السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اخواتي حبيت انزل هالقصه لانها اعجبتني كثيير واتمنى تعجبكم للكاتب انا راااحل
وللامـــــــــــــــــــــــــــــانه القصه منقوووووووووووووووووووووووله
اتترككم مع القصه
*****************************************
بلا اتجاه
للكاتب: أنا راحل
حرك الرماد المتخلف من رسائلها المحترقة بعود صغير، فانقلبت ورقة لم تحترق بالكامل، استطاع أن يلمح فيها عبارة ( فتنطلق روحانا إلى أبواب السماء)، نخسها بعوده ليعيدها إلى الجذوة الراقصة ويراقب حروفها وهي تتلوى وتذوي.
عندما احترقت آخر ورقة، رفع عينيه إلى الأفق أمامه وجعل يرقب خط التقاء السماء القاتمة مع الكثبان الرمادية، ولسعه الهواء البارد الذي يهب بعنف حاملا ً ذرات الرمل، منذرا ً بعاصفة مطيرة.
نهض ومشى متثاقلا ً تغوص قدماه في رمال النقرة التي أودع باطنها حبه، دفن هنا أجمل أيامه وولى، حرق هنا كل ما يذكره بها، رسائلها، خصلة شعرها، الكرت المزخرف المعطر، القلم الجاف الذي نقش عليه الحرفان الأولان من اسميهما.
ركب سيارته وانصفق الباب بدفع الريح التي بدت بدورها وكأنها تصفعه وتصفع سيارته بالرمل، قبع في الدفء خلف الزجاج يرقب هياج الريح خارجه ويسمع أنينها، ورأى من مكانه بقايا الرماد الذي خلفه والرياح تحمله لتذروه في مكان بعيد.
بدأت قطرات المطر تشارك الرمل في صفع زجاجه، تساءل بحزن ما هذا أيتها الريح ألا يكفي أنك ِ أدمعت ِ عيني بذرات الرمل حتى تبصقي علي الآن، طفر الدمع من عينيه فلم يمنعه تركه ينزلق على خديه، ليتخلل منابت لحية لم يحلقها منذ أسبوع.
وهناك، بين كثبان رملية ضخمة ترقد شمال الرياض، ووسط وادي قفر لم يذق رائحة المطر منذ سنين، وتحت زخات مطر مدرار، نسي حلفه بأن لا يبكيها، نسي رجولته الوليدة، نسي كبريائه وأنفته، وانطوى في مقعد سيارته الضيق ضاما ً رجليه إلى صدره كجنين خرج من بطن أمه قبل أوانه، وترك عينيه وأنفه تجودان بمائهما كما جادت السماء في ذلك اليوم المدلهم من حياته.
* * *
لو تركنا حمد قليلا ً لنفسه، ورجعنا بالزمن لنفهم ما الذي حدث، وما الذي جعل شخص ذو شخصية لاذعة ومحببة، وقدرات رائعة، يتحول إلى هذا الإنسان فاقد الحيلة الذي يلجأ إلى بطن وادي قحل يبثه همومه وشجونه ويبكي فيه بكاء كبكاء المسجون بذنب غيره، بكاء كله حرقة وعدم فهم لما حل به، فحمد لو رجعنا له قليلا ً لرأيناه يبكي ويكلم نفسه كأنه يحاول أن يشرح لها أسبابا ً لبكائه لم تفهمها، حتى تعينه في الضغط على الغدد الدمعية لتسخو بكل ما عندها وبكل ما احتبسته منذ خط شاربه.
سنتركه الآن، ونعود بالذاكرة إلى اليوم الذي تعرف فيه حمد إلى منتدى (( أقلام بلا اتجاه )) كأفضل بداية لسرد حكايتنا.
الفصل الأول
كان أحد أصدقائه والذي يشاركه كثيرا ً من الإهتمامات قد أخبره عن هذا المنتدى، كانا جالسين في بهو الجامعة المسقوف بالزجاج والصلب، والذي يحلو لهما الجلوس فيه مستمتعين بفساحته وارتفاع سقفه والهدوء الذي يغلف جوه، يتناولان من البوفيه الصغير شيئا ً يسكن جوعهما ويرتشفان شايا ً يحبه هو خفيف السكر فيما يحبه مروان (صديقه) حلوا ً كالدبس.
قال مروان وهو يلوك قضمة من (الكلوب ساندويش):
– وش أخبار منتداكم؟
– ممل… ياخي أحس الأعضاء اللي فيه ميتين، والكتابة في واد وهم في واد، والله إني أتعب أكتب قصة أو موضوع وأنزلها منسقة ومن أبدع ما يمكن وفي النهاية ما يرد علي إلا اثنين، واحد يقول مشكور والثاني يقول الخط ما هو واضح.
تراجع مروان بعنف للخلف ورفع رأسه ليطلق ضحكة من سقف حلقه كعادته، تاركا ً جسده الملئ يهتز، في مشهد جذب ابتسامات الجلوس حولهم، والحرج إلى حمد، فقال وهو يخفض رأسه ويقترب من مروان:
– مروان… قصر صوتك، فضحتنا.
– هههههه، حسن خطك؟ هذا أكيد مدرس الخط ( حسان توفيقي) اللي كان متقعد لنا في الإبتدائي- الله يكرهه- لاحقك إلى المنتدى.
– استغفر الله، ما تخلي الناس من شرك.
قالها حمد وهو يضحك ضحكة مجاملة، فيما استمر مروان في سيرة (حسان توفيقي):
– تذكر يوم يوقفنا……
– أقول بلا سواليف ذكريات، بلا هم، والله يا أنت رايق.
– الله… الله، وراك معصب؟ كل هذا عشان حسن خطك؟ يا خي لو أنك سامع كلام حسان توفيقي من زمان كان ماتفشلت في هالمنتدى.
وعندما رأى تشاغل حمد في تقليب كتاب بين يديه، هز رأسه وعاد إلى ما بين يديه، وحالما انتهى من الساندويش مسح يديه بمنديل يزينه شعار لشركة تغذية قبل أن يكوره ويحاول التصويب على سلة المهملات التي تبعد عنهم بضعة أمتار، ولكنه أخطاها وتدحرج المنديل بعيدا ً فعض شفته السفلى وتناول كوب الشاي وهو يقول:
– طيب… غير المنتدى، ما كثر الله إلا هالمنتديات، فيه منتدى سجلت فيه قبل فترة وأظن أنه بيعجبك، عندهم منتدى قصص وخواطر جميل جدا ً، ويكتب فيه مجموعة كتاب ممتازين، وكتاباتهم راقية ورايقة، وبعدين منتدى فعال، يعني تنزل موضوع تجي بكرة تلاقي الردود عشرين.
– والله حلو… ايش اسمه؟
– منتدى ( أقلام بلا اتجاه).
– أقلام بلا اتجاه… غريبة ما سمعت عنه؟ طيب أرسل لي اللنك حقه، وبشوفه لو عجبني سجلت فيه وتركت منتدى أي كلام هذا.
– صدقني بيعجبك، فيه كاتب رهيب جدا ً اسمه (النورس) يكتب رواية اسمها (بروق على ساحل الحب) وصل فيها حتى الآن الفصل التاسع، وفيه ( بنت فاضل) كتبت رواية حلوة خلصتها الشهر اللي فات، الظاهر كان اسمها ( بقايا حب أعجمي) أو ( ويبقى حب أعجمي)، وفيه أحسن واحد طبعا ً اللي هو أنا، مسمي نفسي ( قلم بلا غطاء).
– ههههههههه، قلم بلا غطاء؟ والله يا عندك ذوق في الأسماء… قلم بلا غطاء… أممممم، طيب ليش ما يصير قلم أخضر بلا غطاء، لا… لا… قلم أخضر جاف بلا غطاء ويقطع… لا… لا… قلم أخضر وغطاه أزرق ويقطع… هاهاه.
– يا مصلك، أجل أسمي نفسي مثلك ( على تخوم القبيلة).
ثم اتخذ مروان هيئة مدرسي اللغة العربية عندما يتحمسون في الشرح، وقال بلهجة تهكمية:
– على حرف جار لما بعده، تخوم جمع تخم وهو شدة الشبع تقول انتخمت أي امتلى بطني وذلك في حق من يأكل بأصابعه الخمسة، أما من يأكل بملعقة فهو ينتفخ والإنتفاخ ليس هذا مجال تفصيله، القبيلة هي مجموعة من الناس لهم شيخ يسمى شيخ القبيلة.
كان حمد يحاول كتم ضحكاته ويغالبها ليقول لمروان:
– اسكت يا جاهل… الله يغربل شيطانك، ههههههه… ياخي ألف مرة قلت لك (تخوم القبيلة) هذا واحد ثاني، أنا أكتب بيوزر أنت ما تعرفه.
– علينا… أعرف أسلوبك يا حبيبي، لو يكتب في الموقع مليون واحد أقدر أطلعك من بينهم، قال تخوم قال، المهم سجل لك بإسم زين في الموقع لا تفشلني قدامهم.
– هههههههههه… اللي يسمعك يقول الموقع موقعك، مالك إلا يومين مسجل عندهم وسويت كذا، أجل وش بتسوي إذا تميت ثلاث سنوات.
– المهم… الموقع وبرسل لك اللنك حقه، وخلنا نشوف المشاركات العدلة، مهوب تفشلني قدامهم تراني بحسبة كفيلك.
ثم نهض وطوح بالكأس الورقي إلى السلة ولم يخطأها هذه المرة، ولحقه حمد وهو يجذب كتبه من على الطاولة، وغادرا البهو ليعودا إلى الكلية.
* * *
عندما فتح بريده الإلكتروني من الغد كان مروان قد وفى بوعده وأرسل الرابط، كان الوقت حينها يقترب من منتصف الليل، وهو قابع في الظلام في غرفته الصغيرة التي ينفرد فيها لوحده، فيما يتقاسم أخوته الباقون الغرف كل اثنان في غرفة.
كان يحب ولوج النت ليلا ً، عندما يعود إلى البيت من عند أصدقائه، يطفىء النور ويشعل جهازه، وينفق ساعة يوميا ً موزعة بين تفقد البريد والمسينجر والمنتدى الأدبي الذي يكتب فيه بمعرف ( على تخوم القبيلة)، كان المنتدى يهتم بالشئون الأدبية ويضم مجموعة من كتاب القصة الشعبية والخواطر من الجنسين.
ولكن المنتدى افتقد للحماس مؤخرا ً، وغابت عنه كثير من الأقلام التي كان يحترمها، وأصبح يكتب فيه لمجرد الكتابة، ولذلك عندما أخبره مروان عن هذا المنتدى النشط فرح كثيرا ً وقرر زيارته والفرجة على موضوعاته.
عندما ضغط على الرابط، انتظر قليلا ً حتى بدأت الصفحة البيضاء تتلون بلون أزرق هادئ، كان تصميم المنتدى هادئ وجميل وينم عن ذوق عالي، كان مجمل الألوان فيه تتراوح بين اللونين الأبيض والأزرق وبينهما درجات الأزرق، وفي واجهة المنتدى كان يبدو اسم الموقع على شكل شراع لمركب صغير يبدو تائها ً في عرض البحر، وفوق قائمة المنتديات كان هناك شريط صغير يعرض آخر الموضوعات، جذب انتباهه عبارة صغيرة فوق الشريط، قرأها بصوت هامس ( أيها الداخلون هنا، دعوا لنا بعضا ً من حكاياكم، أليست حيواتنا حكايات يرددها الآخرون)، أعجبته العبارة وفهم مغزاها، تساءل عن كنه كاتبها؟
تجاوز العبارة ونزل إلى مجموعة المنتديات، وبلا تردد نقر على منتدى القصص والروايات، وجعل يجيل طرفه بين أسماء القصص، عرف عناوين بعضها منقولا ً من منتديات أخرى، فتح في صفحة أخرى قصة ( بروق على ساحل الحب) التي أخبره مروان عنها، وأيضا ً قصة ( بقايا حب أعجمي) التي هاله تجواز عدد قرائها العشرون ألفا ً، وجذبه عنوان قصة وعدد قرائها المرتفع لكاتب يدعى (قلم بلا اتجاه) كان عنوانها ( صفحات حب تذروها الرياح)، فتحها ليجد تحت اسم الكاتب وصورته التي تمثل مركبا ً في عرض البحر وصف (مشرف منتدى القصص والروايات)، انتبه إلى أن الصورة التي تمثل الكاتب هي نفس الصورة التي تتصدر الموقع، تساءل هل هذا هو صاحب الموقع؟
اكتفى بالقصص الثلاث التي فتحها، انتظر دقائق حتى يكتمل التحميل قطع بعدها الإتصال، نظر للساعة كانت تقترب من الواحدة بعد منتصف الليل، قاوم الرغبة الشديدة التي تنازعه للإطلاع على القصص، مذكرا ً نفسه بأن ورائه يوما ً جامعيا ً طويلا ً، أدخرها للغد، وقام بإقفال الجهاز بعدما حفظها على سطح المكتب.
* * *
مر اليوم مرهقا ً له متنقلا ً ما بين القاعات والمدرجات، ملاحقا ً المحاضرات والدكاترة، وعندما عاد إلى البيت كان التعب قد أنهكه، فآوى للفراش بعدما قبل رأس أمه حتى تكف عن إلحاحها على أن يتغدى قبل أن ينام وداعب رأس أخته الصغيرة.
استيقظ عصرا ً، كانت صلاة العصر قد قضيت، استغفر الله على تفريطه وتوضأ وصلى في غرفته ثم ذهب يبحث عن ما يسد جوعه، وبعدما شبع حمل كأسا ً من الشاي وعاد إلى غرفته.
وقف في المنتصف بين رواية ( بيروت.. بيروت) لصنع الله إبراهيم التي تستقر على حافة الكوميدنو وجهازه، ارتشف جرعة علها تساعده على اتخاذ قرار بين إكمال الرواية أو الإطلاع على القصص الثلاث اللواتي حفظهن في الليلة الفائتة، ثم حسم قراره وفتح الجهاز.
بدأ براوية ( بقايا حب أعجمي) فمروان أخبره بالأمس أن كاتبتها قد ختمتها، بدأ بقراءتها لم تعجبه في البدء لغتها المغرقة في العامية والتي غابت عنه بعض ألفاظها، ولكنه بدأ يعجب بشخصية البطلة، ويتابع القصة وأحداثها التي تدور وتدور، ولذلك لم ينتبه إلى وآذان المغرب يخترق الأجواء.
كان قد تبقى من الرواية فصلان، فأتمهما بعد الصلاة، كانت الرواية جيدة إلى حد ما، عابها تكرار الفكرة واللغة المفرطة في العامية، ارتدى ملابس الخروج، ونزل إلى الطابق الأرضي حيث كان أخوته الصغار يستلقون أمام التلفاز، حمل أخته الصغيرة ( لمى) بين ذراعيه وطوح بها إلى السقف وعاد يتلقاها ويطوح بها مرة أخرى وهي تضحك وتصرخ ( اتلكني… ماما… سوفي حمد)، كانت هي آخر العنقود، فيما كان هو البكر وجاءت بعده بسنتين أخته ( هيلة) ثم ( عبير) ثم ( سعد) وأخيرا ً الدلوعة ( لمى).
خرج من المنزل ليستقل سيارته (الشيروكي) والتي اختارها خصيصا ً لحبه للرحلات البرية، ففي أيام الأمطار والأجواء الربيعية يخرج إلى أطراف مدينة الرياض مع أصدقائه وأحيانا ً يقضون الليل في مخيم صغير يقيمونه هنا أو هناك.
وقت حمد موزع بين دراسته وهواياته، فبالإضافة إلى هواية التخييم والنزهات البرية، يعتبر حمد بين أقرانه وأصدقائه مرجعا ً في شئون الأدب العربي والعالمي، فهو يقرأ وبنهم الكثير من نتاج الأدب العربي ما بين شعر وقصص وروايات، وأيضا ً يتابع بشغف الأدب العالمي وخصوصا ً أدب أمريكا الجنوبية وأعمال ماركيز وجورج أمادو وإيزابيل الليندي، وكنتيجة طبيعية لمن يجمع بين شاعرية الصحراء تحت هبات الربيع والإطلاع على المؤلفات الجميلة الثرة لكبار الكتاب، بدأ حمد يكتب بلغة جميلة شعرية مجموعة من القصص القصيرة والمحاولات الكتابية التي نالت الإستحسان من أصدقائه.
* * *
عاد ليلا ً كعادته إلى البيت الذي نام كل من فيه، كان قد بقي على موعد نومه قرابة الساعة والنصف، فصنع له كوبا ً من عصير البرتقال، وتناول جهاز التحكم ليتنقل بين القنوات قليلا ً وعندما لم يجد شيئا ً يروق له أطفأ التلفاز وانتقل إلى الكمبيوتر.
كان قد تبقى له قصتان ( بروق على ساحل الحب) و (صفحات حب تذروها الرياح)، فكر لحظات ثم قر قراره على ادخار قصة مشرف المنتدى التي يتوقع أن تكون دسمة للنهاية، وبدأ في قراءة رواية (بروق على ساحل الحب)، أطفأ النور ومد قدميه على كرسي وضعه إلى جانبه حتى يريحهما، وبدأ يقرأها بهدوء.
عندما فرغ منها كان قد تجاوز موعد نومه بنصف ساعة، ولكن الرواية الجميلة جذبته رغم لغة الكاتب الضعيفة كحال الرواية السابقة ( بقايا حب أعجمي)، ولكن أعجبته الأحداث ومجموعة الأبطال الذين بدو كما لو أن النورس (كاتب القصة) قد بث فيهم الروح، فبدت أفعالهم وكلماتهم كأنها مجتزئة من أرض الواقع، وتصرفاتهم تقترب من التصرفات الطبيعية بعيدا ً عن المثالية والتصرفات الغريبة التي تصبغ أبطال القصص.
تمطى وألقى بنفسه على فراشه بعدما أغلق الجهاز وغسل أسنانه، وما هي إلا لحظات حتى غاب في لجة النوم.
* * *
بدى منشرحا ً في الصباح رغم قلة الساعات التي نامها، ولكن لأن اليوم أربعاء، وليس لديه سوى محاضرتين من الثامنة حتى العاشرة، والأهم أنه قد اتفق مع أصدقائه على التخييم في مكانهم المعتاد عصر هذا اليوم، مستغلين الإجازة الأسبوعية والأجواء الجميلة التي تلي الشتاء الذي ولى.
عندما انتهت المحاضرات خرج هو ومروان، قطعا الرواق المزحوم بالطلبة وتوقفا قليلا ً عند الكافتيريا الصغيرة الخاصة بالكلية ليأخذ مروان كأس كابتشينو ليعدل مزاجه كما يقول، سأله مروان عندما تركا جو الكلية المكيف إلى الهواء الطلق والسماء التي زينتها مزع السحاب:
– دخلت المنتدى؟
– ايه.
– سجلت؟
– لا… دخلت وفتحت بعض القصص فيه، والله الموقع جيد، بسجل إن شاء الله.
– وش قريت؟
– (بقايا حب أعجمي) و… الظاهر (بروق على ساحل الحب)، كذا اسمها؟
– ايه… أعجبتك؟
– (بقايا حب أعجمي) يعني، بس ذبحتني العامية، نص الكلام مافهمته، أما (بروق) حلوة، الشهادة لله أنها حلوة، قريتها أمس إلى حدود الساعة 1.30، الصراحة الكاتب مبدع، بس توها في الفصل التاسع.
– (بروق) حقت النورس صح؟
– ايه.
– ايه… (النورس) من كبار كتاب المنتدى، وعلى فكرة تراه ساكن في فرنسا، الظاهر أنه مبتعث هناك.
– ما شاء الله، ما كملت في المنتدى أسبوعين، وحافظ تاريخ كل كتاب المنتدى.
– تعرفت على واحد من المشرفين على الموقع، وأضفته عندي بالمسينجر، وجلسنا نسولف وعطاني بعض المعلومات عن الكتاب فيه.
– اها.
كانا قد وصلا إلى المواقف فإفترقا، اتجه حمد إلى سيارته، وانطلق بعجل إلى البيت ليظفر بساعات نوم حتى يكون مستعدا ً للتخييم.
* * *
عندما نهض عصرا ً كان يحس بخدر شديد، اتجه إلى الحمام وهو يسير بخطوات متمايلة، غسل وجهه بقوة ثم توضأ، ومسرعا ً اتجه إلى المسجد القريب حتى لا تفوته الر كعات الأخيرة من الصلاة.
عاد بعدما قضيت الصلاة، ليحمل عدته الخاصة وفراشه المطوي من الغرفة القصية في البيت والتي تحاذي السور الخارجي ويلقيها في مؤخرة سيارته، ثم ذهب إلى المطبخ بحثا ً عن شيء يطفئ جوعه.
كانت أمه تغسل الأواني المتبقية من الغداء، قبل رأسها وداعب رأس أخته لمى التي كان شعرها مهوشا ً وبين يديها إناء تأكل منه بأصابعها الصغيرة، قال لأمه:
– توصين على شيء يالغالية؟
– بتخيم هالأسبوع بعد؟
– ايه… قبل لا يجي الصيف، نبي نستفيد من الجو الحلو.
– الله يصلح قلبك، لو تنتبه لدراستك مهوب أحسن لك وأنا أمك.
– يا حبيبتي… يا أمي… اللي يسمع كلامك الحين يقول إني كل سنة أرسب ومعدلي نازل وحالتي حالة، الحمد لله دراستي ماشية والأمور زينة وأنا أخيم في مكان قريب وفيه إرسال لو بغيتوني اتصلوا علي وأجي، ماله داعي هالخوف.
– الله يصلح قلبك… هذا اللي أقوله.
– آمين، أتوصين على شيء؟
– سلامتك، مر على أبوك في المكتبة يبيك.
– أبشري.
* * *
توقف قليلا ً أمام باب المكتبة وأخذ نفسا ً عميقا ً، تعتبر هذه الغرفة غرفة والده الأثيرة، وهي مكونة من أرفف كبيرة تلامس السقف، تتراص عليها آلاف الكتب ما بين كتب دينية وفلسفية وتاريخية وأدبية، ومكتب يتوسط الغرفة يقبع خلفه كرسي مريح، في هذه الغرفة يقضي والده جل وقته، في قراءات متواصلة وبحوث ذات أسماء موحشة مثل ( الأثر التشكيلي في ثقافة بلاد ما بين النهرين) أو ( العقل العربي ما بين الإثبات والنفي)، كانت رؤية أبوه المنعزل أبدا ً في هذه المكتبة والمكب دوما ً بنظارته السميكة على الكتب ذات الأحجام الضخمة، هي التي دفعته إلى أن يكتشف عالم الكتب وأن يقرأ، ورغم أنه قياسا ً بأقرانه وأسنانه يعتبر متفوقا ً ثقافيا ً، ولكنه يدرك أن جل قراءاته لم تتعد النفَسَ الأدبي، وأنه لا يزال في المنطقة الضحلة فيما يغوص أبوه في اللجة الكاسحة للبحر المترامي.
حتى نفهم لماذا وقف حمد عند الباب وأخذ نفسا ً عميقا ً استعدادا ً للدخول، فإنه لزاما ً علينا أن نفهم طبيعة العلاقة التي تربط بين حمد وأبيه، كان حمد يحترم أبيه، يحترم علمه وعقله، ويشعر بالفخر عندما يظهر أبوه في التلفاز في كثير من القنوات أو على صفحات الجرائد عندما تفرد له الأعمدة، فأبوه ينظر له كأحد المفكرين العرب البارزين رغم انعزاليته، ولكنه في نفس الوقت يحس أن والده بعيد جدا ً عنه هو وأخوته بسبب انعزاله وغرقه في القراءة والبحوث، كما أنه يحس بأن والده لا يرضى كثير بتواجد حمد الدائم خارج البيت، وسفراته وتخييماته مع أصدقائه، كان الوالد يعتبر كل هذه الأشياء مضيعة للوقت وإن لم يصرح بذلك.
ولذلك عندما دفع حمد الباب ودخل كان يتوجس مما يريده والده منه، كان أبوه واقفا ً مستندا ً إلى أحد الرفوف، وبيده مجلد قد انتزعه كما هو ظاهر من سلسلة (قصة الحضارة) لويل ديورانت، كان يبدو أنه لم ينته لدخوله، وهو يركز عينيه على الكتاب، تنحنح حمد بحرج فرفع والده رأسه فبادره حمد:
– السلام عليكم.
– وعليكم السلام، هلا حمد.
أعاد الكتاب إلى مكانه، ثم سحب الكرسي وجلس على المكتب وجعل يقلب الكتب والأوراق المتناثرة على مكتبه بحثا ً عن شيء ما، وقال:
– بتخيم اليوم؟
– إن شاء الله.
– وكيف الأرض؟ فيه ربيع السنة هذي؟
– زينة والحمد لله، أفضل من السنة اللي فاتت.
– احرص على نفسك وأنا أبوك.
– ابشر.
نهض إلى كرسي في طرف الغرفة تتراص عليه مجموعة من المجلات العلمية وأوراق بشكل فوضوي، وانتزع من بين الأرواق مجموعة من المظاريف، ناولها إلى حمد وهو يقول:
– هذي فواتير البيت، سددها قبل لا تروح، لها أسبوع عندي وأخاف أنساها أكثر من كذا.
ثم تناول من جيبه مجموعة من النقد وأعطاه إياه وهو يقول:
– لا تنسى.
– ابشر.
ثم عاد إلى كتبه وأوراقه، فاستدار حمد وغادر الغرفة وهو يقول بصوت خفيض:
– مع السلامة.
– مع السلامة.
عندما أغلق الباب، أطلق زفرة قوية وشد بيديه على المظارف والمال، وانطلق إلى غرفته صاعدا ً بخطوات واسعة، جمع ملابسه الرياضية والأغراض التي يحتاجها في البرية في حقيبته اليدوية الصغيرة، ثم حمل إحدى الروايات ووضعها مع الملابس حتى يتسلى بها، قبل أن يتوقف قليلا ً ثم يتراجع ويعيدها إلى مكانها ويشغل جهازه، ويفتح الرواية الثالثة المتبقية والتي حفظها من منتدى ( أقلام بلا اتجاه) والمعنونة ب ( صفحات حب تذروها الرياح)، ثم يقوم بنقلها إلى الوورد وتنسيقها بشكل سريع ومتعجل، قبل أن يطبعها ويتناول الأوراق الحارة والتي تحمل رائحة الحبر، ويلفها ويلقيها في الحقيبة ثم يحملها منصرفا ً.
الفصل الثاني
خرج عن الطريق المسفلت، لتخوض سيارته في الرمال، وعجلاتها تحثي التراب على الجوانب وتصطدم بالحصى الصغير المبثوث في كل شبر، انطلق متعرجا ً مع تعريجات الطريق الذي حفظه من كثرة ما طرقه.
هدأ من سرعته عندما وصل شعيبا ً يقطع الطريق أمامه، وقد تناثرت على جوانبه أشجار شتى، وبدت أرضه رطبة ببقايا أمطار الأسبوع الماضي، سمى بالله ودفع سيارته إلى مكان آمن من الأرض تصلب بالحجارة وخرج صاعدا ً من الجهة الأخرى، ثم مضى ينهب الأرض التي بدأت تكتسي خضرة وورودا ً وأقاحا ً من كل جنس ولون.
أطربه المنظر البهيج والهواء اللطيف الذي يهب من نافذته التي فتحها بعدما أمن من غبار وحصى الأرض، فمشى مع الطريق المتعرج الذي شقته عجلات آلاف السيارات وهو يترنم بقصيدة شعبية شهيرة والسيارة ترتج من وعورة الطريق.
كان العصر قد ولى عندما وصل إلى المخيم، وألفى سيارتي مروان وعبدالعزيز متوقفة وهي مكسوة بالغبار، فيما مروان يبدو عند المشب منهمكا ً بإشعال النار ليصنع شايا ً، فيما كان عبدالعزيز يعيد نفض السجاجيد المفروشة داخل الخيمتين لتنضيفها من الحشرات والزواحف التي قد تكون باتت عليها منذ الأسبوع الفائت.
أوقف سيارته ونزل مبتسما ً فزعق مروان به:
– حمد… هات سيارتك هنا.
– سلام عليكم.
– وعليكم السلام… لا تطفئ سيارتك، تكفى وقفها هناك عند الأثلة حتى نحجز المكان، لا يقعد يجي أحد ويجلس فيها مثل الأسبوع اللي فات.
– طيب كان فرشت هناك زولية وحجزت المكان.
– الزولية يطيرها الهواء، وبعدين بكرة إذا قمنا الصبح لقينا أحد جالس فيها ويحوس علينا ظلالنا، وقفها هناك الله لا يهينك.
– طيب… طيب… أبو سعود، كيف الحال؟
قالها حمد لعبدالعزيز الذي خرج من إحدى الخيام بعدما أعاد الفرش إليها، فالتفت عبدالعزيز الذي كان طويلا ً له لحية خفيفة على جانبي وجهه كثيفة عند الذقن، وهو أكبرهم سنا ً، ولكنه أكثرهم طيبة قلب.
– هلا حمد، وراك واقف عندك؟
– بوقف السيارة تحت الأثلة، مثلك عارف أوامر مروان باشا.
ضحك عبدالعزيز فيما عاد حمد إلى السيارة وحمل أغراضه منها ووضعها على الأرض، ثم قادها إلى الأثلة ذات الفروع السامقة والظل الوارف والتي يعتبر ظلالها المكان الرسمي لشرب الشاي.
عاد إلى أغراضه فحملها ووضعها في خيمة النوم، ثم خرج إلى الخيمة الصغيرة التي كانت بمثابة مطبخ تكدست فيه أغراض الطبخ والمعلبات، وصافح عبدالعزيز الذي كان يغسل بعض الأواني، وجعل يساعده وهما يتحدثان حتى قطع عليهما صوت مروان الزاعق:
– الشاهي خلص… هاتوا معكم بيالات وتعالوا.
حمل عبدالعزيز معه زولية صغيرة ملقاة بإهمال في ركن الخيمة، فيما حمل حمد مجموعة من البيالات المغسولة وخرجا، كان مروان يمضي وهو يحمل الأبريق المسود بيد وطبق مكسرات باليد الأخرى إلى الأثلة حيث وقف هناك ينتظرهما حتى فرشا الزولية، ثم جلسوا والهواء يداعب ثيابهم بنسماته.
بدأو بإرتشاف الشاي، وفتح مروان طبق المكسرات وهو يقول:
– يا الله من فضلك… جو رايق، وشاهي يعدل المزاج، باقي الوجه الحسن.
حمد ضاحكا ً: أفا بس وأبو سعود مهوب وجه حسن؟
مروان: إلا أكيد أبو سعود فتنة للناظرين، والله يا بو سعود لولا الحياء لهاجني استعبار ولقرصت خدودك ذولي حيث أنهن كبار.
سقط حمد على ظهره ضاحكا ً، فيما قال أبو سعود:
– عاد تكفى هالوسامة اللي مقطعتك.
مروان: ولو يا بو سعود كلك ملح حتى وأنت معصب.
* * *
عندما غابت الشمس صلوا، ثم جاء ناصر ومحمد بسيارة واحدة فاكتمل عددهم، ناصر كان في مثل بدانة مروان، فيما كان محمد نحيفا ً جدا ً وله شارب خفيف، أضاءوا المصابيح الكهربائية وجلسوا بجانب الخيمة يتحدثون فيما مروان يصنع القهوة بالهيل.
كانوا يتحدثون في كثير من المواضيع، يتناقشون، يتجادلون ويضحكون على دعابات مروان، ومشاغباته لكل واحد منهم، حتى نهض عبدالعزيز وأذن لصلاة العشاء.
ثم بعدما فرغوا من الصلاة، بدأوا بإعداد العشاء حتى يتسنى لهم النوم مبكرا ً وخصوصا ً أن أكثرهم لم يناموا من الفجر إما لدراسة أو عمل، لذلك جعل مروان وناصر يتبلان ثلاث دجاجات كاملة، ثم يعلقونها في ثلاثة خطاطيف، قبل أن يدلوها في البرميل المدفون في الأرض والذي سعر محمد وحمد ناره، ثم يغطون رأسه مع ترك فتحة صغيرة للهواء حتى لا تنطفئ النار.
وعادوا إلى مجلسهم، وعندما جهزت الدجاجات، صفها مروان على صينية يتقاطر منها الماء، فيما كان حمد يحمل أرغفة الخبز التي سخنها على النار، وناصر يحضر المشروبات الغازية المدفونة تحت ركام الثلوج في الثلاجة الصغيرة، وعبدالعزيز ومحمد يصفان صحونا ً صغيرة من الفتوش والحمص أحضروها معهم من المنزل.
وبعد العشاء الحافل، صنع مروان شايا ً جعل يرتشفونه مع الحكايات، التي بدأت تثقل بتثاقل أجفانهم، وبدأ عددهم يتناقص حول النار، حتى نام آخرهم.
* * *
فتح حمد عينيه وجعل يحدق في سقف الخيمة المخطط تحت الضوء الخافت، كانت أصوات التنفس وشخير ناصر تتجاوب وسط السكون، نظر إلى ساعته كانت تشير إلى الساعة السابعة والربع، نهض برفق وخرج من الخيمة وهو يتمطى، كان الجو ذو برودة لطيفة.
قصد المطبخ وغسل وجهه، لن ينهض أحد من الشباب قبل الثامنة والنصف – قال لنفسه – هذا مؤكد، عاد إلى الخيمة وبرفق لبس بنطلونا ً وقميصا ً خفيفا ً ثم ألقى حول رقبته كوفية سوداء، ودس قدميه في حذاء الجري قبل أن يستخرج الأوراق التي طبع عليها البارحة رواية ( صفحات حب تذروها الرياح).
اختار بسكويتا ً خفيفا ً من المجموعة التي في المطبخ كتصبيرة، طوى الأوراق ودفعها في جيبه، ثم انطلق وهو يفتح البسكويت ويلتقم منه قطعة، تجاوز المخيم وانطلق حتى حاذى الشعيب القريب الذي كانت الأحجار التي جمعها المطر في قاعه تلمع تحت خيوط الشمس البازغة، فيما كانت العصافير تتطاير بين الأشجار.
نزل إلى الشعيب الحديث الجفاف، وهشمت خطواته الرمل الناعم المتماسك، مشى خطوات ثم انحرف صاعدا ً ليخرج مع الجهة الأخرى للشعيب، قاصدا ً مجموعة من الأشجار والأحراش والأعشاب التي افترشت رقعة صغيرة، كانت كجنة صغيرة أرضها لازالت رطبة من أثر الماء، وفرشها الزهور، ولا يقطع سكونها إلا زنين نحلة أو هسيس انزلاقة زاحفة لسحلية.
هنا مكانه المفضل الذي يقصده كلما جاء إلى المخيم، هنا تحت شجرة وارفة تمد أغصانها بكرم، وتلتف مجموعة من الأحراش حولها لتحجب المكان عن الأعين، هنا يأتي ليجلس متكئا ً على الجذع أو مستلقيا ً على البساط الرباني الأخضر، تاركا ً الزهور تعابث أذنه وعيناه تراقبان صفحة السماء الزرقاء الموشاة ببقايا الغيوم.
في هذا المكان جزء منه، هنا بكى عندما مات ابن عمه، وهنا ضحك عندما تم قبوله في كلية الآداب، وهنا يختلس ساعات ليقرأ وسط السكون غارقا ً في خضم أحداث الروايات، لينسى العالم بأسره، فتجده تارة يجوب مع بالداسار العالم بحثا ً عن الكتاب المفقود، و تارة يقطن غرفة ضيقة مع سجين تزمامارت، وأحيانا ً ينهب حقلا ً مع أحد الفرسان ذاهبين لتحرير جميلة ما.
واليوم وعندما ألقى بنفسه، أغمض عينيه قليلا ً وهو يسحب الهواء المنعش إلى جوفه، ويحتبسه قليلا ً قبل أن يزفر بقوة، ويمد يده إلى جيبه ليسحب الأوراق التي تجعدت قليلا ً وفقدت سخونتها، بعد مبيتها الليلي بين ملابسه، فردها ليطالعه العنوان متصدرا ً الصفحة ( صفحات حب تذروها الرياح)، قرأ أول جملة من الرواية ” إلى كل المحبين في العالم أفيقوا”، اعتدل في جلسته أعجبته البداية، استند على الجذع وبدأ يقرأ.
* * *
بدأ يلتهم الصفحات غير شاعر بالوقت، كانت اللغة جميلة جدا ً شعرية، الأحداث تحكي قصة شاب بسيط يلج أحد المواقع الأدبية بالصدفة، ويقرأ قصة فتعجبه فيبدأ بمتابعتها، ثم لا شعوريا ً يبدأ بمحبة كاتبة القصة، ثم يفكر بأن يرسل لها رسالة تعبر عن مشاعره، ولكن عندما يبدأ في الكتابة يحس بالصدمة للغته الفقيرة وثقافته البسيطة مقارنة بصاحبته، فيبدأ بتثقيف نفسه والقراءة ومحاولة الكتابة للوصول إلى صيغة جيدة للرسالة تناسب حبيبته.
عندما انتهت الصفحات اكتشف أن للقصة بقية وأن ( قلم بلا اتجاه) لم يكتب سوى ثلاثة فصول منها، أسرته القصة ولم يستطع الفكاك من الروح التي تفيض منها، جمع الأوراق وأعادها إلى جيبه، ونظر إلى ساعته كانت تشير إلى 8.32 دقيقة، نهض من مكانه ونفض بنطلونه مما علق به، ومشى عائدا ً إلى المخيم.
كان من يراه من بعيد يظنه حزينا ً، فقد كان مطرقا ً يمشي ناظرا ً إلى الأرض، يفكر بأحداث الرواية ويستعيد في ذهنه بعض جملها وعباراتها، وقد ألهته عن ما يحيط به من ألوان الجمال، كما أنسته هبات النسيم واهتزازات الأعشاب.
عندما وصل إلى المخيم، وجد مروان ومحمد ملتفان حول النار، مروان يقلي بيضا ً بينما ينهمك محمد في تقطيع كبدة على صينية صغيرة، والشاي يكاد يغلي على جانب من النار، فيما جلس ناصر وعبدالعزيز على الزولية تتوسطهما دلة وفناجين قهوة ذات طراز قديم، وتمر مكنوز مغطى حتى لا يستوطنه الذباب.
– سلام عليكم.
– وعليكم السلام ( من الجميع).
ناصر: ما شاء الله… متى قمت؟
حمد: سبع وربع، وطلعت أتمشى.
عبدالعزيز: تقهو يا بن الحلال ( ومد له فنجانا ً مثلوما ً تتصاعد منه رائحة الهيل) شكل الفطور بيطول دام هالاثنين هم اللي يصلحونه.
شرب حمد جرعة من القهوة، وتناول بضع تمرات ليسكت جوعه، وهو ينظر إلى مروان ومحمد اللذان كانا يعملان وهما يكادان يتشاجران كعادتهما.
* * *
تناولوا إفطارهم، وفيما جلس محمد ومروان وعبدالعزيز يشربون الشاي، استقل محمد وناصر سيارتهم ليجلبوا بعض المستلزمات من أقرب محطة، بدأ مروان بمشاكسة عبدالعزيز الذي سرعان ما غضب ونهض معلنا ً أنه ذاهب ليتمشى، بقي حمد ومروان يتحدثان في مواضيع شتى حتى قال حمد:
– بصراحة موقع ( أقلام بلا اتجاه) رهيب، إذا رجعنا بسجل فيه بإذن الله، اليوم قريت رواية طبعتها وجبتها منه، بصراحة رواية روعة، أفضل رواية قرأتها على الأنترنت.
– أي رواية.
– صفحات حب تذروها الرياح لقلم بلا اتجاه.
– قريتها حلوة، بس ما أحس أنها مناسبة لمنتدى، يعني فلسفية ولغتها قوية وصعبة.
– وهذا اللي عجبني فيها، مع أنها توها في البداية وكل اللي كتب منها ثلاثة فصول لكنها حلوة.
– في روايات كثيرة حلوة في الموقع.
– مثل هذي ما أظن، وبعدين تعال أنت يا صاحب العلاقات، كاتبها تعرف عنه شيء.
– اللي أعرفه أنه من مؤسسي المنتدى، وهو على فكرة اللي صمم شكل الموقع، لكن ما أعرف عنه شيء غير كذا، الظاهر أنه ساكن في الشرقية.
– واضح ما تعرف أي شيء عنه، ههههههههههه، إلا وش اسم أمه.
– هيلة. ( قالها مروان وهو يرفع حواجبه، حيث أنه دائما ً ما يقول لحمد أنه سيتزوج أخته هيلة غصبا ً عنه).
– بايخ.
– ما قلت لي وش بتسمي نفسك؟
– ما أدري إلى الآن ما اخترت اسم.
– عندي لك اسم زين.
– وش هو؟
– محماس.
– والله أنك فاضي.
– لا… لا… هجاج، ههههههه.
* * *
ذهبوا عصرا ً إلى الجبل الذي يبعد كيلومترات عنهم، تسلقه حمد ومحمد، أما أصحاب الأوزان الثقيلة (مروان وناصر) فأكتفوا بالفرجة، استغرقهم الصعود عشر دقائق، فقد كان ارتقائه سهل، كما كانت قمته شبه دائرية وجرداء، وكان منحدرا ً بشكل خطر مع الجهة الأخرى.
عندما نزلا لم يجدا السيارة ولا الشباب، سارا في المنطقة ووقفا يراقبان رتلا ً طويلا ً ممتدا ً من النمل ذو الحجم الكبير، الذي كان يسير بإنتظام، تبعا الخط فوجدا أنه أشبه ما يكون بفرقة عمل لنقل أجزاء طائر ميت متحلل.
لمع زجاج السيارة القادمة من بعيد، كان مروان والبقية قد عادوا، ركبا وانطلقوا إلى أماكن أبعد مستمتعين بالطبيعة الوليدة، وكادت إطاراتهم أن تغوص في رمل ناعم أكثر من مرة، لولا أن تنبه مروان في اللحظة الأخيرة، ودفعه السيارة للخلف باحثا ً عن أرض أكثر تماسكا ً.
وعندما غابت الشمس عادوا إلى المخيم، ومع آخر غياب للشمس كان الأذان يرتفع بصوت عبدالعزيز مع لمعان المصابيح الكهربائية وهدير المولد.
* * *
صلوا المغرب، وبدأ مروان بطقوس إعداد القهوة، فيما جلس البقية على الزولية مستمتعين بالحديث على أنغام طقطقة الأخشاب وهي تتغلف باللهب، عندما لمع البرق جالدا ً صفحة السماء بسوطه ذي الشعب، ثم أعقبه هدير رهيب للرعد، غاصت في جوفه تكبيراتهم.
وبدأت السماء تمطر مطرا ً بدأ خفيفا ً قبل أن يبدأ بالهطول بقوة تصفع خيمتهم وتغسل الأرض، فيما انسحبوا بسرعة وهم يجرون زوليتهم خلفهم ليحتموا بسقف الخيمة المبطن، حتى مروان ترك قهوته تبرد على النار المنطفئة وتختلط بماء المطر.
وقفوا تلقاء الباب يتأملون الأرض وهي تتلقى القطر بشراهة، ثمة جعل يهرب إلى مخبئه وقد أفزعه الماء، والمصابيح يزداد لمعانها وهي تهتز مع أسلاكها برقصة مطرية.
استمر المطر يهطل وإن عاد خفيفا ً، وعندما داعبهم النوم، قنعوا بأن يأكلوا طعاما ً معلبا ً ويأووا إلى فرشهم على وشوشات الماء الذي ينقر على نسيج خيمتهم، وعندما غاب آخرهم في لجة النوم، كان آخر ما علق في ذهنه، صوت القدر الملقى في الخارج والماء يزبد على حافته ويفيض ليختلط مع تراب الأرض ويغور إلى الأعماق.
* * *
عندما نهضوا لصلاة الفجر كان المطر قد توقف، ولكن الرطوبة والماء يملأن ما حولهم، توضأ أحدهم من ماء المطر الذي احتجزه القدر، وقد بدا صافيا ً زلالا ً، ثم صلوا وعادوا يواصلون النوم.
وكعادته نهض حمد مبكرا ً، خرج ليجد الشمس محتجبة خلف السحب، والظلام يكاد يعتم الرؤية، أبدل ملابس النوم وخرج على الجوع غائصا ً في الوحل، تجاوز المخيم ومر من بجانب الأثلة التي كانت أغصانها تنقط الماء بعد حمامها الموسمي.
عندما وصل الشعيب، رأى الماء يجري فيه مهتاجا ً، مكسوا ً بلون التراب، سار بجانبه وهو يتأمل الماء الطافح بالأعشاب والأوراق والحشرات التي تعوم ثوان ٍ ثم تغوص ثم تعود للطفو وكأنها تصارع للنجاة.
قصد أضيق نقطة من الشعيب، وألقى جذعا ً جذبه خلفه أمتارا ً، وبخطوتين رشيقتين عبر الجذع المهتز إلى الجهة الأخرى في مغامرة غير محسوبة.
عرج على قرية للنمل رآها بالأمس، فوجد النمل يكد ليصلح ما فسد بالأمس، يعرض حبوبه للشمس المحتجبة حتى تجف، أقعى لحظات يتأمل دئبهم، وابتسم عندما طاف بذهنه منظر أصدقائه وهم نائمون فاغري الأفواه واللعاب يسيل من بين شدقي أحدهم.
قصد وكره الأثير، وجده غارقا ً بالماء، وقد حطت أوراق الأشجار فملئت الأرض، دار يتأمل الأوراق وهي تهتز، والأشجار وهي تنفض الماء عنها، والحشرات وهي منهمكة بتأمين نفسها.
عندما مرت ساعة عاد وتجاوز الشعيب كما فعل بالمرة الأولى، ثم قصد الخيمة وألقى نفسه في فراشه، حاول استدعاء النوم ولكن عندما تأبى عليه، جذب من حقيبته أوراق رواية ( صفحات حب تذروها الرياح) وعاد يقرأ كلماتها على الضوء الخافت، وهو يعيد رسم حروفها في ذاكرته.
* * *
عندما تناولوا إفطارهم ركبوا السيارة وجعلوا يجوسون المنطقة الغرقى بالماء، كانت الشمس التي تخلصت من حجاب السحب قد جففت مناطق وظلت مناطق عصية وبعيدة عن أشعتها.
وعند الظهر عادوا وصنعوا لهم غداءا ً ثم حملوه وأغلقوا المخيم على وعد باللقاء الأسبوع القادم، وانطلقوا إلى روضة قريبة، تحولت إلى شبه بحيرة، جلسوا قريبا ً من الشط وتناولوا غدائهم هناك وهم يكافحون الهوام وأسراب الحشرات التي جذبها الماء.
وأمضوا باقي اليوم في التجول بالمنطقة وعندما قاربت الشمس المغيب، ودع بعضهم بعضا ً وقفلوا إلى بيوتهم كنهاية عطلة آخر الأسبوع.
* * *
ألقى حمد عدة التخييم في المخزن في الخلف ثم دخل البيت قاصدا ً المطبخ، حيث كانت أمه تعد العشاء لأخوانه، ابتسمت عندما رأته قبل رأسها وأهوى بشفتيه على يديها، وهو يردد:
– كيف حالك يالغالية؟ وكيف أبوي وأخواني؟
– الحمد لله… كلنا بخير، وشلونك أنت؟ وشلون ربعك.
– الحمد لله بخير.
– أمطرت عندكم؟
– ايه والحمد لله… أمس طول الليل وهي تمطر.
– ما شاء الله… وشلون الربيع؟
– الأرض توها إن شاء الله تزين بعد أسبوعين.
– الله يوفقكم.
ثم انتبه حمد إلى اليدين الصغيرتين اللتين طوقتا ساقه، وأخته لمى تصرخ بفرح طفولي:
– آمد… آمد جاء.
تلقفها حمد ضاحكا ً وقبلها على خدها، فيما مد يده مصافحا ً إلى أخته هيلة التي جاءت على أثرها وهي تحتضن كتابا ً دراسيا ً، وعندما انتهت الترحيبات والأسئلة سأل عن أبيه، فقالت هيلة باسمة:
– في الصومعة.
ابتسم حمد للقب الذي تسمي به هيلة مكتبة أبيه، وناولها لمى وقصد المكتبة وسلم على والده، ثم صعد إلى الأعلى بحثا ً عن أخويه عبير وسعد، وعندما انتهى من المداعبات والقبلات، دخل إلى دورة المياه ونقع نفسه في الماء الساخن، وسكن هناك وسط الأبخرة، وأغمض عينيه وأحس بتعب
شديد وخدر ورغبة في النوم.خرج من الحمام، وقصد المطبخ حيث كان العشاء معدا ً، تناوله مع أخوته، حيث أن أبوه لا يتعشى منذ سنة كإجراء لمكافحة كرش برزت له مؤخرا ً.
عندما انتهى كان فراشه الوثير يهمس له همسات غير مسموعة، وجفناه يغالبانه، فترك أخواته اللواتي كن يثرثرن بأحداث اليومين السابقين، وعندما حط برأسه على الوسادة خطرت له فكرة.
نهض وفتح جهازه الراقد، ثم عندما ظهر سطح المكتب الذي تمثله صورة لشاطئ من جزر الأزوريس، نقر نقرتين ليفتح المتصفح واختار من مفضلته منتدى ( أقلام بلا اتجاه).
جعل يفكر وهو يراقب المنتدى، ويتجاوز شروط التسجيل بمعرف له، ثم توقفت عيناه عند المؤشر الراقص، والعبارة التي تطالبه بإدخال اسم مستخدم، حدث نفسه، أريد اسما ً جميلا ً، اسما ً معبرا ً وغير تقليدي، غامض، يعبر عن شخصية متوازنة، ذكية.
توافدت إلى ذاكرته مجموعة من الأسماء رفضها كلها، كان ذهنه مجهدا ً، أحس برغبة شديدة في النوم، فكر في إرجاء التسجيل إلى الغد، ولكن فجأة لمع في ذهنه اسم ( ضوء في آخر النفق)، كتب الأسم بسرعة، لحظات ثم ظهرت أمامه العبارة الشهيرة ( ضوء في آخر النفق شكرا ً لتسجيلك سيتم إرسال…….)، أطفأ الجهاز وغاب في عالم الأحلام.
الفصل الثالث
عندما استقبل الجهاز كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة مساءا ً، كان قد عاد للتو من عند أصدقائه، تساءل وهو يخلع ملابسه عن كنه هذا اليوم الذي مر سريعا ً.
تفقد بريده الألكتروني بسرعة ثم قصد المنتدى، فرح عندما وجد أن هناك فصلا ً جديدا ً من ( صفحات حب تذروها الرياح) لابد أنه نزل خلال عطلة نهاية الأسبوع عندما كان في البر، فتحه في صفحة جانبية، ومضى يتفقد القصص الأخرى محتفظا ً بما يعجبه.
عندما انتهى قطع الإتصال، ومر بسرعة على القصص التي فتحها، محتفظا ً بالفصل الرابع من رواية الصفحات للآخر، وعندما لم يتبقى إلا هي نظر إلى الساعة، كان قد بقي على موعد نومه الساعة إلا ربع، نهض إلى المطبخ وأحضر له عصير ليمون، وأراح قدميه على حامل خاص بهما، وتراجع بكرسيه ليفسح مجالا ً لراحته، ثم بدأ بالقراءة.
كانت الرواية قد توقفت في الفصل السابق عند عزم بطلها ( خالد) على تثقيف نفسه ليرقى إلى مستوى حبيبته الكاتبة ( نورا)، وبدأ الفصل الرابع بالكلمات التالية ( هو العشق، هو الوله، هو الهوس، ما قاد خطاه التي حفظت دروب النزهات والرحلات والإستراحات إلى دروب جديدة، استنكرت قدماه الطريق الذي تدوسه، استنكر أنفه رائحة الكتب، بعد سنوات من تعود رائحة الشيشة والدخان الذي يطلقه أصدقائه، استنكرت عيناه صفوف الحروف كأنها صفوف عدو مرصوص.
عندما ولج المكتبة ذاك اليوم، ظن أن الكل يحدق به، ككلب دخل مطعما ً على حين غرة، خشي أن يخلع المحاسب السوداني العجوز نعله ويلحق به ليطرده، مضى خائفا ً يتلفت ووقف بين الصفوف، تطاولته الكتب وكاد يسقط بين العناوين الهائلة ( مأزق الثقافة العربية)، ( طرائق الحداثة)، ( المضمر في النثر العربي)، أسكرته العناوين ففر إلى قسم آخر، لتصفعه من جديد عناوين أخرى ( التغيرات السيكولوجية لدى ضحايا الحوادث)، ( دراسات أنثروبيولوجية لشعوب أفريقيا الوسطى)، فر من جديد وهو يلهث، فوقعت عيناه على لوحة كتب عليها قسم الروايات والقصص، لاذ بها ووقف في كنفها يلتقط أنفاسه، ثم رفع بصره الكسير إلى العناوين ( حفلة التيس) تيس؟ هل أخطأ؟ ربما هذا القسم البيطري، لا… هذا قسم القصص والروايات، ما الذي أتى بالتيس هنا؟ عجيب… جذب الرواية ذات الغلاف الصارخ، وقرأ اسم المؤلف ( ماريو بارناس يوسا)، أعادها إلى مكانها ومشى قليل لتقع عيناه على غلاف جميل تتصدره فتاة وقرأ اسم الرواية ( ابنة الحظ)، تناولها وقلبها قليلا ً بين أصابعه التي لم تتعود نعومة الورق ولا خربشات الحبر، راقت له فحملها ومضى يبحث عن…..).
توقف حمد عن القراءة، وتراجع ليفرك وجهه وعينيه، يا إلاهي ما كل هذا؟ لقد حملني هذا الكاتب إلى هناك، إلى عالم هذا الشاب المسكين، هذه الرواية – قال لنفسه- ذات لون وطعم ورائحة، طعمها حريف في فمي، مذاقها لذيذ، دقة الوصف واللغة تغريني، تثيرني، تهيجني.
عاد من جديد يلتهم الفصل الرابع، وعندما أتى عليه أحس بالجوع إلى مثل هذه الحروف، إلى مثل هذه الكلمات والتعابير، كيف يشقى من يملك قلم كهذا؟ تساءل، والتفاصيل… هذه التفاصيل التي تبعث في النص روحا ً، ترق… ترق فكأنما تغادر الورق لتتجسد على أرض غرفته، تداعبه وتعابثه، والسخرية المبطنة للكاتب من بطله ومن الظواهر الإجتماعية ومن أخطائنا التي نواريها عن الناس وحتى عن أنفسنا.
ولأول مرة منذ سنوات، يحس بألفة وتعايش مع كاتب، ويحس بأنه يعرف الكاتب منذ عقود، وأن الكاتب يخاطبه هو، يحكي له هو، كأن هذه الحروف صيغت لتناسب عقله، لتلامس روحه، ولأن للرواية كل هذا العمق فربما لذلك احتفى بها القليل من رواد المنتدى.
أحس برغبة شديدة في التعرف على الكاتب، مجالسته، تذكر ما أخبره إياه مروان بأن الكاتب يقطن في المنطقة الشرقية، ولكن ما قيمة المسافات مع عقل كهذا، لا تهمه المسافات، هو الذي يجتاز مئات الكيلوات ليتمدد تحت شجرة، أو ليستمتع بزهرة تتأود ونحلة تطن حولها، ألا يسعه أن يطوي الأرض ليجالس إنسانا ً أعجبه عقله؟
فتح صفحة بيضاء على الوورد، جعل يتأمل المؤشر يرقص عابثا ً فيما عقله مشحون بالكلمات، كتب ومسح، ثم كتب ومسح، ثم تأمل بقايا كلماته، ثم في النهاية وصل إلى الصيغة التالية للرسالة التي نوى إرسالها إلى ( قلم بلا اتجاه):
( عزيزي قلم بلا اتجاه
الساعة الآن تقترب من الواحدة ليلا ً وكل ما يشغل فكري هو كيف أصوغ حروفي لك، قرأت روايتك الرائعة، فوجدت نفسي أعانق كل حرف من حروفها، مبدع أنت يا سيدي، لا يتأبى عليك حرف ولا يجمح، وتنسال أحرفك إلى قلبي، سيدي وجدتك ما بين كل حرف وحرف، رأيت سحنتك تطل من بين السطور جميلة زاهية، باسمة، ساخرة، قبضت على تجعيدات حروفك وهي تكاد تفر، تمنيت أن أكون بطلا ً من أبطالك، أسير على هدى حروفك، وعندما انتهيت وقفت وتمنيت أن أعرفك، أن أحدثك، أن يسمح قلبك الذي صاغ حرفك بي كتلميذ، سيدي عرفت عنك أشياءا ً كثيرة باحت لي بها حروفك، فهل تسمح لي يوما ً بأن أعاين ما عرفت؟ هل؟
صديق حرفك ضوء في آخر النفق).
لم يتردد لحظة فتح المنتدى، وقصد الرسائل الخاصة، وألصق رسالته هناك، ثم ضغط على زر الإرسال بقوة، وكأنما يمنح الرسالة بعضا ً من مشاعره، ثم بالسرعة ذاتها أغلق جهازه وألقى بنفسه في فراشه، هاربا ً من الأسئلة والخيالات.
* * *
مضى اليوم بطيئا ً لا