بين صليبية الغرب وصليبية القذافي


الدكتور أكرم حجازي

كانوا وما زالوا، بمن فيهم المجلس الوطني، يتوسلونه كي يتمكنوا من التقدم باتجاه طرابلس!!! وعليه فقد أقيمت الصلوات، وتضرعت الجموع إلى الله من أعماقها كي يفرض مجلس الأمن الدولي حظرا جويا على ليبيا لتعطيل فاعلية القذافي في السيطرة على الأجواء .. وقدمت الجامعة العربية الغطاء السياسي والقانوني. لكن ببطء شديد صدر القرار بهدف حماية المدنيين! وببطء أشد، تأخر تطبيقه إلى أن وصلت كتائب القذافي أبواب مدينة بنغازي، قبل أن تشرع القوات الفرنسية بتوجيه أولى الضربات الجوية، ثم تلحق بها الولايات المتحدة وبقية الدول المشاركة. تُرى: ما هو منطق اندفاع الليبيين وراء الغرب لطلب النجدة؟ وما هو منطق الغرب في نجدة ليبيا دون غيرها من الأمم؟




منطق الثورة والاستعانة بالغرب

(1)


كل من زار ليبيا، واحتك بأهلها لا شك أنه شعر بنظرة استعلائية لدى الليبي، وهو يتعامل مع كل زائر إلى البلاد بوصفه «أجنبي» أو « غريب»، سواء كان عربيا أو مسلما أو من أية « زنقة» في العالم. وهو تعبير مصدره القيم والأعراف القبلية التي ما زالت تسيطر على المجتمع الليبي. لذا فالليبيون، وإنْ بدوا منفرين للغير، إلا أنهم صادقون، في الصميم، لمّا يعتقدون بأنهم لا يريدون من الغرب أو أية قوة إلا مساعدتهم في تنحية القذافي كرجل دموي لا يمكن التعايش معه ولا بأي صفة كانت. وعليه فهم بحاجة، فقط، لمن يناصرهم أو يساندهم، لكنهم ليسوا بحاجة لمن يناصحهم أو يشير عليهم، ولا يتقبلون حقا حلول الغرب في بلادهم. لكن ثمة فرق كبير بين الرغبة في الشيء والقدرة على تحقيقه.


ما يتعرض له الشعب الليبي على يد كتائب القذافي مذبحة تفوق الوصف. فالرجل، كالصليبيين، يظن أنه « المخلص » الذي يستحق، عن جدارة، قيادة العالم قبل أن يهلك عن بكرة أبيه، وأن على العالم أن يسمع له، ويأخذ برؤيته!! لذا فهو يتدخل في كل صغيرة وكبيرة .. يتدخل في أنحاء مختلفة من العالم .. في أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وكل البلاد العربية .. وكثير من الدول جهدت في تجنب شره من سوء وحشيته وإثارته للنزاعات، وتغذيته للحروب. فكيف يكون الأمر مع من يعتقد أنهم الأولى بنصرته وتأييده والتصفيق له، فإذا بهم ينقلبون عليه، ويثورون ضده؟ هكذا يقاتل القذافي شعبا أعزلا يستحق منه « التحقير» و « التأديب»، وإيقاع أقصى العقوبات عليه، مستخدما، في ذلك، كل الوسائل والأدوات المتوفرة له، وبكثافة نارية وحشية، لا ترقب في طفل أو امرأة أو شيخ أو أجنبي أو صحفي أو حتى جثة مغدورة إلا ولا ذمة .. وكما لو أنه يخوض حربا عالمية.


على هذه الخلفية؛ حيث العجز والشعور بانعدام الحيلة في التصدي لهذا الطاغية، وغياب النصير القادر على تعطيل وحشيته، أوكل الليبيون أمرهم للغرب، ووضعوا كل ثقتهم بالمجلس الوطني، أياً ما كانت المواقف والسياسات والإجراءات، بحجة أن مهمته تنحصر في إدارة المرحلة الانتقالية التي تقتصر على الإطاحة بالقذافي، والتحضير للدولة المدنية الحرة. لذا فقد صموا الآذان، وأحكموا إغلاق الأبواب على ما يرونه صوابا، بقطع النظر عما يراه غيرهم .. وانتهوا، حتى هذه اللحظة، إلى حشر المسلمين، ممن اكتووا، على مدار القرون والعقود، بنار الحقد الصليبي، وتفحمت جثثهم، أو انسلخت جلودهم، وتقطعت أوصالهم وأشلاءهم، في دعوى ظالمة: « إما معنا فيما نختار أو دعونا وشأننا»!!! فأثاروا استهجان وحنق الغالبية الساحقة، ممن اندفعوا، إلى مناصرتهم بحرقة، أو تسابقوا في مدّ يد العون إليهم، من أشقائهم العرب، أو تعاطف معهم، أو تألم لألمهم، أو سعى لحشد التأييد لهم !!!


وهكذا؛ فما أن صدر القرار، بفرض الحظر الجوي، حتى استقبله الليبيون بنشوة عارمة في بنغازي، سواء عبر إطلاقهم الألعاب النارية أو عبر تسيير المظاهرات الشعبية في عدة مدن، أو عبر رفع الأعلام الفرنسية إلى جانب علم الاستقلال الليبي، فضلا عن لافتات الشكر، والاعتراف بالجميل خاصة لفرنسا، ولعامة الدول المشاركة بالحظر، بالإضافة إلى خطب الجمعة التي ردد خطيب مدينة درنة فيها ما يردده عامة الليبيين: « من لا يشكر الناس لا يشكر الله»، وعليه فـ « شكرا لفرنسا»!!! بل أن المواقف الشاكرة والمؤيدة للحظر والضربات الجوية امتدت حتى وصلت إلى بعض الثوار والنخب الليبية التي أولت ثقتها التامة بالمجلس الوطني.


وبعيدا عن مواقف الدول التي رفضت التدخل تخوفا من نفس المصير .. وبعيدا أيضا عن موقف عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية صاحب الحسابات الانتخابية في الرئاسة المصرية .. فقد بدا أغلب الليبيين، تحت وقع الصدمة، غير عابئين بأي منطق شرعي رغم غلبة الطابع الديني على سلوكهم وحبهم لدينهم، ولا آبهين لأية حقائق تاريخية أو راهنة انتهكت الإسلام والمسلمين، ولا مراعين لمشاعر مطعونة لا وزن لها حتى لو كانت معمدة بالدماء، وغير مكترثين لأية محاذير موضوعية، أو تداعيات سياسية مستقبلية، يمكن أن تترتب على التدخل الغربي، بل أنهم بدوا أقرب ما يكونوا إلى رفض الاستماع لكل من يخالفهم الرأي، سواء جاءت المخالفة في صيغة انتقاد أو نصيحة أو تحذير أو مخاوف أو حتى مجرد قراءة للوضع.


لا شك أن المواقف الشعبية والرسمية والدينية الليبية، تجاه الحظر الجوي والتدخل الغربي، تسببت في ضمور التعاطف الشعبي العربي، وإصابة أصالة الثورة بجراح غائرة، إلى الحد الذي بات يهدد باستنزاف مشروعيتها، وفقدانها لبريقها، بالرغم من عظيم تضحيات الليبيين أمام وحشية القذافي، وجنون كتائبه القاتلة. فما الذي يجعل الليبيين واثقين من خيارات يراها المناصرون لهم كارثية؟ ولماذا يصرون على الاحتماء بالغرب بدلا من الاحتماء بأشقائهم؟ ولماذا يظنون أن الغرب صادق في نصرته لهم؟ ولماذا يؤكدون على قدرتهم بإسقاط القذافي إذا حصلوا على غطاء جوي؟


فالأخطاء الليبية القاتلة في الميدان، وكذا في السياسة، سببها ثقتهم الزائدة بأنفسهم، ونفورهم من «الأجنبي» حتى لو كان شقيقا أو نصيرا لهم، فكيف سيكون الأمر مع هذا «الأجنبي» إذا كان عدوا؟ أو كانت له أسبقية في الاستعمار؟ لكنهم في الواقع لا يمتلكون الخبرة في القتال والحروب. وليست لهم أية تجارب حربية أو سياسية منذ الاستقلال، حيث تغيرت الأجيال، والثقافات، وانزوت الخبرات. حالهم، في ذلك، كحال الكثير من الشعوب التي لم تخض حروبا أو تتعرض للغزو. قد تبرر هذه الوضعية، نظريا وحتى موضوعيا، طلب النصرة أو المساعدة، لكنها لا يمكن أن تبرر الاستعانة بالغرب أو إحالة وقائع الثورة لطائرات الناتو وسفنه الحربية.


فقبل أن يصدر قرار الحظر الجوي كانت فرنسا تقول بأنها ستشرع في ضربات جوية بعد ساعات من صدور القرار. والواقع أن الضربات الجوية تأخرت نحو 36 ساعة قبل أن تنطلق، وكانت خلالها كتائب القذافي تسابق الزمن، في السيطرة على المدن، حتى وصلت إلى المداخل الغربية لبنغازي، وقتلت ما قتلت، وبثت الذعر في صفوف السكان الذين كانوا يحتفلون بصدور القرار، ويقيمون الصلوت والدعوات. فبأي منطق جرى تأخير القرار الذي اتخذ، أصلا، بهدف حماية المدنيين!؟ وماذا عن أولئك الذين قتلوا قبل بدء الضربات الجوية؟ أليسوا ضحايا للتدخل الدولي؟


الطريف أن الثوار الليبيين كانوا يطالبون فقط بتحييد طائرات القذافي دون أي تدخل بري من القوات الدولية. وهيمنت عليهم النشوة حتى ظنوا أنهم قادرون على سحق كتائبه. وحتى هذه اللحظة لا يرغب الليبيون بطرح السؤال الواجب: ماذا سيفعلون إذا فشل الحظر الجوي أو الضربات الجوية في وقف تقدم الكتائب الأمنية؟ أو شل فاعليتها؟ فالواقع الميداني يؤكد بأن تعطيل سلاح الجو لم يكن كافيا لتقدم الثوار، الذين صاروا يطالبون بقصف الكتائب وملاحقتها وتدمير عتادها!!! والأسوأ من هذا أن بعض الليبيين يتصرفون وكأن القوات الغربية طوع يمينهم!!! فكلما اصطدموا بقوات القذافي تساءلوا: أين القصف الجوي؟ لكنهم لم يتساءلوا: لماذا غدروا بهم؟ ولماذا يتلاعبون بأرواحهم؟ وماذا لو أوقفوا حملتهم لحساباتهم الخاصة؟ هل سيتوقف الثوار عن الزحف ويستسلمون لبطش القذافي؟


لأكثر من 24 ساعة مضت لم تنفذ القوات الدولية أية عملية قصف جوي. وتبعا لذلك فقد استأنفت كتائب القذافي هجماتها، من جديد، لتكتسح المدن مرة ثانية دون أن تعترضها أية طائرة، حتى وصلت إلى رأس لانوف!!! ومع ذلك فقد كانت مداخلة مدهشة تلك التي أدلى بها لقناة الجزيرة (30/3) عادل الزنتاني، عضو اللجنة الإعلامية للثوار، حين أبدى استغرابه من عدم قصف قوات القذافي في محيط بلدة الزنتان بالرغم من تحديد الإحداثيات، وإرسال الطلب مبكرا، وحتى من إمكانية مشاهدتها بالعين المجردة في منطقة صحراوية، وبعيدا عن أي تواجد للمدنيين!!!!


ليس صحيحا أن المسألة تتعلق بتغير الشيفرات الحربية مع انتقال القيادة من الأمريكيين إلى حلف الناتو. والأرجح أن الغربيين عرفوا نقطة ضعف الليبيين في الصميم. فكان من السهل السيطرة عليهم وحتى الغدر بهم، وإبقائهم في حالة عجز ثابت، عبر ربط أي تقدم للثوار بالحاجة الدائمة للمساعدة. فلا تقدم عسكري إلا بقصف جوي .. ولا حماية إلا بمزيد من الابتزاز وإلا فالتراجع والاستعداد لتقبل المزيد من المذابح … والمؤلم في الأداء الليبي أنه مقتنع بـ « إنسانية الغرب» الذي يعيش« صحوة ضمير» تجاه ليبيا!! لهذا فهو ليس مستعدا لتقبل مجرد فكرة أنهم قد يكونوا ضحية لفخ محكم سيجعلهم مستقبلا أسرى المساعدة الغربية. وحينها لن يكون هناك أي تقدم في الاقتصاد إلا بغطاء غربي .. وكذلك الأمر، لا تقدم في الاجتماع والأمن والتجارة والإعمار والدعم السياسي … إلى آخر القائمة التي لن تنضب، إلا بغطاء ومساعدة من الغرب .. فكيف سيكون حال ليبيا آنذاك؟


أما عن تسليح الثوار فالحديث عنه لم يتوقف منذ الإعلان عن تأسيس المجلس الأعلى الذي ينسقون معه، ويستشيرونه، ويتعاملون معه، ويبتزونه، لكنهم لا يعترفون به. والمؤكد أن الغرب أبعد ما يكون عن منح الثوار أية عناصر قوة. بل أن الرئيس الأمريكي قال بصريح العبارة أنه وافق بالفعل على تقديم مساعدات للثوار؛ لكنها « غير مميتة»، مثل معدات للاتصالات وإمدادات طبية ومساعدات أخرى!!! وحتى لو لجأ الغرب إلى تسليحهم، سرا أو علانية، فالنتيجة ستكون أسوأ من عدم تسليحهم. لأن التسليح سيؤول إلى فرض وصاية تامة على ليبيا لاحقا.


العجيب، وهي حقيقة، أن الغرب يعترف بتوافر السلاح بكثرة في ليبيا. ومن المفترض أنه يخشى من وقوعه بيد الثوار، أو بيد مجموعات جهادية، تقول بعض الدراسات الغربية أنها لا تخلو من التواجد في ليبيا. كما أن الغرب أيضا يعلم جيدا، في ضوء تجربتي العراق وأفغانستان، أن مشكلة الثوار ليست بالسلاح بقدر ما هي في التنظيم والقدرة على إدارة الحرب. وهو ما تفتقده مجموعات الثوار فيما بينها من جهة، وفيما بينها والمجلس العسكري التابع للمجلس الوطني من جهة أخرى.


هذا المأزق، والحصار الغربي، يمكن الخروج منه، ليس عبر طلب التسلح من الغرب، بل في إدراك الثوار أنفسهم لقوتهم، وتنظيمها، وتحسين فاعليتهم على الأرض بحيث يحدثوا فارقا يمكن أن يحررهم من الاستعانة بالغرب، ويقطع الطريق على التدخل الأجنبي، ويجنب ليبيا مخاطر الوصاية والنهب أو الوقوع فريسة سهلة لأطماع الغرب.

منطق التدخل الغربي



(2)

حتى يومنا هذا ثمة شعوب عربية وأعجمية مسلمة تتعرض للإبادة المنظمة منذ عشرات السنين، لكنها لم تتلق الدعم ذاته الذي تتلقاه الثورة الليبية من الغرب. فالفلسطينيون تعرضوا لمذابح وحشية وجماعية لا توصف، كان آخرها مذبحة غزة، لكن أحدا لم ينتصر لهم دوليا ولا عربيا، بل أن التورط العربي في محاصرتهم كان أشد وضوحا مما هو في ليبيا. وكذا حصل في أفغانستان والعراق والصومال. أما في حرب البوسنة والهرسك فقد أبيدت قرى ومدن بكاملها على يد الصرب الأرثوذكس أمام ناظري الغرب طوال أربع سنوات، وارتكبت من المذابح الوحشية ما لا تطيق نفس بشرية النظر إليه، ولم يتدخل حلف الناتو إلا بعد أن ضمن مصالح بلاده، وفرض الجنرال دايتون شروطه لإنهاء الحرب الأهلية الطاحنة. فما الذي يجعل الغرب حريصا على حماية المدنيين في ليبيا دون غيرها من البلدان الإسلامية؟ وكيف يمكن لفرنسا أن يستفيق ضميرها وهي التي أعلنت استعدادها لتزويد الرئيس التونسي زين العابدين بن علي بما يحتاجه من معدات لقمع الثورة قبل يومين من فراره المخزي من البلاد؟ إذا أحسنا الظن، وكنا موضوعيين، فثمة مليون علامة استفهام على التدخل الغربي.


في أعقاب هجمات 11 سبتمبر على رموز القوة في الولايات المتحدة الأمريكية، خرج الرئيس جورج بوش الابن بعبارته الشهيرة: « من ليس معنا فهو ضدنا»، وأتبعها بعبارة « الحرب الصليبية». وفي يوم 21/3 كرر وزير الداخلية الفرنسي كلود جيون، العبارة ذاتها حين نسب إلى الرئيس نيكولا ساركوزي القول بأنه: « تَصدَّر حملة صليبية لحشد دعم مجلس الأمن والجامعة العربية والاتحاد الأفريقي لمنع ارتكاب مذابح بليبيا»!!! فهل نصدق المجلس الوطني ونكذب ما يقوله الغرب بلسانه؟ وهل يعقل أن نعاكس الحقيقة، ونكذب التاريخ والحاضر، ونعترف، زورا، بأننا كنا مخطئين بحق الحروب الصليبية التي كانت تستهدف تاريخيا حماية المسلمين؟ بالتأكيد لا. لكن، وكما برر مستشارو بوش ووزرائه عبارته بـ « زلة لسان»، علما أن مارغريت تاتشر وبيرلسكوني وغيرهما كرراها بعده، كذلك الأمر حين وصف وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه عبارة زميله بـ « زلة لسان», محذرا من خطورة العبارة، ومحاولا التقليل من أهميتها، وداعيا إلى تجنب استخدام تعبير « حملة صليبية»!!! وكأنه يوصي باستعمال عبارات أقل إثارة للمسلمين.


كل ما في الأمر أن الولايات المتحدة وبريطانيا توارتا، بفعل سمعتهما الشريرة في العراق وأفغانستان والصومال، خلف فرنسا التي تصدرت القيادة السياسية لـ « الحملة الصليبية» الجارية، فيما أحيلت قيادة « الحملة العسكرية» إلى الحلف الأطلسي، كما هو الحال في أفغانستان.


حتى الأمريكيين جن جنونهم على رئيسهم باراك أوباما الذي قرر الذهاب إلى الحرب دون العودة إلى الكونغرس الأمريكي صاحب القرار الدستوري في إعلانها. فلو عدنا إلى قرار مجلس الأمن لتبين لنا أن القرار يتحدث عن فرض حظر جوي لمنع طائرات القذافي من قصف أهداف مدنية. هذا رغم أن الحديث عن ضرورة توجيه ضربات جوية ضد دفاعات القذافي كان سابقا لصدور القرار الدولي. إذ أن فرض الحظر، بحسب لغة الغرب نفسه، دون تدمير الدفاعات الجوية يبدو شبه مستحيل. وعليه فإن الجامعة العربية والمجلس الوطني كانا يعرفان بذلك جيدا!! زيادة على أنهما ينسقان ويعلمان بوجود دبلوماسيين غربيين في بنغازي فضلا عن وحدات خاصة، وخبراء ميدانيين وإداريين، واستخبارات عسكرية، لإدارة الحظر والضربات انطلاقا من الأرض الليبية. وهو ما ألمحت إليه، صراحة، صحيفة « الواشنطن تايمز -30 /3/2011» الأمريكية في افتتاحيتها. وبالتالي فما من معنى يذكر لاحتجاج عمرو موسى على تنفيذ الضربات. مع ذلك فالقرار لم يتوقف عند فرض الحظر ولا عند ضرب الدفاعات بقدر ما مضى في تعقب كتائب القذافي ومهاجمة القواعد العسكرية، ومخازن الأسلحة، والبنى التحتية.


في خضم الجهود الدولية لاستصدار قرار الحظر كان التردد الأمريكي واضحا قبل الموافقة عليه. تردد مكن القذافي من انتزاع المدن من الثوار واحدة بعد الأخرى حتى وصل إلى أبواب بنغازي. ومن جهته نقلت صحيفة الخليج الإماراتية ( 16/3/2011 ) عن مصدر أمريكي وصفته بـ « المطلع» ما يؤكد: « إن هناك تردداً ملموساً في شأن دعم المعارضة الليبية، وأن واشنطن تريد إنهاء سريعاً لما هو جار في ليبيا لاسيما أن هوية الثوار الأيديولوجية غير واضحة تماماً بالنسبة إليها». ومن المفترض أن الحماس الأمريكي المفاجئ، والذي رافق الإعلان عن صدور القرار، قد حصل على الإجابات التي كان يبحث عنها بخصوص هوية الثوار. لكن ما قالته « الواشنطن تايمز -30 /3/2011» من أن: « كثيرا من الثوار متطرفون إسلاميون بل وحتى أعضاء في تنظيم القاعدة»، يعني أن حسابات الأمريكيين في ليبيا ليست مقتصرة أبدا على هوية الثوار فقط. فما هي إذن حساباتهم طالما أن المجلس الوطني نفسه لا يستطيع أن يقدم أي ضمان للغرب عن ليبيا المستقبل، ولا عن هوية الثوار الذين لا يمكن له أن يسيطر عليهم جميعا؟


المراوغات التي سبقت صدور قرار الحظر الجوي أخافت الأتراك. وقد عبر المسؤولون الأتراك عن شكوكهم بدوافع « بعض الشركاء» صراحة خاصة ضد فرنسا. وجاءت أوضح التعبيرات من رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان حين قال (24/3): « أتمنى ممن لا يرون سوى النفط ومناجم الذهب أن ينظروا للمنطقة من خلال الضمير اعتبارا من الآن»، ومن الرئيس عبد الله غل الذي أعرب لصحفيين مرافقين له بجولة أفريقية عن قلقه من أن يتكرر سيناريو العراق، مشيرا إلى أن: « ليبيا قد تنهب كما حدث مع العراق».. ولا شك أن هذه التصريحات تأخذ بعين الاعتبار تحول القرار الدولي من صيغة « الحظر الجوي» إلى صيغة « التدخل العسكري» وما قد ينجر عنه من تدمير سيطال كل القواعد العسكرية والبنى التحتية، خاصة، حين تشتد المعارك حول المدن الحاسمة كمصراتة وسرت وطرابلس ومحيطها، بالإضافة إلى دفع تكاليف التدخل الدولي بما يزيد عن إفراغ الخزائن واستنزاف الثروات مجددا قبل ترك البلاد في فساد وفقر مدقع.


حتى الآن لا يمكن الوقوف على حقيقة التدخل الدولي في ليبيا ومآلاته. فالغموض سيد الموقف. وتناقض التصريحات خير شاهد. وهذه معطيات كافية للتأكيد على سوء نوايا الغرب تجاه ليبيا. فإذا سئل الرئيس الأمريكي عن المستقبل أو عن سير العمليات يكتفي بالقول أن: « كل الخيارات مفتوحة .. وأن هذا الأمر لم يحصل .. لكن يمكن أن يحصل لاحقا»!!! فهل يعقل لمثل هذه التصريحات التي تصدر عن رئيس أكبر دولة في العالم أن تقنع مواطنا أمريكا ناهيك عن مواطن عربي أو أفغاني أو بوسني؟



في 29/3 شارك نحو أربعين دولة (؟؟؟؟؟) في مؤتمر عقد في العاصمة البريطانية – لندن للنظر في الوضع الليبي، وإقرار ما قيل أنه: « الدليل السياسي لتوجيه الجهود الدولية لحل الأزمة الليبية وتنسيق الدعم طويل الأمد لليبيين»!! فمن يستطيع أن يفسر مثل هذه العبارة « الدعم طويل الأمد» إلا وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني الذي كشف عن مباحثات أجراها مع نظرائه بفرنسا وألمانيا والسويد تناولت مقترحات بشأن رحيل القذافي في إطار تسوية سياسية تقضي بـ: « (1) وقف تام لإطلاق النار، يتبعه (2) خروج آمن للقذافي ثم (3) الدعوة لحوار بين القبائل وائتلاف ثورة 17 فبراير»؟!! فمن قال بأن المشكلة في ليبيا واقعة بين القبائل والائتلاف؟ وما الحاجة إلى مثل هذا الحوار؟ وما هو موقف المجلس الوطني من هذا التصريح؟ وما هو دور المجلس بعد رحيل القذافي؟ وما هي حاجة الغرب لهذا الحوار؟

أخيرا

لا شك أن الغرب تدخل في الثورتين التونسية والمصرية عبر الجيش والقوى السياسية والإسلامية في كلا البلدين. ولا ريب أن التدخل كان يراعي مشاعر الناس بحيث لا يبدو استفزازيا أو فاضحا. لكنه في ليبيا كان سافرا. وكشف عن أهدافه بوحشية. وما أن اندلعت الثورة السورية حتى هددت فرنسا، بوصفها صاحبة الغطاء السياسي المباشر، بالتدخل. فالرئيس الفرنسي ساركوزي كان صريحا للغاية حين قال: « كل زعيم وخصوصا كل زعيم عربي يجب عليه أن يفهم أن رد فعل الأسرة الدولية سيكون هو نفسه في كل مرة». وهذا يعني أن الحديث يجري عن تدخل وليس عن مناصرة. فما هي إذن قيمة التصريحات الأمريكية والغربية عن عدم التدخل في سوريا مثلا؟


الطريف في الاستعانة بالغرب هو ما صدر عن بعض الأطراف اليمنية التي طالبت بالمناصرة الدولية. فبعد ثلاثة شهور كاملة على انطلاقة الثورة اليمنية، ذات الصمود العجيب والنفس الطويل، طالب ائتلاف ثورة الشباب والطلاب المجتمع الدولي ومنظماته، خصوصا مجلس الأمن وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، بتحديد موقفه، وتحمل مسؤولياته، تجاه ما يرتكبه النظام من: « جرائم إبادة جماعية بحق الشعب اليمني». وغني عن البيان ملاحظة أن هذه القوى الثلاثة هي ذاتها التي وقفت خلف استصدار قرار الحظر الجوي على ليبيا!!!!


أحزاب اللقاء المشترك، بقيادة ياسين سعيد نعمان، الرئيس الدوري لها، والرئيس اليمني علي عبد الله صالح ينسقان مع السفير الأمريكي، ليل نهار، فيما يتعلق بانتقال السلطة. أما حميد عبد الله الأحمر، عضو التجمع اليمني للإصلاح، والقيادي القبلي البارز، فقد أغراه التدخل الغربي، على وقع النموذج المصري وليس الليبي. ففي لقائه مع وكالة رويترز للأنباء (30/3) قال: « ينبغي عليهم أن يقوموا بما فعلوه في مصر وليس ما يقومون به في ليبيا»، وطالب الدول الغربية، صراحة، بدعم الاحتجاجات المطالبة بخلع الرئيس، لقاء: « بناء علاقات قوية في المستقبل». وكي تكون المطالب أشد وضوحا، وكذلك الاستحقاقات الثمينة: « يتعين على المجتمع الدولي والولايات المتحدة والأوروبيين أن يتكاتفوا مع الشعب اليمني، … وأن يطالبوا مباشرة برحيل صالح»، مشيرا إلى أنه بإمكان اليمن بعدها: « أن يسيطر على القاعدة في جزيرة العرب، والذي يتخذ من اليمن قاعدة له».


ميزة هذه الدعوات الغبية تكمن في التحامها الأهوج مع ما يراه الغرب نفسه فرصة لـ « حملة صليبية» سانحة!!! وهو التحام، في واقع الأمر، يختصر الطريق على الأمة، ويُسرِّع في المواجهة، وليس في الاستقرار والعلاقات القوية المزعومة. فالأمة اليوم مشغولة بتغيير واقع سيؤدي، عاجلا أم آجلا، إلى إثارة الأسئلة المصيرية الكبرى. فإذا ما انتصرت الثورة السورية، ونجحت في وأد المشروع الصفوي، فستجد الأمة نفسها وجها لوجه مع المشروع الصليبي. فعن أي علاقات قوية يتحدث هؤلاء؟ وبأي منطق شرعي يروجون له؟



عن

شاهد أيضاً

•·.·`¯°·.·• ( لا تصدقي عبارة أن الطيب لا يعيش في هذا الزمان) •·.·°¯`·.·•

..السلام عليكم ورحمه اللهـ ..كيفكم صبايا؟..ان شاء بصحه . و عآفيه.. / / / عيشي …