السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مرحبا اخواتي
لسؤال المبدئي الذي نطرحه في تطلعاتنا إلى بعث وإظهار الطب الإسلامي هو: ” هل يكفينا أن نلتحق بالركب الحضاري الغربي في طابعه العلمي والتقني والخلقي لنسير معه ونندمج فيه “.
أم هل للطب الإسلامي خصائص أساسية يجب أن تكون منطلقا لمفهوم الصحة وسياسة الطب “
سنحاول عقد مقارنة مختصرة بين المفاهيم التي أعطيت للصحة وللطب حسب المعتقدات الوجودية في المجتمعات القديمة والحديثة ثم سنتعرض للمبادئ العقيدية والخلقية والمنهجية التي تعطى للطب الإسلامي خصائصه وميزاته.
ا- اختلاف المفاهيم في المجتمعات السالفة والمعاصرة:
غالبا ما ترتبط المفاهيم التي تدور حول الصحة وصناعة الطب بالعقائد الوجودية التي تسود في المجموعات البشرية حسب تطورها العلمي والحضاري والاجتماعي ولذلك رأينا قبل أن نتعرض لخاصية الإسلام كعقيدة وجودية أن نقارن باختصار بين أهم المعتقدات التي سادت في المجتمعات السابقة والمعاصرة والتي تؤثر في مفهوم الصحة من النواحي المنهجية والخلقية والتطبيقية
ا- نرى مثلا أن النظرة البدائية للطب منوطة بالمعتقدات الوثنية التي تجعل الصحة والمرض خاضعين لقوات كونية غريبة أو إلى إلهية متناقضة في الرأي، متضاربة في السلطان وكلها تتدخل في حياة الإنسان لتجعله شقيا أو سعيدا، وصحيحا أو مريضا، مما جعل حرفة التطبيب سواء في مظهر الكهانة والعرافة أو في استعمال السحر أو في المعالجة بالعقاقير النباتية والمعدنية إجراءات تحاول الاتصال بالآلهة أو بالأرواح الكونية لتجلب رضاها وتدفع غضبهما.
2- إلا أن المفاهيم تتطور مع تطور المعرفة لقوانين الكون فتتحرر تدريجيا من شعوذة الكهانة وأساطير الوثنية لتتركز على قوانين الطبيعة التي يخضع لما الإنسان من حيث نشأته وتركيب أعضائه واختلاف أمزجته وتفاعله مع البيئة البشرية والطبيعية.
سنقتصر على ذكر ثلاثة من المراحل العديدة التي مرت بها العلوم الطبية.
2- 1) الطب اليوناني اللاتيني القديم:
مع أنه لم يتخلص تماما من تأثيرات الوثنية كما نجد ذلك في تأليه ” اسكولا بر ولا ” منالنظريات الفلسفية القديمة فإنه وضع للطب مناهج علمية وتجريبية جعلته ينطلق منقاعدة منطقية وتطبيقية بقدر ما توصلت إليه مختلف العلوم الطبيعية كما أن الطب اليوناني أعطى لمهنة الطب ولسياسة الصحة طابعها الخلقي العالي كما سنه أبقراط علىأساس مبادئ الإخلاص في تعاطي المهنة واحترام النفس البشرية ومواساة الضعيف وحفظ سر المريض إلى غير ذلك من آداب الطب التي كثيرا ما اقتبس منها القدماء والمتأخر ون.
2-1) الطب الإسلامي في العصور الوسطى:-
الطب الإسلامي كما تطور في القرون الوسطى ورث العلوم الطبية من اليونان ومن الحضارات القديمة الأخرى ونذكر من خصائصه.
أولأ: أنه حرر نهائيا من مخلفات الوثنية وأساليب السحر والكهانة وسلك طريق البحث والتجربة للتعمق في معرفة الذات الإنسانية في تركيبها ومزاجها وعلاقتها مع البيئة الطبيعية والبشرية وفي معرفة خصائص الأدوية والوسائل العلاجية الأخرى.
ثانيا: أنه أعطى لعلم وصناعة الطب معنى متكاملا سواء في تحديد الأهداف العامة للطب التي تجمع بين الوقاية والعلاج كما نجده مثلا عند ابن سينا في تعريفه للطب ” إن الطب علم يتعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصح ويزول عن الصحة ليحفظ الصحة حاصلة ويستردها زائلة ” القانون ص 3.
أو في ربط الصحة بعوامل البيئة الطبيعية والبشر كما نجده كذلك عند ابن سينا حيث يقول ” الأسباب الفاعلة هي الأسباب المغيرة أو الحافظة لحالات بدن الإنسان من الأهوية وما يتصل بها ومن المطاعم والمياه والمشارب وما يتصلبها والاستفراغ والاحتقان والبلدان والمساكن وما يتصل بها والحركات والسكونات البدنية والنفسانية ومنها النوم واليقظة والاستحالة في الأسنان والاختلاف فيها وفي الأجناس والصناعات والعادات والأشياء الواردة على البدن الإ نساني مماسه له إما غير مخالفة للطبيعة وإما محالفة لها ” القانون ص 4.
ثالثا: أنه أوضح محاور الالتزام الخلقي للطب بربطه بالعقيدة والشريعة وبإعطائه طابعا اجتماعيا متينا يتحقق في التعاضد الاجتماعي وفي انتشار المؤسسات للإغاثة والعناية ومنها المستشفيات التي كانت تستقبل وتعالج المرضى مجانا.
2- 3) الطب الغربي في مرحلته الأولى:
في عهد الحروب الصليبية وفي عصر النهضة الأوروبية ورث الغرب العلوم الإسلامية ومنها الطب إلا أنه حصل ذلك وسط التناقضات العقائدية والاجتماعية التي جمدت العلوم الطبيعية وعرقلت المناهج التجريبية وأعطت للطب مفهوما تقليديا استحوذ عليه رجال الكنيسة وعرقلوا تطوره ففقد مزاياه العلمية والاجتماعية والوقائية. ومهما كانت اكتشافات التي يدعيها ذلك العصر والتي لم تكن في الحقيقة إلا اكتشاف ما اكتشفه الإسلاميون من قبل فإن الخمول كان سائدا إلى أن تغيرت الأوضاع الحضارية والمناهج الفكرية في العصر الصناعي الحديث.
2- 4) الطب العربي في العصر الحديث
:
تطورت العلوم الطبية مع مفهوم الصحة وسياسة الطب بفعل التغيرات الحضارية السياسية التي مرت عليها المجتمعات الغربية ومن أهم تلك التغيرات:
– اكتشافات الهائلة في ميادين العلوم الطبيعية والتقنية.
– التحول الجذري لمفهوم الوجود البشري حيث سيطرت عليه الفلسفات المادية.
– تغير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وما يتبع ذلك من نظم سياسية مختلفة.
وإذا كانت العلوم القطبية في طابعها العلمي والتقني والتجريبي لا تكاد تختلف مع اختلاف المجتمعين اللبرالي والاشتراكي فإن هنالك تباعدا من ناحيتي السياسة والتطبيق ما بين المجتمع اللبرالي الذي يحامي عن حريات ومكاسب وطموح الأفراد والمجتمع الاشتراكي الذي يعتبر المصلحة العامة وموجبات النظام الاقتصادي المشروع قبل المصلحة وشهوات الأفراد.
فنرى الطب في المجتمع الغربي الرأسمالي تتغلب فيه المبادرات الفردية والمؤسسات الخاصة وتعتبر الصحة من حقوق الفرد في طموحاته للراحة الجسمية والسعادة النفسانية والرفاهية المادية.
بينما في المجتمع الاشتراكي تعكس سياسة الطب اعتناء المجتمع ككل بصحة المواطنين لا من حيث طموحاتهم واختياراتهم الفردية ولكن من حيث إنهم يكونون القوة العاملة والمنتجة للاقتصاد. والمقابل لهذا الاعتبار هو أن المجتمع بواسطة النظام الصحي هو الذي يتحمل تماما تكاليف الخدمات الصحية.
ملاحظة: إن هذا التمييز العام بين سياسات الصحة لا ينفي تداخلات كثيرة حسب التقارب أو التباعد في الاختيارات السياسية. ولقد حاولت المنظمة العالمية للصحة أن تعطي للصحة تعريفا يؤلف بين المفاهيم المتقابلة في قولها.
” إن الصحة لا تعني فقط عدم المرض ولكنها تعني كذلك الراحة التامة الجسمية والنفسية والاجتماعية “
ولربما يحمل هذا التعريف سوء تفاهم في معاني الألفاظ فالراحة أو الصحة الاجتماعية تعني عند البعض تلاؤم الفرد مع بيئته الاجتماعية وتعني عند البعض الآخر صحة المجتمع ككل وقد يدعو هذا التعريف إلى جدال نظري طويل لا حاجة لنا فيه.
والجدال الحقيقي هوانه إذا اقتنعنا بأن العلوم الطبية في كلا المجتمعين أحرزتا من تقدم هائل في معرفة الإنسان وفي وسائل الوقاية والعناية الصحية ومعالجة الأمراض والإصابات فإن ذلك التقدم تحقق في بيئة إنسانية متناقضة طغت فيها دوافع المادة والشهوات وحب الذات وجار الإنسان عن البيثة الطبيعية والبشرية وأكثر فيها الفساد وانحرف عن القيم الخلقية والروحية السامية فوجد نفسه يتساءل ويسأل أكثر من ذي قبل عن الصحة وعن السعادة.
– آفاق إسلامية لمفهوم وسياسة الصحة:-
تسوقنا المقارنة السابقة بين المفاهيم المختلفة إلى الفقرة الثانية من السؤال الذي
طرحناه في المقدمة “
هل هنالك مفهوم للصحة يتميز به الإسلام كعقيدة منزلة؟،
حقا لم ينزل القرآن ليعلم الناس كيف يتداوون ولم يكن رسول الله عرافا ولا كاهنا ولا طبيبا يحترف المعالجة أو يعلمها للناس إلا أننا نجد في القرآن الكريم وفي السنة أن في الإسلام كعقيدة وشريعة وقبل أن يكون حضارة وثقافة مفاهيم وجودية شاملة لكيان ومكانة الإنسان في الأرض ولوظيفته ومصيره في الكون تعطي للصحة معنى في نفوس الوقت عميقا ومتكاملا، قليلا ما تمسك به الأطباء حتى الإسلاميون منهم وهذا ما سنحاول توضيحه فيما يلي:-
انطلاقا من المبادئ العقائدية التي تميز بين المجتمعات وتعطي للصحة في مفهومها الجوهري وفي مناهجها العلمية أبعادا مختلفة حيث يمكننا أن نستفسر عن أصول العقيدة الإسلامية لنستخلص منها الخصائص والمميزات التي يعطيها الإسلام لمفهوم الصحة وسياسة الطب.
ا- الأصول العقيدية العامة التي تتركز عليها فلسفة الطب الإسلامي تشمل أربعة أبعاد وجودية:
أولأ: البعد البشري الذي يعتبر الإنسان كمخلوق حي مفضل في سلم المخلوقات( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) (17/ 70). خلقه الله من المواد الأرضية في البيئة الطبيعية التي سخرها له فإنا خلقناكم من تراب، (22/ 5) ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، (5 1/ 26) وهو الذي خلق من الماء بشرا 9 (25/ 54) 1 والله أنبتكم من الأرض نباتا (71/ 17). وأتقن خلقه لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم 9 (95/ 4).
ثانيا: البعد العقلي الذي ارتقى به الإنسان وساد على الأرض ويتمثل في القدرة الفكرية لاكتساب العلم الذي يجمع بين المعرفة لقوانين الكون والطبيعة والإبداع في كشف وتسخير الطاقات الطبيعية علم الإنسان ما لم يعلم، (96/ 5) (خلق الإنسان، علمه البيان) (55/ 3- 4).
ثالثا: البعد الذي يتعلق بالبيئة البشرية والطبيعية في الروابط الحيوية المتبادلة بين الإنسان والبيئة الاجتماعية وبين الإنسان والبيئة الطبيعية بما فيها من كائنات حية وبما فيها من جماد مسخر للحياة وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ( وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبأ وصهرا) (5 2/ 4 5)
(وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) (49/ 13).
رابعا: البعد الروحي الذي كرمه الله وفضله به فنفخ فيه الروح الإلهية (ثم سواه ونفخ فيه من
روحه (32/ 9)
. ووضع فيه أمانة الإيمان وكلفه بالعبادة والخلافة الأرضية (إني جاعل في الأرض خليفة) (2/ 30)(1 وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (51/ 56)
2- المبادىء الخلقية المستخلصة من الأصول العقيدية:
المبدأ الأول: يتعلق بالبعد البشري ويحكم بقداسة النفس البشرية وباحترام الحياة ما دامت ممتثلة لقانون الوجود والتواجد….. (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، (6/ 151). (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا (5/ 32).
وفي هذا البعد يدخل مفهوم الصحة الجسمية ووجوب المحافظة عليها والاعتناء بها. ولهذا النوع من الصحة تشير الآيات القرآنية الكثيرة:-
– اما لحفظها يتجنب كل ما يضر بها أو يؤذيها:
*( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) (7/ 157)
* (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) (16/ 115).
*( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (2/ 195).
– واما للعطف عليها ومواساتها في حالة فقدانها:
*( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) (9/ 91).
*( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) (48/17)- واما لاسترجاعها بوسائل العلاج كما نجده في خاصية عسل النحل:
(يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس) (16/ 69).
المبدأ الثاني: يتعلق بالبعد العقلي الذي ينفصل في مفهوم الصحة عن سلامة الجسم ويشمل هذا البعد: الصحة النفسية وهي سلامة العقل من حيث إنه وظيفة حياتيه.
وصحة العقل من حيث إنه مفسر المعرفة أي العلم الذي يعطي للإنسان فضيلته ومكانته وإمكانياته الفكرية والعملية والروحية. بهذا النوع من التكامل يصف الله طالوت (وزاده بسطة في العلم والجسم 9) (2/ 247).
كما أن القيمة الحقيقية التي تفضل الناس بعضهم على بعض تكمن في درجة العقل (نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم) (2 1/ 76) (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (39/ 9). (إنما يخشى الله من عباده العلماء)
المبدأ الثالث: يتعلق بالروابط الحيوية التي تجمع بين الفرد والمجتمع وبين الفرد والبيئة الطبيعية حيث إن الإنسان يعيش في المجتمع البشري كما يعيش العضو في الجسم ولا يصح البعض إلا بصحة الكل كما أن الكل يمرض بمرض البعض.
يؤكد القرآن الكريم وحدة الجنس البشري ولا سيما داخل الأمة الملتزمة بالإيمان التي يأمرها بما يضمن لها صحتها وقوتها وتلاؤمها ومن ذلك نذكر- الأخلاق الفردية الأساسية على المستوى النفسي كالصدق والصبر والمرحمة وعلى المستوى العقلي كالعلم والحكمة:-
*( وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) (90/ 17).
*( وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)(103/ 3).
– المعاملات والأخلاق الاجتماعية التي تربط بين الأفراد كأسر أو كشعوب أو كأمة والتي تتأسس على مبادى الأخوة والمودة المتبادلة والتراحم والتعاون والعدالة.
– مكافحة الآفات الاجتماعية التي تؤذي في نفس الوقت صحة الفرد وصحة المجتمع كالخمر والميسر والزنى والتعدي على الحرمات والممتلكات والأنفس.
“أ ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن” (6/ 151).
( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) (5/ 91).
( ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا) (17/ 32).
” ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)
( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق (6/ 151).
ولقد عبر الحديث النبوي عن الصحة الاجتماعية باستعارة صورة طبية رائعة ” إن المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ” أما البيئة الطبيعية فإن صحة الإنسان ترتبط فيها بكل مكوناتها من حيوان ونبات وماء ومعدن وهواء وطاقات. ويشير القرآن الكريم إلى العلاقة الحيوية بين الإنسان والطبيعة المسخرة له.
*( وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض) (45/ 13).
*(وسخر لكم الأنهار) (14/ 32).
*( وهو الذي سخر البحر لتكلوا منه لحما طريا) (16/ 14).
*( الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره) (45/ 12).
كما يستنكر الأعمال البشرية التي تفسد نظامها وانسجامها:
*( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون، (30/ 41).
*( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض) (23/ 71).
*( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) 7/ 85).
المبدأ الرابع: يتعلق بالبعد الروحي الذي تتحقق به وتتسم به وظيفة الإنسان الوجودية. والصحة لا تعتبر كاملة إذا فقدت بعدها الروحي والخلقي مهما جمعت من محاسن الجسم والبيان كما جاء في صفة المنافقين.
*( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة)
(63 لم 4).
بل يذهب القرآن إلى أبعد من ذلك في استعمال العبارات التي تصف أحوال الصحة العضوية ليطبقها على صحة الفكر وسلامة العقيدة فيقول في حالة فقدانها:
*( وعلى سمعهم وعاء أبصارهم غشاوة) (2/ 7).
*( والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر) (41 لم 44).
*( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) (2 لم 10).
وتصف هذه الصورة ضلالة الوعي وانحراف العقل عن الحقيقة فيتزحزح عن قاعدة الإيمان المتينة ويتحرج بفقدان توازنه الوجودي
.
*( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء، (6/ 125).
وبنفس الاستعارة تعبر الآيات القرآنية عن وسائل الشفاء.
( فكثسفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد، (50/ 22).
*(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) (17 لم 82).
*( قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور) (1/ 57)
*( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) (41 لم 44).
بهذا البعد الروحي يكمل المعنى الذي يمكن أن نعطيه للصحة في مفهومها الإسلامي الشامل .
3- المبادئ المنهجية لسياسة الطب:
نظرا لما سبق من تحاليل للمبادئ العقيدية والخلقية لمفهوم الصحة نتوصل إلى عرض سريع للمبادئ المنهجية التي يمكن أن تدرس وتعمق لتكون أساسا عمليآ لوضع خطة أصيلة لسياسة الطب الإسلامي.
ا- تتركز صحة الجسم في بعديها العضوي والنفسي على المنهج العلمي التجريبي من حيث ” معرفة أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصح ويزول عن الصحة ليحفظ الصحة حاصلة ويستردها زائلة ” (ابن سينا) ومن حيث ” معرفة الأسباب الفاعلة وهي الأسباب المغيرة أو الحافظة لبدن الإنسان ” (ابن سينا) ومن حيث معرفة واستعمال الوسائل المختلفة للعلاج والوقاية ورعاية الصحة.
والمنهج العلمي التجريبي ليس فقط ما يقتضيه العقل والمنطق وإنما تدعو إليه العقيدة الإسلامية التي تأمر بالتعمق والتدبر في معرفة الكون والطبيعة والإنسان.
2- الترابط اللتين بين صحة الإنسان وكيفيات البيئة البشرية وفي معاملة البيئة الطبيعية حتى تكون ملائمة لصحة الإنسان الجسمية والعقلية.
3- المبادىء العقيدية الأساسية تفرض امتداد الاعتناء بالصحة إلى أبعادها الخلقية والاجتماعية والروحية وذلك ليس فقط بتعليم الإنسان وتكوينه المهني ولكن كذلك بتربيته النفسية والثقافية والخلقية التي تجعله واعيا وملتزما بمسئوليته الوجودية وأمانته الكونية.
4- إن المشاكل المنهجية والخلقية العديدة التي تطرح اليوم على المجتمعات المعاصرة (كتحديد النسل- الإجهاض- والتبني- والعلاقات الجنسية- والخمور- والعقاقير- والعنف الاجتماعي- وحالة الشيوخ والعجزة- والتجارب البيولوجية- ومصادمة الموت) لا تجد حلولا ناجحة إلا بالرجوع السليم بين طموحات الفرد للسعادة الدنيوية التي تتغلب فيها دوافع الشهوات المادية وبين الوازع الخلقي والروحي الذي يراعي المصلحة الاجتماعية العامة على ضوء الإيمان بالله وبمصير الإنسان.
الخلاصة المستخلصة:-
تلك بعض المميزات العقيدية والخلقية والمنهجية لمفهوم وسياسة الصحة في الإسلام كما رأيناها في تفوقها على المفاهيم المعتادة في عالمنا اليوم إن الطب المعاصر مهما بلغ من التقدم العلمي والعملي ومهما أنجز من وسائل هائلة في ميادين البحث والوقاية والعلاج ومهما أحرز من نتائج باهرة في ميدان الرعاية الصحية فإنه لم يضمن للإنسان الراحة النفسية والفكرية التي لا زال يبحث عنها بين موجات الأثير وأمواج البشر وإن الطب المعاصر يشكو من نقائض خطيرة في المفاهيم وفي السياسة وفي المناهج كما تحكم عنه شهادات أكبر الاختصاصيين في الطب والاجتماع بينما نجد الإسلام طبقا لمبادئه العقيدية يعطى للإنسان ولصحة الإنسان معنى أشمل وأوسع وأعمق من المفاهيم التي سادت أو تسود في المجتمعات السالفة والمعاصرة. ويضيء للعلوم الطبية ولسياسة الصحة آفاقا خلقية وعملية على قدر ما يطمح إليه الإنسان في هذا العصر،.
دمتن بصحة وعافية