ينغمس المسمار في جداول الفضة ويصغي إلى انطباعات الصانع ليعيد تشكيلها وصياغتها بلغة معدنية رفيعة تسر الناظرين ، حيث تتجلى عبقرية الصانع وهو يخطُّ الأفكار باليد لا بمفاتيح الآلة … تضع المتلقي أمام جغرافية جمالية تمتاز بلمساتها الخاصة وروح التشكيل الأنيقة والاحترافية ، فالحجر الناعم قد يوحي بالرطوبة والنداوة فيما يشدك الحجر المنقوش إلى لمسه ، وقد يكون الألماس رمزاً للقوة وربما يعود هذا لقسوته وصلابته والهيبة التي ينشرها من حوله … أما الحلي فهي من القطع الفنية التي تزداد قيمتها مع مرور الزمن لأنها تزخر بلمسات غنية تجمع بين ألوان متباعدة أحيانا، ومتقاربة أحيان أخرى ، تسهم في إثارة الدهشة لما تُضفيه من سحر وبريق، لكن القيمة الحقيقية للحلي التقليدية تكمن في تحريرها من تقييمها المادي ، لأنها تمثل أحد روافد الأصالة والعمق التاريخي ” للأمازيغ ” في التراث المغربي ، ولهذا فهي ترتكز أساساً على التقويم المعنوي ، أي القيمة الشكلية والتشكيلية لما تحمله من دلالات ورموز في اللون والشكل ….
” الخميسة ” للمتزوجة
وتُعد “الخميسة” الشكل المتميز والفريد الذي يطبع الحلي وهي على شكل اليد المفتوحة تُعَلَّق في شكل “بروش” للمرأة المتزوجة حديثا وللمولود الجديد للتفاؤل .. كما نجد المرأة الصحراوية الأمازيغية الجميلة تطبع مجوهراتها بأحجار زرقاء ، أما شكل الهلال فله خصوصية إسلامية ، أكثر من هذا نجد بعض الحلي المحشوة بالعنبر تفوح منها رائحة المسك والعود.
هذه بإيجاز خصائص الصناعة التقليدية التي عُرِفَ بها البربر والأمازيغ بجنوب المغرب وبثغور جبال الأطلس الكبير والصغير، والتي يطغى عليها في الغالب هاجس التأصيل وإرادة التميُّز، والتي تترنح بين وعي التراث وطموح الحداثة عبر حفر معرفي فطري يزخر بتقنيات الصّنعة لتدوين الذاكرة الشعبية، لذا تبدو عَصية على المتطفل أو المغامر في محاولة مُقاربتها.
بساطة لم تُصَمم للبيع ، بل هي ذاكرة ملتهبة تتوارثها الأسر
تتمتع الزخارف الأمازيغية بحساسية فطرية عالية تجمع بين حقول تشكيلية مختلفة وأشكال هندسية بديعة بكل ما تجود به الذاكرة الشعبية من وشم ورموز ونجوم يشعر المتأمل لهذه التحف وكأنها شخصيات على وشك الاحتفال بفرح أو عيد ، وهي في مجملها قِطَعٌ ناذرة لن تجد لها نظيرا ، لأنها بكل بساطة لم تُصَمم للبيع ، بل هي ذاكرة ملتهبة تتوارثها الأسر.
إذا كانت الحروف التي اختارها الأمازيغيون لخطهم “تيفناغ” كما يسمونه ، هي كتابة من جسد التشكيل ، فإن النقوش والزخارف والمنمنمات تطغى عليها الأشكال الشرقية والأندلسية ، ومع ذلك تحتفظ لنفسها بسماتها المميزة ، حتى ليعرفها الخبير بها ويميزها من بين الزخارف الأخرى ، وبالرغم من وجود الذهب والماس لا تزال الفضة أثيرة عند الأمازيغ. أما المعادن الأخرى فتدخل في فن ترصيع الأسلحة وجعلها حلية للزينة ولعل أكثرها شهرة الخناجر التي يتباهى بها رؤساء القبائل ، هذه المهنة مازالت عزيزة لا ينقلها الحدادون إلى الآخرين إلا بمقدار، رغبة منهم في الاستقلال بأسلوبهم الخاص رغم التأثيرات الموروثة عن الحضارات الأخرى.
هي صناعات حرفية يدوية لم يصل إليها هدير الآلة، لهذا تبدو المجوهرات كالنساء لكل واحدة شخصيتها الخاصة والمختلفة، صناعات تؤمن بعلم الأحجار وتأثيرها على الإنسان وتخلق بُعْدًا مكانيا فوق جيد المرأة، ولا تبيعها الأحلام الملونة كما تفعل الموضة ، فالموضة زائلة والفن باقٍ .