قرأت الموضوع وعجبني وحبيت انقله لكم واكيد بيعجبكم…..
http://www.okaz.com.sa/okaz/myfiles/authors/fouadazab.jpg
د. فؤاد مصطفى عزب (http://www.okaz.com.sa/okaz/index.cfm?method=home.authors&authorsID=46)
يا من كنت تزينين أيامي
يأتيني صوت «مارسيل خليفة» بنغمات عوده وكلمات «محمود درويش» «أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي وتكبر في الطفولة يوماً على صدر أمي» أستمع إلى صوته كسكاكين تتنزه في الجرح، شعرت أنني في قعر بئر عميقة نضبت منها المياه، يا إلهي كم هي أغنية جميلة كان صوت «مارسيل خليفة» معبراً شجياً، كانت الأغنية أنيناً يمشط شرايين القلب فأغنية واحدة تليق بالتوقع عنك احياناً.. لقد أيقظ ذلك الصوت العميق عمق الوادي الأخضر في حجم الفقد وجعلني أستسلم إلى موجة من البكاء، وجدت نفسي بغير إرادة أسير في خدر كمن يخاف أن يوقظ النائمين، أتجه إلى الوشم المرسوم على الحائط الذي ينتهي على حافته إطار يحمل صورة أمي، اتحسس الإطار العريض المحفور، التصقت بالزجاج غرست وجهي فيه وطبعت قبلة على ذلك الجبين البهي الذي كان يوماً مضيئاً كالنحاس المغربي تحت الشمس والذي لم ينقطع عن صلاة الليل والنهار ساجداً، سكبت عليه نهراً من الأشواق، اختنقت ببكاء خافت متواصل، أغمضت عيني وانا أقبله، طليت روحي بقصدير الوجد لعل من في الإطار يفيق، نظرت إليها ببطء كانت عقارب الساعة تتعثر عند منتصف الليل.. كنت أخاطبها بلا صوت أجمع الكلمات بإعياء مطلق وأحدثها بمرارة تملأ فمي.. نعم يا نور أشتقت إلى خبزك وقهوتك وحليبك ولمستك وسعالك وضحكتك وحنانك وحبك وصوتك والجلوس إلى جانبك في قعدتك المسترخية، أشتقت لمسبحتك التي كنت تلفينها حول معصمك ويدك والتي كنت تضعينها فوق رأسي وتتلين آيات من القرآن الكريم وتدعين لي، أشتقت لرائحتك وتحية مسائك وصباحك، أشتقت لدفء صداقتك ودفء كلماتك، اشتقت لإبريق الشاي، أشتقت أن اتغدى معك رزاً مطبوخاً مع السمك أكلتك المفضلة، أشتقت إلى ان اجثوا على ركبتيك وأحدق في عينيكِ الواسعتين، وأحدثك عن هذا العالم الغريب الطباع، القاسي الملامح، الأجوف، وهذه الدنيا المرتبكة إلى أبعد الحدود، أشتقت إلى زجاجات أدويتك وبطانيتك البُنية وسجادتك، أشتقت إلى تحسس تراب قبرك؛ ذلك القبر الذي يضم جسدك والذي أصبح بيني وبينه محيط وجبال ووديان.. أنا أعلم أنك تكرهين سماع بكائي ولكن ما حيلة من أصابه الغياب الأخير يا عشبة الغياب، لقد جعلني غيابك يا حبيبتي سفينة لا تحمل في الكون إلا راكباً واحداً وأحالني إلى عجوز مجعد ممزق ضعيف القلب يمارس الحزن في خضوع تام، وحيداً وحدة كاملة كأنني أجلس داخل زجاجة مدفونة في قاع محيط، تركتيني في السفح أيتها الوفية مع الغبار ونهر الأحزان، أقطن الجحيم، أقف عارياً في فراغ حاد، متوحداً وحدة كاملة.. كنتِ أجمل ما أملك أيتها النبيلة، كنت رجلاً يملك الكثير بك.. بك، كنت أعتقد أنني أملك العالم بأجمعه وبعدكِ أصبحت الحياة لا تساوي قيمة حجر صغير فما أوحش العالم يا أمي وما اقساه ان يصحو الإنسان فجأة فيجد أنه لم يعد يملك شيئاً نعم لأنكِ كنت كنوزي كلها فرغت حصالتي بعد رحيلك نعم فرغت حصالتي بعد رحيلك.. كان لي يا نور وطناً يحتويك وساعي بريد يحمل رسائلي المرسلة إلى اسمك فقط أينما كنت وحيثما ذهبت وحارة صغيرة ضمتنا وبيت يرقص على عتباته الفرح، وكنتِ بؤرة ذلك البيت الذي تحج إليه العائلة وقلب دائرة حنانه.. انتهى كل ذلك برحيلك يانقطة الضوء، تحولت بعدك إلى طير يبحث عن وطن وأصبحت اللحظات خشنة وتراكمت الأكدار وطالني الوهن أمد يدي فلا تحتضن إلا الخواء.. يظل الشوق إليك عسجداً ينزل على درج الصدر والحنين إليك يرافقني كظلي تعاودني التفاصيل الصغيرة كطفل يلعب في الظل وحيداً يفتقد من يرعاه.. لقد مشيت على حياتي كرعشة وأقمت دكة أبدية في جوار النفس ونسجت خيوطاً خفية نمت وتربعت للأبد في قفص الروح.. أعذريني يا أمي إن أرقتك بنحيبي هذا المساء فأنا كائن من طين.. أعذري ابنك يا أماه .. ذلك الابن الذي ما زال يدعك جسمه كل صباح بماء حبك ويبكي بحرقة لفقدك، بكاء رجل على حائط ذكرى امرأة عظيمة لا يعلم هل أصبح يطارد الحزن بعدها أم أن الحزن صار يطارده، يقولون إن الموت أقوى من الذكرى، واقول لك يا أمي إن من قال ذلك لم يحظَ بأم مثلك.. نعم وحق الله لا أم مثلك.. لكم أفتقدكِ.. وأحن إليك وأتعطش ليوم واحد من أيامك يا من كنت تزينين أيامي..
:02: