صدع الأرض بين الإيجاز والإعجاز
أ . د / ممدوح عبد الغفور حسن
رئيس هيئة المواد النووية في مصر سابقاً
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، النبي، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
يدور حديثي اليوم حول بعض الإشارات العلمية في القرآن الكريم، وأود من البداية أن أؤكد على المنهج الذي ألتزم به في التفكير في هذه الإشارات الكريمة والذي ينطلق من نقطتين.
1 ـ كانت أول كلمة أنزلها الله من القرآن الكريم على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام هي أقرأ بالرغم من أنه عليه الصلاة والسلام كان أمياً لا يقرأ، ولقد رأيت في ذلك توجيهاً للرسول عليه الصلاة والسلام وتوجيهاً لكل مسلم للاهتمام بالقراءة بمفهومها الواسع، وهو العلم الذي نتعلمه بالقلم، وأفهم من ذلك أيضاً أنه ليس العلم الديني فقط مثل الفقه والشريعة مثلاً ولكنه أيضاً العلم الدنيوي مثل الفيزياء والكيمياء والفلك والجيولوجيا. بعد ذلك حث الله الإنسان على طلب العلم ونشرع وجعل لذلك ثواباً لا يقل عن ثواب العبادات، بل قد يفوقها ثواباً.
2 ـ القرآن هو كتاب عبادة وهداية وليس مرجعاً علمياً، ومع ذلك فهو يحتوي على الكثير من الإشارات العلمية التي وردت في إيجاز وإعجاز، ولقد توصلت إلى قناعة بأن هذا الإيجاز في الإشارات العلمية يهدف إلى تشجيع الإنسان المؤمن على البحث وراء معانيها ومغزاها بتحصيل العلم في المجال الذي تختص به هذه الإشارة ودون أن يحملها أكثر مما ينبغي، ولكي تكون الإشارة دافعة إلى طلب العلم دائماً فقد صيغت في إيجاز وإعجاز إلهي بحيث تظل دائماً في حاجة إلى تفسير كلما جد في العلم جديد، وتظل دائماً وحياً وإلهاماً ونقطة انطلاق لكل من يبحث؛ ولهذا فإني أعتقد أن أي تفسير لأي إشارة علمية وردت في القرآن الكريم لن يكون تفسيراً نهائياً، بل هو مرحلة ويجب تطويره مع التطورات العلمية باستمرار، وبالتالي فإنني أوقن أن من يعتقد أنه قد فسر أي إشارة علمية تفسيراً نهائياً فهو واهم؛ لأننا لا ندري ما يأتي به العلم في المستقبل. لذلك فإنني أحاول أولاً أن أفهم الظاهرة التي تتناولها الإشارة القرآنية فهما جيداً وبعدها أحاول أن أضع تصوراً للفرضية التفسيرية التي يمكن أن تكون تفسيراً لها، أخذاً في الاعتبار أن هذه الفرضية ليست نهائية وإنما هي مرحلية حسب الشواهد والمعلومات المتوفرة في ذلك الوقت، ومع تراكم المعلومات يجب مراجعة تلك الفرضيات وتعديلها.
من هذا المنطلق سأتناول شرح أربعة ظواهر جيولوجيةجاءت في سياق لعض الآيات الكريمة لأبين أن هذه الآيات تضمنت ما وصلت إليه معارفنا الحديثة، فهي بالنسبة لنا إعجاز علمي لأنها تشير إلى معارف لم تكن معروفة عند نزول القرآن، كما كانت في نفس الوقت إعجازاً في زمان نزولها بما فيها من بلاغة ومعرفة. وكلما بعدت الشقة بين الإنسان وبين زمان نزول القرآن وازداد العلم تطوراً وتقدماً، كلما ازداد وضوح إعجازه العلمي. والظواهر الأربعة التي سأتناول شرحها باختصار هي:
1 ـ الماء والمرعى في قوله تعالى: )أخرج منها ماءها ومرعاها ([النازعات : 31].
2ـ وصف الجبال بالأوتاد في الآية 7 من سورة النبأ.
3ـ صدع الأرض الذي ورد في قوله تعالى: )والأرض ذات الصدع ([الطارق : 12].
1 ـ الماء والرعي:
قال الله تعالى عن الأرض في بداية تكوينها )أخرج منها ماءها ومرعاها (فما هو المقصد من هذه الآية؟ نزلت هذه الآية على قوم يسكنون الصحراء وتشكل لهم مياه الآبار والعشب الذي ترعاه أنعامهم أهم مقومات حياتهم حيث كان الرعي من أهم أنشطتهم الاقتصادية، ومن هذا المنطلق وفي ظل علم بدائي بالنسبة لمعارفنا الحالية كان التفسير الطبيعي والمنطقي بالنسبة لهم أن خروج الماء من الينابيع والآبار هو خروج الأرض، وأن نمو العشب من التربة الصحراوية هو أيضاً خروج من الأرض، إذن )أخرج منها ماءها ومرعاها (هو وصف بليغ بلغة عربية راقية لظاهرة طبيعية تحدث أمام أعينهم. وهكذا كان أيضاً تفسير هذه الآية الكريمة في معظم التفاسير المتوارثة. ولكن إذا كان لأجدادنا، أن يتناولوا هذه الإشارة الكريمة بالتفسير، فلا شك أننا حق منهم في تفسيرها لأن معارفنا أكثر من معارفهم، وبنفس المنطلق فإن أحفادنا سيكونون أحق منا في تفسيرها أيضاً لأن معارفهم ستكون أكثر من معارفنا، ولقد توصلت معارفنا الحالية إلى استنتاجات جيولوجية صيغت في فرضيات عن نشأة الأرض وتطورها، وإذا ما أعدنا النظر فيما قد يكون المقصود من ماء الأرض ومرعاها في ظل هذه الفرضيات الحديثة نجد معاني أكثر عمقاً مما قال به الأقدمون؛
صورة لأحد البراكين تبين عملية خروج بخار الماء والكربون عبر الغازات المنبعثة من فوهة البركان
فعلى أي فرض من فروض النظريات الجيولوجيات الحديثة عن أصل الأرض فإنها لا بد وقد مرت بمرحلة كانت فيها كتلة منصهرة منذ حوالي 4500 مليون سنة، ثم تمايزت إلى أغلفتها المختلفة لتبريدها، ومن هذه الكتلة الملتهبة كانت تتصاعد المواد المتطايرة من غازات وأبخرة ومن أهمها بخار الماء وثاني أكسيد الكربون، وكان بخار الماء يتكثف في طبقات الجو العليا ثم يتساقط على الكرة الملتهبة ليتبخر مرة أخرى ويتصاعد بخاراً إلى طبقات الجو العليا ثم يتساقط ثانية، وهكذا حتى بردت الأرض إلى درجة تسمح ببقاء الماء سائلاً على سطحها لتكوين البحار والمحيطات وبداية دورة الماء الجيولوجية التي نعرفها جميعاً، وهكذا نجد أن فهمنا لخروج الماء من الأرض قد تطور وتعمق على مر الزمن، وظل التعبير القرآني المعجز كما يمكن فهمه على مستويات متعددة. أما المرعى الذي خرج من الأرض مع مائها فمن الممكن النظر إليه على أنه ثاني أكسيد الكربون لأن هذا الغاز من الغازات الأساسية في المجموعة الشمسية ويتواجد في كل الكواكب تقريباً، وبدونه لم يكن من الممكن ظهور النباتات الخضراء التي تقوم بالتمثيل الضوئي الذي هو منشأ الغذاء للنبات والحيوان على حد سواء، فمن الممكن النظر إلى العشب على أنه لم يتواجد إلا لوجود ثاني أكسيد الكربون سابقاً عليه؛ فإن كان العشب هو مرعى الأنعام فإن ثاني أكسيد الكربون هو مرعى العشب، تتغذى الأنعام على العشب ويتغذى العشب على ثاني أكسيد الكربون. لقد غيرت المعارف الحديثة نظرتنا إلى معنى المرعى، وفمنا الآن بصورة أخرى ولكن ظل التعبير القرآني كما هو. وإذا ما أخذنا الأسلوب فإننا نجد التعبير قد صيغ بصورة جمالية فيها الدليل على الغنى بالمعاني المتتابعة والمتطورة مع التطور العلمي، وهي أيضاً إضاءة إلى حقيقة علمية لم تكون معروفة وقت نزول القرآن ولم يكن للنبي الأمي أن يعرفها إلا بوحي من الله.
2ـ الجبال أوتاد:
تبين الصور التي ستعرض لتوضيح شكل الجبال أن وصفها بالأوتاد هو أبلغ وصف لها؛ لم نكتشفه إلا حديثاً، ولم يخطر على بال أحدٍ منذ 14 قرناً أن الجبال الشاهقة مثل جبال الألب أو الهمالايا لها جذور تغوص في الوشاح وأنها تشبه إلى حد كبير جبال الثلج العائمة على الماء، وأنه كلما زاد ارتفاع الجبل كلما ازداد غاطسه تحت السطح، وهذا هو السبب في اختلاف سمك القشرة الأرضية من مكان لآخر، فصخور القشرة كلها ما هي إلا عوامات على صخور الوشاح لأن الوزن النوعي للقشرة أقل من الوزن النوعي لصخور الوشاح.
هذه الصورة تبين عمق جذر الجبل في قشرة الأرض والذي يمكن أن يصل إلى 60كم تحت سطح البحر والذي أطلق عليه القرآن بالوتد ليحمل معناً إضافياً وهو تثبيت الجبال على سطح القشرة الأرضية.
إن شكل الجبل الصخري يشبه تماماً شكل الجبل الجليدي والفرق أن الجبل الجليدي يسبح فوق المياه المتجمدة أما الجبل الصخري فيسبح فوق طبقة الوشاح
3ـ صدع الأرض، وليس صدوع الأرض:
لقد استعار الجيولوجيون كلمة صدع ليطلقونه على أحد التراكيب الجيولوجية الشائعة التي تشاهد في الصخور، وذلك بمفهوم أن الصدع هو شق يحدث للشيء فيشقه إلى جزءين يتحركان بالنسبة لبعضهما، وأخذ تفسير الآية بهذا المعنى؛ فالصدوع ظاهرة جيولوجية شائعة وهي من أوائل ما يدرسه طالب الجيولوجيا.
وقد يكون امتداد الصدع محدوداً ببضعة أمتار وقد يصل إلى مئات الكيلومترات، وارتاح الجيولوجيون لهذا التفسير وظنوا أن المفرد في الآية الكريمة يشمل أيضاً الجمع. إلا أن التقدم العلمي أظهر الحقيقة المذهلة بأن المفرد في الآية الكريمة قد يكون القصد منه المفرد فعلاً؛ فهناك صدع واحد بالمفهوم الجيولوجي يلف الأرض كلها ولكنه مغمور في وسط المحيط، ويمكن أن نلقط طرفه عند جزيرة أيسلند في شمال المحيط الأطلنطي وتنطلق معه على طول المحيط في منتصف المسافة بين أفريقيا وأمريكيا ثم نعرج معه حول جنوب أفريقيا لنعبر المحيط الهندي ونصل إلى المحيط الهادي لندخل تحت قارة أمريكا الشمالية من عند كاليفورنيا ونخرج بعدها من عند ألاسكا !!!
صورتان توضحان مجموعة من الصدوع التي تحيط بالأرض والتي تشكل باتصالها صدعاً واحداً وهذا يطابق عن ما أخبر القرآن الكريم عنه
وهناك فرع من هذا الصدع العظيم يمر بطول البحر الأحمر ليشق خليج العقبة ثم وادي الأردن وحتى شمال سوريا لينتهي في جبال زاجروس ويكون السبب في تكوينها، وهو أيضاً السبب في زلزال خليج العقبة الذي لا زال حياً في ذاكرتنا، بل عن هذا الصدع وما يحدث عليه من نشاط هو السبب في العمليات الجيولوجية الداخلية التي تظهر لنا في صورة الزلازل والبراكين والصدوع وتزحزح القارات وبناء المحيطات كما يظهر من الصور التي ستعرض مع هذا البحث.
“`
أ . د / ممدوح عبد الغفور حسن