“قيام الليل” ذاك الكنز المتوفر الذي يغفل الكثير عن اغتنامه، المغتنمون لهذا الكنز لا يخلو وقت من وجودهم فلقد قال سبحانه وتعالى عنهم: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}، وقال رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام: {عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد}.
الفرار في هذا الوقت إلى الله الكريم يعني أن نتعلم كيف نغير ما بأنفسنا حتى يغير الله الكريم أحوالنا لما يحب ويرضي، يعني الطلب الفعلي للثبات على الحق والعطاء في خير والصبر في البلاء والحب والمودة في كل شيء ، فتعاظم الواجبات في ضيق الوقت وعسر الحياة وصعابها يشوقنا إلى وقت قصير نهرب فيها من كل الكبد كي نعود بقوة لمواجهته.
“لها أون لاين“ تحكي في تقريرها تجربة ثلاث سيدات في مرحلة عمرية مختلفة مع قيام الليل.. تابعي معنا:
حنين فتاة في العشرينات من عمرها، في خضم الحياة ومعتركها وجدت وقتا غريبا بجماله وقويا بعطائه وشاملا بملاذه، هو أي ساعة من ساعات الثلث الأخير من الليل.
تقول حنين:”عندما كنت أسمع عن فضل قيام الليل أتطوق شوقا لأكون من أصحاب قيام الليل، لكني عادتي السيئة في النوم كان تصعب عليه حتى مجرد النية بأن أقوم للصلاة ، وكنت أدعو الله الكريم دائما أن أكون من أصحاب قيام الليل ولم أقنط من أنه سيأتي اليوم الذي أعتاد فيه على القيام”
تقول حنين:”بدأت أستيقظ قبل صلاة الفجر بنصف ساعة وتعتمد أن أخر صلاة الوتر حتى يكون لي سببا آخر للقيام، والحمد لله نجحت في ذلك واليوم أحاول أن أفيق قبل ساعة من آذان الفجر فأصلي ما شاء الله من الركعات ثم أقضى الدقائق الأخيرة للسحر في الاستغفار”.
تقول حنين عن هذا الوقت :” وقت غريب وجميل جدا، لا تشعر فيه البتة بالملل أو الضجر من العبادة أو الرغبة في شيء آخر غيرها، تشعر بأنك في جنة ما منفصلة عن العالم حولك وتدعو الله بقلب أصدق ما يكون بين يدي ربه في هذا الوقت “، تضيف :” ليس مهم عدد الركعات ولا كمية الآيات التي تتلو فيها، المهم أن تكون في وقت القيام وبعد قيام فعلي من النوم فهذا ما يجمل قيام الليل، في قيام الليل أدعو الله الكريم بكل شيء من خير الآخرة والدنيا أنه القيام مدرسة الصبر والعطاء والحب وحسن العبادة “.
قيام الليل..مدرسة!!
كانت أم مالك تشكو دائما صعوبة تربية أبنائها الثلاثة وكثرة المسئوليات عليها كعاملة في العمل والمنزل، حتى أنها كانت تري هذا الأمر هو جل المصائب في حياتها إلى أن وجهت إليها صديقة نصيحة بأن تحيي سنة قيام الليل فتدعو الله الكريم فيها بتحسين أحوالها الأسرية.
سبب أم مالك لقيام الليل قد يبدو بسيط لدي البعض لكنه عظيم بسبب ما جر من أسباب ومصاعب آخري لجأت فيها أم مالك إلى الله العظيم كي يعينها على هذه الحياة الصعبة، تقول أم مالك :” الحمد لله الذي أنعم عليه بذلك، فقيام الليل فضل كبير لا يتوقف عند الصلاة بل أن الذكر والدعاء في هذا الوقت له طعم آخر يزيد جمالا إذ شاركني زوجي فيه في الكثير من الأيام ” وتضيف أم مالك :” يقولون بأن الأم مدرسة وأنا أقول كي تكون الأم مدرسة يجب أن تتوجه هذا المقام بقيام الليل لتكون أعظم مدرسة لنفسها وأهلها وزوجها “.
إذا تعجل الصغير عبد الله الصحيان لجوع أو حاجة قبل صلاة الفجر فهو بمثابة المنبه الذي نبه أمه للقيام قبل موعدها المعتاد، تقول أم مالك :” أفيق لإرضاعه ثم أسارع بعد نومه إلى قيام ما تيسر لي وبذلك أصبح موعد قيامي موزع على الثلاث أثلاث الليل “.
عبادة تقاوم مصاعب الحياة
اعتادت الحاجة أم مهدي على فترات متقطعة قيام الليل في منزلها الكائن في مخيم خانيونس جنوب قطاع غزة، لكنها منذ أكثر من عام انتظمت في صلاة القيام، تقول أم مهدي :” لم أكن في دوام على صلاة القيام إلى أن تابعت بشغف القنوات الدينية المتعددة على الفضائيات، وفي أكثر من درس ديني تحدث الدعاة عن فضل القيام و تحبيب النبي صلي الله عليه وسلم لصلاة في هذا الوقت ومنذ ذلك الوقت أحرص بعون الله الكريم على الصلاة القيام في كل ليلة وأسال الله أن يغفر لي تقصيري في السابق على تضيع هذه العبادة الرائعة “.
تقول الحاجة فاطمة :” في ظل أوضاعنا الصعبة لا وسيلة تعين على الصبر والطاعة والأمل والفرج إلا الفرار إلى الله الكريم بالدعاء، عندما أجلس في تلك الساعة أدعو لنفسي وزوجي –رحمه الله – وأبنائي وأحفادي، وأشعر أنه واجب عليه أن أؤديه في هذا الوقت الجميل من الليل فأقرأ السور القصيرة التي أحفظها وأكثر من الاستغفار والذكر إلى حين موعد صلاة الفجر “.
طعم خاص
يؤكد أستاذ العقيدة في كلية أصول الدين في الجامعة الإسلامية د. محمد بخيت على أن قيام الليل من حيثيات رفع القيمة الإيمانية للإنسان فالأصل أن يكون لدى المسلم إقبال بأن يقوم في الليل ركعتين أو أربع ركعات، ويشدد د. بخيت على أن قيام الليل له طعم خاص من الناحية الإيمانية وخاصة أن الإنسان يخلو بنفسه مع الله عز وجل في عبادة خاصة خالصة لوجه الله تعالى حيث يجلس متفكر في هذا الكون وفي مخلوقات الله سبحانه وتعالى.
وفيما يتعلق بالمرأة فيري د. بخيت أن لدي المرأة المسلمة في واقعنا المعاصر ملهيات كثيرة ألهتها عن عبادة قيام الليل فهي في الغالب تتابع الكثير من البرامج والمسلسلات على الفضائيات العربية وهذا له أثر على نفسية المرأة المسلمة وإيمانها فلابد للمرأة المسلمة أن يكون لديها قيام ليلي كل أسبوع على الأقل حتى تقوي إيمانها، وفي معرض رده على سؤال حول آلية الفوز بهذا العبادة قال بخيت :” لابد أن يكون لديها عزيمة في كل شيء، والعزيمة تكون قوية بقوة الإيمان وبالتالي إذا كان لديها العزيمة لقيام الليل لابد أن تنام مبكرا وتكون لديها النية لقيام الليل وأن تخصص ساعة أو نصف الساعة لقيام الليل وأن يكون هناك من يساعدها كالزوج أو الصديقة “.
ويسرد لنا د. بخيت كيف حرص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على قيام الليل حتى تفطر قدماه حيث كانت عائشة رضي الله عليها تقول له يا رسول الله أتفعل هذا وقد غفر ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيرد عليها :” أو لا أكون عبدا شكورا “، وكيف حرصت زوجاته – رضي الله عنهن – على القيام والكثير من الصحابيات والتابعات ومن جاء بعدهن كان لهن أوردة ليلية من القيام ، وأضاف بخيت :” الأصل أن يكون لكل امرأة مسلمة ليلة من كل أسبوع لتقوم بعبادة قيام الليل وهذا يساعدها بأن تتخطى للواقع المرير الذي نعيشه ويخفف من الذنوب والمعاصي ويجعل الإنسان لديه قدرة في مواجهة المحن والصعاب والابتلاءات في حياته “.
الأسباب الميسرة للقيام
ونورد في نهاية التقرير بعض الأسباب الميسِّرة لقيام الليل التي ذكرها أبو حامد الغزالي وقسمها إلى أسباب ظاهرة وأخرى باطنة:
فأما الأسباب الظاهرة فأربعة أمور:
الأول: ألا يكثر الأكل فيكثر الشرب، فيغلبه النوم، ويثقل عليه القيام.
الثاني: ألا يتعب نفسه بالنهار بما لا فائدة فيه.
الثالث: ألا يترك القيلولة بالنهار فإنها تعين على القيام.
الرابع: ألا يرتكب الأوزار بالنهار فيحرم القيام بالليل.
وأما الأسباب الباطنة فأربعة أمور:
الأول: سلامة القلب عن الحقد على المسلمين، وعن البدع وعن فضول الدنيا.
الثاني: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل.
الثالث: أن يعرف فضل قيام الليل.
الرابع: وهو أشرف البواعث: الحب لله، وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناج ربه.