهر فوق الصخور وفي الهواء الطلق بعد أن يكون الثلج قد تلاشى. وليت الأمر توقف عند حدود جبل كوري كاليس في بيرو، بل إن التجربة تمَّت إعادتها في جنوب أمريكا، والصين، والتبت، وأفريقيا، وكانت النتائج متشابهة. إن التجارب الكثيرة التي أجراها ثومبسون وفريقه أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن درجات الحرارة كانت ثابتة خلال ثمانية آلاف عام على الأقل، وأن الخمسين سنة الأخيرة هي السنوات الأدفأ في تاريخ كوكب الأرض.
ما هي أهمية الجليد؟
ربما يتساءل البعض: هل هناك خطر داهم إذا تلاشى الجليد جميعه عن ظهر البسيطة، وخصوصًا أن لدينا من الثلاجات ما يكفي لصناعة حاجتنا منه، ويمكننا بناء الصالات الجليدية المغلقة لغايات التزلج والتسلية، وما حاجتنا للجليد عدا ذلك؟
وفيما يلي نذكر بعضًا من آثار تلك الظاهرة في عدة مناحي حياتية:
إن زيادة درجة حرارة الأرض بضع درجات مئوية ستحدث تأثيرات عنيفة على عدد كبير من المخلوقات، وهو ما سيؤثر على السلسلة الغذائية المترابطة في الكون، وبالتالي سيؤثر ذلك على الإنسان بالتأكيد. ومثال ذلك تحرك العديد من فصائل الفراشات باتجاه المناطق الشمالية الأبرد، وتفتح كثير من أزهار الأشجار قبل أوانها في الربيع، كلها مؤشرات تطلُّ برأسها منذرة بخطر مستقبلي ماحق.
ولا شك أن تلاشي الجبال الجليدية ذات الجذب السياحي سيؤدي بالتالي إلى مضار اقتصادية للعديد من البلدان التي تعتمد اقتصادياتها على ذلك، وبالتالي ستتزايد الأزمات الاقتصادية في العالم، فضلاً عن الرياضات الشتوية.
وهناك العديد من المولِّدات الكهربائية التي تعتمد على أنهار الجليد الذائب، فإذا تلاشى الجليد لم يَعُد بإمكان تلك المولدات العمل.
كما أن العديد من البلاد تعتمد في ريِّها على ما يذوب من الجبال الجليدية، وبالتالي فإن مصادر ماء الشرب لديها مهددة بذلك.
إن ارتفاع مستوى المياه في المحيطات نتيجة ذوبان الجليد له آثار مدمرة على المستوى الزراعي، والصناعي، وخصوصًا بالنسبة للمناطق القريبة من البحر، ثم إن المستوى بعد ذلك سينخفض لعدم وجود مصادر للماء، ولزوال تأثير جاذبية الجبال الجليدية على البحار.