هذه أول مشاركة لي في هذا القسم وإنشائ الله تحوز على رضاكم وهذه الرواية أو السرديات للكاتب الأديب د. محمد الحضيف.
وقد قرأتها وأعجبت بها كثيرا لما تحمله من معاني ومبادئ سامية ليست كباقي الروايات تعتمد كليا على الحب وتجعله محور لكل أبطال القصة أتمنى وأرجو من الجميع أن يتحفونا رآرائهم الرائعة حول هذه الرواية بعد قرآتها. 💡
عائشة .. في غـرفة التشريح .. !
بدأ حلماً .. يراودها ، منذ تسع سنوات . وقتها .. كانت في الصف الثالث الابتدائي ، حين صارحت أمها ، بأمنية ( بريئة ) كأحلام الطفولة ، بعد موقف مرّ بهما . موقف ظل يتكرر كثيراً ، في أعوام تالية ، كلما أخذ والدها والدتها إلى المستشفى ، للكشف عليها .. حين تمر بعارض صحي . تسمع توسلات أمها عميقة ولحوحة ، وهي تتمنّع في بعض المرّات ، عن الذهاب إلى المستشفى ، رغم وضعها الصحي السيء ، ثم توافق على مضض :
– أرجوك يا ناصر ، إذا كان دكتور ، لا أريده أن يكشف علي ..!
في كل مرّة ، كان زوجها يرد بحزم :
– ليس عندنا حل ثانِ يا مها ، إذا لم يكن هناك دكتورة ..
– لا .. أرجوك يا أبا أحمد .. أموت ، ولا يكشف عليّ رجل .
سنوات تمضي ، ومشهد يتكرر . في إحدى المرّات .. تذكر أن والديها ، عادا من المستشفى ، بكيس من الأدوية . أبوها كان هادئاً ، لكن والدتها بدت بحالة نفسية متردّية ، أسوأ من تلك التي ذهبت بها . سمعت والدها يتحدث .. يطمئنها ، ويؤكد بأن حالتها عادية ، ولا تستدعي القلق ، وأقسم على ذلك عدة مرّات .. وأن الطبيب أخبره بذلك . ثم ختم حديثه قائلاً :
– وكان كذلك ، مؤدباً جداً .. وهو يكشف عليك . أليس هذا هو المطلوب ؟
أفرغ كيس الأدوية على طـــاولة صغيرة ، في وسط غرفة النوم ، وأخذ يستعرض تعليمات الاستعمال ، الملصقة عليها :
– كل شيء واضح .. أهم شيء الالتزام بالمواعيد .
نظر إلى ساعته وقال :
– سأخرج للصلاة الآن ، ولدي موعد بعدها ، استريحي .. عائشة ستساعدك .
نادى على ابنته ، وقال ممازحاً :
– أكيد تعرفين .. تقرأين ..؟
هزت رأسها ..
– شوفي التعليمات المكتوبة على الأدوية ، وأعطيها ماما .
جثت على ركبتيها قريباً من الطاولة ، ثم التقطت منديلاً ورقياً ، وفرشته في إحدى زواياها . شرعت تقرأ الإرشادات ، المرفقة مع كل علبة دواء ، ثم تفتحها ، وتأخذ منها ، حسب ما هو مبين في ملصق التعليمات ، وتضعه على المنديل ، حتى مرّت عليها كلها ، وأعادتها بعد ذلك إلى الكيس . أحضرت كأس ماء ، ثم جمعت الدواء في المنديل ، واتجهت إلى والدتها ، التي كانت قد استلقت على السرير ، ووضعت وسادة على وجهها :
– ماما .. الدواء ..
التفتت الأم ، بعد أن رفعت الوسادة عن وجهها ، ونظرت إليها بعينين مبللتين . مدت يدها إليها لتأخذ الدواء ، وبقايا ألم ما زالت في العينين .. تحاول أن تواريها :
– تسلمين حبيبتي ..
– أمي .. بابا يقول ، أنت طيبة ، وما فيه شيء خطير ، ليه أنت متضايقة ؟
– ما فيه شيء حبيبتي ..
– أجل ليه تبكين يا ماما .. أنت متضايقة من المستشفى ..؟
أغلقت كفها على الدواء ، ثم أغمضت عينيها وأطرقت . كانت تحبس وجعاً غير عادي ، وتتمنى لو تجد من تبوح له به . في خاطرها أن البنت صغيرة ، ولا تستوعب حديثاً عن أحوال النساء .. بهذا المستوى . كيف تفصح لها ، عن خجلها الشديد ، من كشف الطبيب عليها ؟
عندما رفعت رأسها ، كانت ابنتها ما زالت واقفة ، ممسكة كأس الماء بيدها ، وعلامات الاستفهام ، قد استولت على كـــــامل وجهها . أخذت كأس الماء منها ، وتـــناولت كومة حبوب الدواء من المنديل ، وجمعتها في كــفها ، ثم قذفتها في فمها ، وأتبعتها بجرعة ماء . وضعت الكأس بجانبها ، ولم تشأ أن تنظر في وجهها ، حتى لا تشعر بحرج من تهربها من الإجابة . أحست بها تتقدم نحوها .. ثم تقف ، وتطوق عنقها بكـــفين ، وساعدين ممدودين . رفعت رأسها ، ولما التقت نظراتهما .. فاجأتها بما لم تتوقع :
– ماما .. لمّا أكبر ، أصير دكتورة وأكشف عليك .
صرخت وضمتها :
– يا عمري يا ( عيّوش ) .. حاسة فيني ..!
انـــزاح عن صـــــدرها هم ثــــقيل ، فانفرجت أساريرها . كـــــانت تريد البوح ، أن تتـــــحدث إلى ( أحد ) . لم تظن أن عائشة الصغيرة ، قادرة على إدراك ما يعتمل في داخلها . أجلستها إلى جانبها على طرف السرير ، وانطلقت تحدثها عن حيائها من الرجال ، وشعورها بالإثم ، لإطلاع الطبيب على أجزاء من جسدها :
– أستحي يا بنيّتي ، وأحس إني أموت مئة مرّه ، قبل ما يخلص الدكتور من الكشف .
لم تعلق عائشة ، وإنما استمرت تتأمل أمها ، وتمسح وجنتيها بكفّيها .. وتكرر بين آن وآخر جملتها : ” أكبر وأصير دكتورة ، وما يكشف عليك إلا أنا ” . تبتسم الأم وتضمها ، لكنها لا تخفي عدم رغبتها في أن تصبح عائشة طبيبة :
– اسم الله عليك يا حبيبتي .. أخاف عليك..!
كبرت عائشة ، وبقي الحلم يكبر ، في كل مرّة يتكرر الموقف ، حينما تضطر أمها للذهاب إلى الطبيب .. وكثيراً ما حدث ذلك . حلم طفلة التاسعة ، بقي خواطر عفوية ساذجة ، تروح وتجيء ، إلى أن كان قدره أن يتعرض لصدمة ، حوّلته إلى هدف ، غير قابل للمساومة .. لفتاة أصبحت أكثر نضجاً ، وتقترب من سن الزواج ، وصارت تعرف من أمور النساء الشيء الكثير .
في مجتمع ينشئ نساءه ، على الحشمة والحياء ، وتنظر المرأة لذلك ، على أنه مقياس لقيمتها ، وسور يمنع التعدي عليها .. لم يكن صعباً أن تفـــهم ، لماذا تعاني أمها ، كل هذه المعاناة ، في كل زيارة لها .. للطبيب . إنها .. بمفهوم آخر ثقافي ، غــــير معــــلن ، تعتبر إطلاع الطبيب الرجل ، على خصوصية جسدها إنتهاكاً لمحرم ، واختراقاً لحصونها ، التي تستمد منها ، واحدة من أهم قيمها المعنوية . في مقابل القيمة الحسية ، التي تَعْمَد إلى ( تَشْيِيء ) المـــــــــرأة ، والنظر إليها ، بوصفها شـــــيئاً ( متاحاً ) ، باعثاً للّذة .. ومن ثم ابتذالها جنسياً ، يعلي الحياء والحرص على خصوصية الجسد .. من القيمة المعنوية للمرأة ، بوصفها كــــينونة بعقل .. ومنظومة قيم . صحيح أن حالة والدتها ، لا تتكرر كثيراً ، لكنها تستند إلى بيئة تربوية وثقافية .. تتفاوت النساء في تمثّلها .
كانت شابة في السابعة عشرة .. طالبة في الصف الثاني الثانوي ، حينما رافقت أمها الحامل ، برفقة والدها إلى المستشفى .. في رحلة أحدثت تحولاً عميقاً في مجرى حياتها :
– أمك تحتاج إلى مساعدة يا عائشة .. تعالي معنا . أصلّي المغرب ونمشي .. كونوا جاهزين ..
حين وصلوا المستشفى ، توجهوا لقسم الطوارئ . قصد موظف الاستقبال ، وقال أن زوجته حامل ، وتشكو من آلام شديدة ، رغم أن موعد وضعها لم يحن بعد :
– لديها ملف ..؟
– نعم ..
ثم مد يده إلى جيبه ، وأخرج بطاقة بلاستيكية ..
كانت على كــرسي متحرك . أشار إليه ، وهو يمد البطاقة .. إلى ممرضة على يمينه ، بأن يدفعها باتجاه مكتب ، يتجمع حوله عدد من الممرضات . أخذت الممرضة التي تحدث إليها ، البطاقة التي كانت تحمل اسمها ، ورقم الملف ، ومعلومات عامة عن المريض . شرعت تملأ البيانات ، في ورقة تناولتها من ملف أمامها ، وتملي في الوقـــت نفسه ، عبر الهاتف ، الذي رفعته بكتفها ، وألصقته بأذنها .. معــلومات الملف ، على شخص آخر تحادثه . أثناء ذلك ، كانت الممرضات الأخريات قد وضعنها على سرير ، في إحــــدى غرف الطوارئ ، وبدأن بأعمال الفحص الأوّلي . أبـــــو أحمد .. زوجها ، كان متوتراً ، على غير عادته ، فبادر الممرضة :
– هاه .. يا ( سستر ) ، إن شاء الله خير ..؟
– إن شاء الله .. ” ممكن فيه ولادة ، بس لازم دكتور يشوف أول ” .
عائشة كانت إلى جوار أمها ، حـــين لاحظت أنها انتفضت ، بمجرّد سماعها كلمة ( دكتور ) . بعفوية لا تخلو من توتر ، سحبت الأم الغطاء على بطنها المكشوف ، رغم أنه لم يكن موجوداً ، إلا زوجها وابنتها والممرضة ، التي تقيس ضغطها ، ودرجة حرارتها .. ولم تكن قد انتهت بعد ، من استكمال إجراءات الكشف . لما أرادت الممرضة أن تزيح الغطاء ، لتضع السماعة على بطنها ، أبعدت يدها ، واجترّت نفساً عميقاً .. وقالت :
– أرجوك يا ( سستر ) ، إذا خلصتِ .. أبغى دكتورة تكشف علي .
لم ترد الممرضة ، وإنما واصلت إجراءات الفحص ، وطرح الأسئلة التقليدية ، عن تاريخها المرضي ، وإذا ما كان لديها حساسية ، تجاه دواء معين . تجاهل الممرضة لطلبها ، زادها إحباطاً ، ورفع وتيرة قلقها .. فنظرت إلى زوجها بعينين منهكتين ، أثقلهما الإحراج ، والشعور بالعناء الذي تسببه له .. فعجزت عن فتحهما بكامل استدارتهما .. وقالت :
– أسألك بالله .. يا أبو أحمد ، فكّني من وجع القلب هذا ..!
أغضى .. وتنهد بصوت مكتوم ، ولم يعلّق . وقف للحظة .. ثم شد على يدها ، قبل أن يذهب . خرج من عندها ، وصار يتلفّت بحثاً عن أحد يسأله . شاهد شاباً يرتدي معطفاً أخضراً ، يناقش إحدى الممرضات في ورقة يحملها . اقترب منه ، وأخبره بحاجة زوجته لعناية عاجلة . لم يقطع الشاب حديثه مع الممرضة ، بل التفت بسرعة .. وقال وهو يشير بيده .. باتجاه أحد الأشخاص :
– كلّم الدكتور بشير ..
– وأنت ..؟
– أنا طبيب امتياز .
– يعني ..؟
لم يـــــرد عليه ، بل استمر في حديثه ، واكتفى بالإشارة إلى شخص سوداني في طرف الصالة ، عليه معطف أبيض ، ويتحلق حوله عدد من الأشخاص ، بينهم ممرضات . سأل إحدى الممرضات عن الدكتور بشير ، فأشارت إليه . أراد أن يحدثها عن حالة زوجته ، فاعتذرت وأخبرته .. أن عليه أن يتحدث مع الطبيب المسؤول في قسم الطوارئ .. الدكتور بشير . اقترب وحيّاه :
– مساء الخير دكتور ، أنا زوجتي حامل وتعبانه .. ممكن ..
– الدور جاي عليها ، دقائق فقط ، وأجيء لها .
– المشكلة يا دكتور ، إنها تريد طبيبة تكشف عليها .
– للأسف .. الليلة الدكتورة صار عندها حالة طارئة .. ومشت ، ولا يوجد في القسم عندنا ، إلا دكاترة رجال ، يكشفون على المرضى .
– والولادة ..؟ الممرضة قالت أنها ربما تكون عندها حالة ولادة مبكرة ..!
– موضوع الولادة ليس فيه مشكلة ، على حد علمي ، يوجد طبيبة ، لكن دعنا الآن نراها ، ونعرف ما هي حالتها بالضبط ، مع الدكتور فيصل ..
ثم أشار برأسه إلى طبيب ، يقف على بعد أمتار منه ، يقلب مجموعة أوراق بين يديه . يبدو الدكتور فيصل ، من ملامحه ومظهره الخارجي أنه سعودي . فرح بذلك ، وقال يحدث نفسه : دكـــتور سعودي .. سوف يتفهم موقف زوجتي ، ورفضها للأطباء الرجال .. ويقدر حالتها النفسية ، وشعورها .
عاد إلى زوجته ، وفضل أن يبدأ بإطلاعها ، على ما يظن أنه الخبر الذي سيطمئنها ويريحها . يعلم أنه لو أخبرها بعدم وجود طبيبة ، تتولى الكشف عليها ، فإن وضعها النفسي سيتدهور ، وحالتها الصحية ستزداد سوءاً . قال إنه تحدث إلى الدكتور رئيس قسم الطوارئ ، عن رغبتها في طبيبة تتولى متابعة حالتها ، وأن الدكتور أكد وجود طبيبة نساء وولادة ، سوف تتولى رعايتها ، والإشراف على الولادة .. بمجرد أن يتم تحويلها من الطوارئ إلى قسم التوليد ، بعد أن تنتهي إجراءات الكشف ، والتأكد من حالتها .. ثم أضاف ، بكثير من الاطمئنان :
– هناك أيضاً دكتور سعودي موجود في الطوارئ ، سيساعدنا لو حصل أي إشكال ..
بدت أمارات الرضا على وجهها ، ولم تنتبه لكلام زوجها ، أن من سيتولى الكشف عليها ، وينهي إجراءات فحصها .. قبل تحويلها لقسم التوليد ، دكتور وليس دكتورة . كان انتباهها مركزاً على الجزء الأول من الكلام ، الذي يتحدث عن طــــبيبة النــساء والولادة . عائشة انتبهت للأسلوب ، الذي خاطب به والدها والدتها ، ولاحظت مظاهر ارتياح اتسم بها حديثه ، وهو يتحدث عن وجود طبيب سعودي . انتبهت أيضاً للسكينة التي غمرت أمها ، بعد سماعها لكلام والدها . اختلست نظرة لوجه والدها ، الذي أدرك ما يدور في خاطرها .. فتبادلا ابتسامة ارتياح وإعجاب . هي للطريقة الذكية التي استخدمها لطمأنة أمها ، وهو لذكائها وسرعة بديهتها .
كانت الممرضة قد فرغت من إجراءات الفحص ، ودونت النتائج في بيان معها ، وعلى وشك أن تخرج ، حين دخل الدكتور بشير السوداني ، ومعه الطبيب الآخر ، الذي كان واضحاً ، من لهجته وكلامه أنه سعودي . أخذ الدكتور بشير الورقة من الممرضة ، وتحدث بلغة إنجليزية مع الطبيب الآخر ، وصارا يستعرضان المعلومات التي دونتها الممرضة . طلب الدكتور بشير من الممرضة أن تكــشف عن بطن المريضة . تمسكت أم عائشة بالشرشف ، لكن زوجها نظر إليها بعتاب .. وخاطبها بصوت خافت :
– مها ..!
طرفت عيناها من خلف النقاب ، ثم أرخت قبضتي كفيها عن الغطاء .. وتنهدت بعمق . في الوقت نفــــسه ، انحنت عائشة ووشوشت في أذن أمها بكلمات غير مسموعة ، أطلقت بعدها الشرشف ، وتركت الممرضة تقوم بواجبها .
وضع الدكتور بشير السماعة على الجزء الظاهر من بطنها ، وتحدث مع الطبيب الآخر ، الذي تناول منه السماعة ووضعها في أذنيه . أصغى لبضع ثواني ، ثم التفت إلى الدكتور بشير ، وهز رأسه موافقاً ، وعلق بعبارة واحدة . كان الحوار باللغة الإنجليزية ، فلم يفهموا شــيئاً مما دار بينهما . التفت الدكتور بشير إلى والد عائشة ، أبو أحمد وقال :
– زوجتك لديها حالة ولادة مبكرة ، وسنكتب لها إذن تنويم . الدكتور فيصل هو استشاري النساء والولادة .. سيتولى إكمال الإجراءات .. والإشراف على الولادة .
تبادل أبو أحمد نظرات سريعة مع زوجته ، التي فاجأها الخبر ، وكان خلاف ما توقعته .. فظهر الهلع في عينيها ، وأخذت تجمع الشرشف حولها بعصبية ، وتردد : لا .. لا . كان الدكتور بشير على وشك أن يخرج ، قبل أن يستوقفه زوجها ، ويقول له :
– لكني يا دكتور ذكرت لك ، أن زوجتي لديها مشكلة ، ولا تريد إلا دكتورة لتقوم بتوليدها .
– والله يا أستاذنا ، هذا ليس من اخــــتصاص الطوارئ .. كلم الدكتور فيصل .. هو المسؤول .
غادر الدكتور بشير ، فالتفت أبو أحمد إلى الدكتور فيصل ، الذي كان يرتب إجراءات التنويم مع الممرضة ، وسمع الحديث الذي دار بينه وبين الدكتور بشير .. فقال :
– دكتور فيصل ، لو سمحت ..
قبل أن يكمل كلامه ، فاجأه الدكتور فيصل ، دون أن ينظر إليه ، وهو ما زال منشغلاً مع الممرضة .. برد جاف ، وتقاطيع جامدة :
– الإجراءات تتم حسب المتوفر ..
– الدكتور بشير ، قال لي قبل وصولك بدقائق ، إن فيه طبيبة .. دكتورة .
انفعل الدكتور فيصل ، ورد بعصبية :
– يعني أنا كذاب ..؟!
– أنا ما قلت كذا ..!
واصل الدكتور فيصل انفعاله ، وبوتيرة أعلى :
– قلت .. أو ما قلت ، أزعجتونا . كل واحد يجيء لي .. أبغى دكتورة تولد زوجتي . إيش الأوادم هذي ؟ صلحوا لكم مستشفيات بمزاجكم . عاجبك نظامنا ، أو خذ زوجتك وتوكّل على الله .. الباب يوسع جمل ..!
ثم ختم ردّه الحاد ، بعبارة خافته ، حاول أن تكون غير واضحة :
– ناس متخلفة ..!
لكن يبدو أن أذن أبو أحمد ، قد التقطت الكلمة :
– يا دكتور .. هذا مستشفى حكومي ، ومن حق المواطن أن يلقى احتراماً ، وخدمة صحيحة . التخلف .. ليس التزام الإنسان بما يؤمن به ، بل معاملة الناس بهذه الطريقة .
اندفع الدكتور فيصل خارجاً من غرفة الفحص ، بعد أن أكمل بلغة غاضبة ، توجيه تعليماته للممرضة . لم تفلح في إيقافه .. عبارة : ” أرجوك يا دكتور ” ، التي ظل أبو أحـــمد يرددها .. أملاً في أن يستمع إليهم ، ويتفهم ظروف زوجته ، ووضعها النفسي . أراد أن يشرح له ، أنها ليست مسألة حلال أو حرام فقط ، ما يجعل زوجته ترفض الأطباء الرجال .. وهو ما فهمه ، من وصفه لهم بالتخلف .. بل بسبب حالتها النفسية . كان واضحاً أن مــــوقفه قطعي ونهائي ، لأن الممرضة ، بعد انصرافه ، جاءت وأكّدت لهم ، أن الدكتور فيصل ، طلب منها أخذ توقيعه وإقراره ، على أن من سيتولى توليد زوجته طبيب رجل ، وليس طبيبة .
أراد أن يتبعه .. ليجادله ، لكنه فضل أن يبقى ليهدئ زوجته ، التي أخذت تنتحب ، وفاض الدمع من عينيها ، حتى بلل معظم نقابها . منظر زوجته تتلوى من الألم ، وموقف الدكتور الحاد من طلبهم ، جـعله يشتعل سُخطاً وغضباً .. ولم يبقِ مجالاً للصبر ، فخرج ليلحق به . جال في قسم الطوارئ يبحث عنه ، وهو يردد بغيظ :
– أين دكتوركم المحترم ..؟
لم يجده .. وكذلك الدكتور بشير ، لم يكن موجوداً .. هو الآخر . بدأ يعلو جداله مع موظف الأمن ، الذي كان يطالبه بالهدوء .. أو سيضطر لاستدعاء الشرطة لإخراجه . زوجته وابنته كانتا تسمعانه من داخل غرفة الفحص . خشيتا عليه أن ينفعل ، فيقدم على تصرف غير محسوب :
– عائشة .. نادي على والدك بسرعة .
خرجت عائشة لتجد والدها في جدال محتدم مع رجل الأمن ، وبعض العاملين في قسم الطواريء . نادت عليه ، وأخبرته أن أمها تريده . حين دخل على زوجته ، كان وجهه محتقناً ، عليه أثار الإجهاد والغضب ، من النقاش الحاد ، والشعور بالإحباط . لم يطق الصبر على نظراتها الكسيفة ، ولا استطاع أن يديم النظر إلى وجهها الأبيض الغض ، الذي انقبض وعــصرته آلام المخاض ، وشحب .. فصار أصفر ، بعد أن امتص نضارته ، الإحساس بالعجز .. والمهانة ، من طريقة تعامل الدكتور فيــصل معهم . قال لها .. كأنما يريد أن يعيد إليها ولنفسه ، كرامة مهانة ، وإنسانية مهدرة :
– حبيبتي مها ، لا يهمك الدكتور قليل الأدب هذا . الآن نطلع ، ونروح لمستشفى خاص ، وتولّدك دكتورة .
ثم التفت إلى ابنته .. ليؤكد ما عزم عليه :
– عائشة .. هاتي عربية . أنا سأساعد ماما على النزول من السرير .
اعتدلت زوجته في جلستها ، وأمسكت بيد ابنتها ، لتمنعها من الذهاب ، وقالت .. وهي تنظر إليه ، بعيون امتلأت حباً :
– لا يا ناصر .. الله يخليك لنا . المستشفيات الخاصة تكلف كثير ، وأنا ولادتي ، يحتمل أن تكون غير طبيعية . العمليات القيصرية غالية جداً .. يفرجها ربك إن شاء الله .
ثم أضافت ، بنغمة لا تخلو من خوف :
– تذكر جيراننا أم خالد .. كيف طردهم المستشفى الحكومي ، لعدم وجود أَسِرِّة .. لأن زوجها ، ليس من منسوبي ذلك القطاع ، وراحوا لمستشفى أهلي ، وكلفتهم الولادة أكــثر من 25 ألف ريال .. ما قدروا يدفعونها ، فرفض المستشفى تسليمهم المولود ، إلا بعد شهر ، لمّا استلفوا .. ودفعوا لهم .
عائشة كانت ترقب المشهد . تتأمل صراع أمها مع الألم ، وصراعها مع نفسها .. بين رفضها أن تذهب إلى مستشفى خاص ، سوف يكلفهم فوق ما يطيقون ، وبين قبولها بأن يتولى عملية توليدها رجل ، وهو أمر فوق أن تحتمله . نغمة اليأس العميق ، بدت واضحة جداً ، وهي تعترض على اقتراح زوجــــها . جملتها الأخـــــيرة : ” يفرجها ربك ” ، خرجت خافتة متقطعة ، وعبّرت عن حقيقة شعورها العميق ، بالأسى والمرارة ، رغم أن ظاهر كلامها خلاف ذلك . حين أنهت عبارتها هذه ، أسبلت جفنيها ، ثم انزلقت على وسادتها ، فغاص رأسها في الوســــادة ، وهبط صدرها ، بعد أن زفرت نفساً عميقاً . بدا المشهد ، بين انغماس رأسها في الوسادة ، وهبوط صدرها .. وكأنها تهوي إلى قاع .
ألم عائشة تضاعف ، وهي تشـــاهد والدها تقسّمه الحيرة ، بين ما آلت إليه حال أمها ، بسبب موقف الدكتور فيصل ، وبين رغبته في أن يساعدها ، للخروج من هذا الوضع ، بنقلها إلى مستشفى خاص ، رغم ضعف إمكاناته المادية . انتبهت إلى أن حيرته تضاعفت ، بعد رواية أمها لقصة أم خالد . تسترجع المشهد لبضع دقائق مضت ، حين كــــان والدها ، يشرق وجهه بالأمل ، وتكسو محيّاه علامات الارتياح ، لوجود طبيب سعودي . تلحظ الآن ، شعوراً بالمرارة ، يجعله يوالي ارتشاف الماء ، من زجاجة مياه صحية لم تفارق يده ، منذ أن تجادل مع العاملين في قسم الطوارئ ، حول موقف الدكتور فيصل . سمعته يردد في جداله معهم : ” تصوّروا .. يصفنا بالتخلف ، لأن زوجتي امرأة تستحي ، وتراقب ربها ، ولا تريد أن يقوم بتوليدها .. إلا طبيبة . هل يعقل أن يكون هذا الدكتور وأمثاله ، من نفس مجتمعنا ، ويدينون بدينه ..؟ ” . أحست أن صدمتها من تعامل الطبيب ، وخيبة أمل والدها به ، أشد أذى على نفسها ، مما اعترى والدتها من انزعاج ، لعدم وجود طبيبة تـــتولى توليدها .
هــذا المــوقف ليس الأول ، الذي يصدمها فيه تعامل بعض السعوديين . العام الماضي ، روت لها زوجة خالها ، التي كانت عائدة من رحلة خارجية ، موقف راكب سعودي ، رفض أن يتنازل لهم عن مكانه ، ليلتئم شمل الأسرة ، وتبرع بذلك شخص هندي . تتذكر أن زوجة خالها ، قالت بسخرية ، تعليقاً على ذلك الموقف : ” لا .. وبعد ، لابس قميص ( تي شيرت ) ، كاتب عليه : ارفــع رأسك .. أنت سعودي . على ويش ..؟ على زين الطبائع ..! ” .
ابتسمت في سرها ، إذْ صادف تعليق زوجة خالها ، قناعة داخلية لديها ، بأن هذا الشعار ، ينطوي على إحساس مزيف بالتفوق .. ولا يخلو من نبرة عنصرية ، تكرّس فوقية فارغة .
استغرقت في التفكير ، تتأمل والديها الموزعين بين عناءين : الرهاب النفسي لوالدتها من الأطباء الذكور ، وعجز والدها عن تحقيق رغبة أمها . مادياً .. بسبب ضيق ذات اليد ، ومعنوياً بسبب صلف الدكتور وعجرفته . عادت بها الذاكرة إلى سنوات مضت ، إلى حلم صغير لابنة التاسعة . أمنية طفلة باحت بها .. في لحظة براءة ، لأم اشتكت إلى ربها .. في خلوتها ، عجزها ، وقلة حيلتها . كادت أن تفلت منها ابــــــتسامة ، في أجـــــــواء الأسى هذه ، حــــــــــين تذكرت قولتها القديمة لأمها : ” ماما .. لما أكبر أصير دكتورة ، وأكشف عليك ” . أحست أن هذه الأمنية ، صارت أكثر إلحاحاً .. الآن ، لتكون حقيقة . شريط الذكريات انقطع فجأة ، على صوت ممرضة تزيح ستارة غرفة الفحص ، وهي تدفع سريراً بعجلات .. وتقول :
– ” يا الله ماما ، نروح القسم ، فيه تنويم ” .
تناظروا فيما بينهم . الأب لزم الصمت ، أما عائشة فاصطنعت ابتسامة ، لتشجع والدتها على النهوض ، وصارت تهز رأسها ، وتشير إلى السرير الذي تمسك به الممرضة . أدركت والدة عائشة أن صمت زوجها ، ينطوي على موافقة ضمنية على رأي ابنتها .. بالاستجابة للممرضة . أصلحت من ملابسها ، ونهضت واستقرت على السرير .
دفعت الممرضة السرير باتجاه باب خشبي من درفتين ، لونه أزرق فاتح ، بمستطيل زجاجي .. يمتد عمودياً وسط كل درفة . من خلال الزجاج ، يبدو ممر طويل ، يلمع بلاط أرضيته البلاستيكية ، من شدة النظافة . حين انطبقت درفتا الباب ، لحظة تجاوزوه .. اختنقت الأصوات ، التي كانت تملأ قسم الطوارئ ، فخيّم الهدوء ، إلاّ من وقع أقدام ، لرجل يسرع الخطو ، في آخر الممر .
نحيب أم أحمد المتقطع ، صار هو الأعلى ، مع ابتعاد وقع خطوات الرجل . صار صوتها كذلك ، يرتفع احتجاجاً ، فيدوي في المكان.. معترضة على ذهابها لقسم الولادة . الممرضة التي يبدو أنها قد تأثرت بحالتها النفسية ، وشاهدت انفعال الدكتور فيصل في حديثه معهم ، أشفقت عليها ، وسعت لتهدئتها .. بعــــبارات من نوع : ” ماما .. ليش فيه خوف .. كله بسيط ، هذا فيه بنج ، ما فيه ألم . إن شاء الله .. الله يخلي ولادة طبيعي ” .
كانت الممرضة ، أثناء حديثها مع أم أحمد ، تربّت على كتفها بهدوء ، أو تضع كفها على جبينها . حديثها اللطيف ، ولمساتها الحانية ، جذبت انتباه عائشة ، فاختلست نظرة إلى بطاقتها الشخصية ، المعلقة على صدر معطفها . استطاعت أن تلتقط اسمها الأول : روزماري . أثار الاسم فضولها :
– ( سستر ) .. أنتِ من أندونيسيا ..؟
ردّت بابتسامة :
– ” لا … أنا فلبين ” .
فاجأها الرد . كأنما كانت تتمنى أن تكون من أندونيسيا ، رغم أن ملامحها ، واسمها لا يدلان على ذلك . في ذهنها .. ارتبطت اندونيسيا بالإسلام ، والفلبين بالمسيحية . همست لنفسها : ” من الفـــلبين .. ليست مسلمة ، تعاملها طيب ، يا الله .. خسارة ” .
أبقت في نفسها أملاً .. أن تكون من مسلمي الفلبين ، لكنها استحت أن تسألها عن دينــها ، وأحست بحاجز نفسي ، انتصب بينهما ، يمنعها من استمرار التواصل معها .. حين داخلها شك بأنها مسيحية . لا تدري لماذا ينتابها مثل هذا الشعور .. مع غير المسلمين ، رغم أنها ، ليست المرّة الأولى ، التي تقــابل فيها شخصاً غير مسلم ، بأخلاق حسنة . كما أنها .. تصادف حالات كثيرة ، لا يكون تعامل المسلمين فيها جيداً . هذا الوضع ، سبب لها إرباكاً ، وشعوراً بالإحباط . إنها حاجتنا أن ننسجم مع إيماننا وقناعاتنا ، وأن ننفر من التناقض : أليس التعامل الحسن ، خلقاً إسلامياً ؟ .
كانت سارحة ، تقلب في ذهنها معنى اسمها : ( روزماري ) .. وتود لو سألتها ماذا يعــــــني . ربما يفصح ذلــــــك عن دينها .. الذي ما زالت في شك منه ، وقد يفسر لها .. كما تعتقد ، علاقة ذلك ، بسلوكها اللطيف .. دون أن تتعرض لحرج السؤال المباشر . عزّت نفسها بخاطر آخـر : ” حتى لو لم تكن مسلمة .. تعاملها طيب ” . قطعت عليها الممرضة أفكارها ، حين بادرتها :
– ” ليه ماما .. فيه خوف من ولادة ” ..؟
– ” لا .. ماما ما فيه خوف . ماما ما تبغى دكتور رجال يسوّي ولادة ” .
فتحت عينيها بدهشة .. وقالت :
– ” بَسْ ..! ما فيه مشكلة ، أنا أكلم دكتورة ” .
كانوا عند مدخل قسم الولادة .. ووضع أم أحمد النفسي قد ازداد سوءاً ، حين طلبت منهم الانتظار ، لتتولى بحث الأمر . عائشة ووالدها التزموا الصمت ، لكن والدتها ، صارت تلهج بالدعاء لها بالجنة ..! سحبت الممرضة الملف ، المعلق بذراع السرير المعدني ، وأسرعت إلى مكتب رئيسة جهاز التمريض .
أبو أحمد علق مازحاً .. ليخفف عنها ، ويضفي جواً من المرح :
– تدعين لها من قلب .. يا أم أحمد ، تراها مسيحية .. كأنك تغيرت ..!
لم ترد .. لكنه أضاف باسماً :
– أيّام إعصار ( كاترينا ) ، لما كنت تدعين على الأمريكان ، بالموت والغرق ، كنت لما أقول لك : مساكين .. ما لهم علاقة بــ ( بوش ) وحكومته الملاعين ، قلت لي : خلهم .. كفار ، يستاهلون ..!
– الأمريكان يكرهوننا .. أنت ناسي إني ما دعيت عليهم ، لأنهم كفار ، لكن لأنهم يسجنون الشباب السعوديين في غوانتانامو .. ويقتلونهم ، ثم يقولون إنهم انتحروا .. وبعدين الممرضة هذي طيبة .. ما علي منها ، دينها لها ، أنا يهمني التعامل الطيب !
استمر في مشاكستها ، بأسلوب ، لا يخلو من الدعابة والاستفزاز :
– ما شاء الله .. هذا شيء جديد ..!
– لا .. أنا سمعت الشيخ في صلاة التراويح .. في رمضان ، يقول إن الإسلام يأمر بالإحسان ، والتعامل الطيب مع الكفار ، الذين لا يأتي منهم ضرر أو أذى .
– الله يجعلها سبب خير ..
أقـــبلت الممرضة تحمل الملف معها . كانت تمشي بسكينة ، دون انفعالات ظاهرة على وجهها . حين اقتربت ، قالت بهدوء .. وهي تعيد الملف إلى مكانه :
– ” خلاص ماما .. ما فيه دكتور رجّال ، دكتورة ميمونة يسوّي ولادة ” .
صرخت أم أحمد من المفاجأة ، وصارت تردد : ” يا بعد عمري ، يا بعد عمري ” ، ثم التفتت إلى ابنتها :
– إيش اسمها يا ( عيّوش ) ..؟
– روزماري ..
– يا بعد عمري يا روز ..
ابتسمت الممرضة ، وهي تدفع السرير إلى داخل القسم .. من رد فعلها الشديد . كانت تراقب أم أحمد ، وقد تحول وجهها من قطعة أسى مغموسة بالدمع ، إلى مساحة من البهجة . يتطاير الفرح من كل قسماته ، وتومض في وسطه ابتسامة ، افتر عنها ثغرها المرصع بثناياها البيض .. المتراصة بانتظام . أدركت أن هذه الفرحة الكبيرة ، كانت بسبب ما قامت به ، من أجل أن تتولى توليدها طبيبة . لم تزد على أن ابتسمت ابتسامة خفيفة ، ورمقتها بنظرة رضا ، ثم طلبت من زوجها أبي أحمد ، أن يبقى في غرفة انتـــظار جانبية ، لأنه ليس مسموحاً للرجال ، من غير العاملين ، بتـــجاوز هـــذه المنطقة .
فرحة أم أحمد ، بما فعلته الممرضة من أجلها ، لم تقف عند حـــــــــد الدعاء لها ، والتعبير عن شكرها العميق ، لما قامت به .. أو حتى القبلة العنيفة ، التي طبعتها على خدها . ثمة امتنان يتوارى في اللاوعي ، ترغب في ترجمته إلى ســـلوك واعي .. قـــــالت لعائشة :
– اسأليها .. عن معنى اسمها . إن الله رزقني بنيّة ، لأسميها عليها .
ضحكت عائشة ، ونقلت للممرضة ، التي كانت تجهز سرير التنويم .. ما تقوله أمها . ابتسمت الممرضة ابتسامة عريضة وقالت ببهجة واضحة :
– ” روزماري .. أووه هذا ( كريستيان نيم ) ..!
لم تكن لغة عائشة الإنجليزية .. تسعفها ، لتفهم ماذا تقصد ، وكانت على وشك أن تسألها توضيحاً لكلامها ، عندما دخلت امرأة منقبة ، ترتدي معطفاً أبيضاً . فهمت عائشة ووالدتها ، من مخاطبة الممرضة لها بالدكتورة ، أنها قد تكون طبيبة من قسم الولادة . عرفت بنفسها :
– أنا الدكتورة ميمونة .. مناوبة الليلة في قسم الولادة .. أنت ستكونين مريضتي وتحت متابعتي .
– يعني أنتِ التي ستولّدينني يا دكتورة ..؟
– نعم .. الدكتور عبد العزيز ، كبــــير الأطباء ، كان في الطوارئ ، وأتصل بي ، وطلب مني أن تكوني مريضتي .. كأنه ألمح إلى وجود مشكلة .
خجلت أن تتحدث عن حالتها .. ولم ترد . نظرت عائشة إلى أمها ، تستأذنها بالــكلام :
– أمي يا دكتورة ، عندها مشكلة مع الأطباء الرجال . حالتها النفسية تسوء ، إذا كشف عليها طبيب . كانت على وشك أن تنهار ، لمّا رفض طبيب في الطوارئ اسمه فيصل ، أن تتولى توليدها دكتورة ، وقال ما فيه طبيبات ..
– حصل خير . الممرضة روز شرحت حالتها لرئيسة الممرضات في القسم ، وهي بدورها اتصلت على الطوارئ ، وصادف وجود كبير الأطباء ، مع الدكتور بشير ، وتم تكليفي بمتابعة حالتها .
قاطعت الأم ، وسألت بلهفة :
– يعني أكيد يا دكتورة .. دكتور فيصل هذا ما له علاقة ..؟
– الدكتور عبد العزيز ، كبير الأطباء ، هو صاحب القرار .. وهو إنسان رائع ، ومن خيرة الأطباء السعوديين .. ويتفهم مثل هذه الحالات .
أخبرتهم الطبيبة أن دلالات الفحص الأولى ، تشير إلى أن الولادة لن تكون طبيعية ، وأنها قد تحتاج إلى عملية قيصرية ، خاصة وأن الأشعة فوق الصوتية تبيّن ، ولكن بشكل غير مؤكد ، أنها قد تكون حاملاً بتوأم . ثم أضافت ، موجهة الحديث لعائشة :
– قد تتأخر ولادتــــها عدة ساعات .. ستكون تحت المراقبة ، ولن تكون بحاجة لمرافق . خذي من الممرضة رقم هاتف القسم ، ورقم التحويلة .. واتصلوا في الصباح للاطمئنان ، وعندما يحين موعد الزيارة بعد الظهر ، تستطيعون الحضور .
عادت عائشة ووالدها إلى البيت . حينما رجعت الظهر من المدرسة ، كان الخبر السار بانتظارها . في غرفتها وجدت على وسادتها رسالة من والدها : ورقة بيضاء ، رسم عليها شكلاً لوجه يبتسم ، وتحته كتب هذه العبارة : ” انضم اليوم عضوان إلى ( قبيلتنا ) ” . فهمت الرسالة : أمها ولدت توأم . هذه واحدة من دعابات والدها ، الذي قال مرّة ، لما ذهبوا إلى أحد المطاعم ، ولم يجدوا مقاعد كافية لجميع أفراد العائلة .. أنه في المستقبل ، سوف يـــفتح مطعماً ، ويغير قــــسم العائلات ، إلى قسم ( القبائل ) .
لم تسعها الفـــرحة . أخذت تقفز ، وتدور حول نفسها .. وتدندن . اتجهت إلى الهاتف ، واتصلت بالمستشفى . جاءها الرد ، فطلبت التحويلة .. ثم تتابع الرنين عدة مرات ، دون إجابة . كررت الاتصال أكثر من مرّة ، وفي المرّة الرابعة ، سمعت صوتاً مختلفاً على الطرف الآخر .. سألت :
– ممكن أكلم أم أحمد ..؟
– فيه واحدة في السرير الثاني .. اسمها مها ، هل هي التي تقصدين ..؟
– نعم ..
– نائمة ..!
أغلقت الخط ، واستبد بها قلق . أخذت تحدث نفسها .. مترددة : هل تتصل بوالدها ، أو تنتظر وصوله ؟ لا تدري هل هو الخوف على أمها ، أم الفضول .. هو ما يلح عليها بالاتصال . لم يطل ترددها ، فالتقطت جوالها واتصلت . فوجئت بأنه مغلق . نظرت إلى ساعتها ، وقالت .. وهي تهز رأسها : ” وقت الصلاة ” . اعتاد والــدها أن يغلق جوّاله ، وقت الصلاة . رأت أن تنتهزها فرصة ، لتغير ملابس المدرسة ، وتصلي .. ثم تعاود الاتصال بوالدها . سيكون وقتها ، قد فرغ من الصلاة ، وأعاد فتح جواله . كانت قد انتهت من صلاتها ، حين دق جوالها بنغمة مميزة . همست في سرها : ” هذا البابا ” .. ردت مازحة :
– أهلاً بشيخ ( القبيلة ) ..!
– يا لعّابة ..
قالها وهو يغالب الضحك .
واصلت معابثتها له :
– كيف حال حرمكم المصون .. أيها الأمير ؟
– أنا في الطريق . سوف نتناول غداءنا ونذهب . كلمتُ والدتك الصباح .. ولادتها قيصرية ، وهي طيبة ، لكنها في ورطة ..!
ردّت بوجل :
– بسْم الله عليها .. عسى ما شر ؟!
– أبداً .. صحتها جيدة ، لكنها متورطة .. بالعهد الذي قطعته على نفسها .
– أي عهد ..؟
– بأن تسمي واحدة من البنتين ، على الممرضة روز ماري ..
– يعني التوأم بنتين ..؟ دم .. دم يلاللىّ ..!
جالت في البيت ، على إخوانها وأخواتها ، تغني وتهزج ، تبشرهم بولادة أمها لتوأم :
– ولدت أمي بنتين جميلتين .. مثل القمر .
اتصلت بخالاتها وعماتها وبناتهن ، وأرسلت رسائل جوال لعدد من الصديقات . خلال ربع ساعة ، كان الخبر قد انتشر ، مثل نور القمر ، على حد تعبيرها .. بين دائرة كبيرة ، من الأقارب والأصدقاء . حين وصل الأب ، تناولوا غداءهم بسرعة ، ثم انطلقوا إلى المستشفى ، يرافقهم الابن الأكبر أحمد .. الذي يصغرها بما يزيد قليلاً .. عن العام . تداولت هي وأحمد في السيارة ، أثناء الطريق .. أسماء كثيرة . في الأخير علق والدهما :
– اختاروا اسماً واحداً فقط . والدتكم جادة في تسمية واحدة من البنات ، على الممرضة .
وصلوا المستشفى قبل بداية موعد الزيارة بخمس دقائق . مسؤول الأمن كان واقفاً بالباب ، يمنع الدخول قبل بدء الموعد تماماً . رفض قطعياً طلب والدها ، استجابة لتوسلاتها .. بأن يسمح لهم بالدخول ، وكان حازماً :
– النظام يا الطيب .. ما فيه دخول قبل الموعد .
كانوا في مقدمة الزوار المنتظرين ، عند باب المستشفى ، ولحظة فتح رجل الأمن الباب ، وضعت علبة الشـــوكلاته في يد أحمد .. شقيقها ، واندفعت مثل السهم ، إلى الداخل . تبسم والدها ، وهو يراها تهرول نحو المصعد ، وكتم ضحكة ، وهو يسمع تعليق شقيقها : ” بابا .. أوقف المهبولة هذي ” .
في الغرفة .. التفوا حول سرير الوالدة ، وكان التوأم في حاضنة إلى جانبها . الدعوات بالسلامة ، والتغزل بحلاوة البنتين وجمالهما .. والتعبير عن الدهشة بقدوم التوأم ، اختلط بأصوات أخــرى ، داخل الغرفة . كانوا أول الواصلين إلى قســــم الولادة .. الأطباء والطبيبات لم ينهوا بعد ، جولتهم الإعتيادية على مرضاهم . عائشة كانت الأكثر انفعالاً بالحدث . أخذت تحاول أن تخرج إحدى البنتين ، لتحملها بين يديها ، ووالدتها تصرخ عليها .. لتمنعها ، وتؤكد أن التعليمات تمنع إخراجهما من الحاضنة . في هذه اللحظة انزاحت الستارة ، التي تفصل بين أسِرّة المريضات ، ودخلت الطبيبة . ألقت السلام ، وقالت :
– الحمد لله .. العملية كانت سهلة يا أم أحمد ، والبنات حالتهن ممتازة .. ومثل الأقمار ، ما شاء الله .. تبارك الله .
ردّت أم أحمد .. ووهج ابتسامة يكسو وجهها :
– جزاك الله خيراً يا دكتورة ميمونة .. جهدك ودورك ما ينكر .
– أبداً .. لم أقم إلا بالواجب . بالمناسبة .. هل سمّيتوا الحلوات ..؟
تبادلوا النظرات .. ثم قالت أم أحمد ، وقد برقت عيناها :
– واحدة منهن .. خلاص ، اتفقنا نسميها ميمونة ..
قالتها .. والتفتت إلى الجانب الآخر من ا لسرير ، حيث يصطف زوجها وأولادها .. وغمزت لهم بعينها . لمعت عينا الطبيبة بالسرور من خلف نقابها .. وقالت بامتنان :
– والله .. ؟ هذا شرف كبير لي ..!
عائشة التقطت طرف الحديث ، وقالت :
– اسمك محل اتفاق يا دكتورة .. لكن الوالدة ، تريد أن تسمي البنت الثانية على الممرضة روز ، لكنها محرجة ، لأن الاســــــم غير عربي .. وغريب . وأتذكر إني لما ســـــــــألت الممرضة عنـــــــــه ، قـــــــالت إنـــه ” كريستيان نيم ” .. ولم أفهم قصدها ..!
– أووه .. قصدك الممرضة روز ماري . صحيح اسمها مسيحي .
نظرت أم أحمد إلى زوجها ، الذي كان قد رفع حاجبيه بتعجب .. كأنما يريد أن يوصل لها رسالة . فهمت حركة وجهه : الاسم ليس غير عربي فقط ، بل له دلالات غير إسلامية .. كذلك . بدت على وجهها أثار الخيبة ، ولم تعلق . عائشة بادرت ، لكي تنقذ الموقف .. فــــسألت الطبيبة ، إن كانت تقترح اسماً آخر . الطبيبة .. التي رأت الإحباط في وجه الأم ، وأدركت رغبتها في التعبير عن امتنانها للممرضة . إضافة إلى إحساسها العميق هي شخصياً ، بالعرفان لها ، بتسميتها إحدى بناتها عليها .. أرادت أن تتخذ موقفاً مسانداً لرغبتها .. فقالت :
– هناك حـــل وسط ، تتحقق من خلاله رغبة أم أحمد . نأخذ نصف اسم الممرضة روزمــاري ، وتسمون البنت مارية ، تيمناً باسم زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم ، مارية القبطية .
وقع الاقتراح في نفوسهم جميعهم ، موقعاً حسناً ، ظهر على أسارير وجوههم ، التي انفرجت ، وعبّرت أم أحمد عن ذلك ، بشعور تلقائي :
– والله إنك يا دكتورة وجه خير .. وميمونة على اسمك ..
خرجت الدكتورة ، بعد أن أملت عليها عدداً من التعليمات ، بخصوص حالتها الصحية . أكدت على وجوب الالتزام ببرنامج دوائي ، لعلاج التهاب بكتيري ، أظهر الفحص المخبري وجوده ، في عنق الرحم .. ثم قالت في ختام حديثها :
– الالتزام بأخذ الدواء ، كما هو محدد .. مهم . الإهمال قد يؤثر في قدرتك على الإنجاب .. وبالمناسبة ، ممنوع الحمل ، قبل 3 سنوات .. على الأقل ، لأن ولادتك قيصرية .
بعد أن أنهت حديثها ، مالت عليها عائشة ، وهمست في أذنها . فتناولت القلم من جيب معطفها ، وانتزعت ورقة من دفتر الوصفات الدوائية ، وكتبت فيها ، ثم أعطتها إياها .
عندما خرجت ، وأغلقت الستارة خلفها ، التفتت عائشة إلى والدتها مبتسمة ، دون أن تفصح عن الذي دار بينها وبين الطبيبة .. وقالت :
– ولا يهمك .. إذا حملتِ بعد 3 سنوات ، أكون قرّبت أتخرج من كلية الطب . وقتها .. أنا سأشرف على الولادة .
ابتسمت أم أحمد وأبو أحمد . أما أحمد ، الذي اعتاد على مناكفة أخته ، فقد عبر عن سخريته ، بطريقته الخاصة ، حين أخرج لسانه ، وقال : ” بالمشمش ” . لم يعجب أم أحمد تعليق أحمد على كلام شقيقته .. فقالت :
– إذا كانت تريد أن تكون مثل الدكتورة ميمونة .. أنعم وأكرم .
انطلقت بعدها أم أحمد ، تثني على الدكتورة ميمونة ، وعلى التزامها وأخلاقها . وصــــفت بكثــــير من الإعجاب ، كيف أن الفريق الذي كان معها في غرفة العمليات ، كله من النساء ، بما في ذلك طبيبة التخدير . حديث أم أحمد عن الدكتورة ميمونة ، والفريق النسائي العــــامل معها ، يمثل تحولاً كبيراً في موقفها . بقدر ما كان يعذبها ، اضطرارها للّجوء إلى أطباء رجال للفحص أو العلاج ، كانت تنفر كثيراً من فكرة شائعة ، عمّا يــدور في المستشفيات من اختلاط ، بين الرجال والنساء ، من أفراد الطاقم الطبي .. يتجاوز حدود الحاجة ، إلى ما تسميه إحدى صديقاتها : ” قلة الحياء ” .
لم تكن عائشة تحتاج أكثر من ثناء أمها على الدكتورة ميمونة ، لتزداد إعجاباً بها ، ويزيد تعلقها بشخصيتها . كلام أمها ، حمل أيضاً ، موافقة ضمنية على دور للمرأة ، كانت ترفضه ، وتتوجس منه ، بل وتعتبره كذلك معيباً .. وتدعو الله أن يحفظها منه . لا تذكر كم من المرّات ، قالت أمها : ” بسم الله عليك ” ، حينما تفصح عن أمنيتها بأن تكون طبيبة . جاء كلام أمها عن الــدكتورة ميمونة ، ليعزز الحلم الأمنية ، ويمنحه دافعاً و شرعية .
عام مضى . البنتان التوأم كبرتا ، وأصبحتا قمرين حقيقيين . ليس جمالهما ورقتهما ، هو ما يجعلهما موضوعاً لحديث أهل البيت المستمر .. بـــل اسماهما أيضاً . اسم مارية ، ما يفتأ يذكّر الأم ، بمعاناتها مع الأطباء الرجال ، وبتلك الليلة بالذات ، وذلك القدر الجميل ، الذي ساق الممرضة روزماري لتتدخل ، وتضع نهاية سعيدة ، لليلة امتلأت بالعناء . أبو أحمد ، يتأمل طفلتيه ، ويتذكر بمرارة الدكتور فيصل ، وخيبته في طبيب سعودي ، توقع أن يـــكون أكـــــثر تفهماً من غيره . ما زال غير مدرك ، لماذا تقف بعض النخب ضد أهلهم ومجتمعهم ..؟ أمّا عائشة فلها شأن آخر . لقد نجحت هذا العام من الثانوية العامة بتقدير ممتاز ، وبمعدل فوق 95% . اسم أختها ميمونة .. التوأم الأخرى ، أقرب إلى قلبها ، ولا يكاد يغادر ذهنها . ليس لسبب معين ، لكنها تستذكر بكثير من الأمـــل ، من خلال اسم أختها ، الدكتورة ميمونة .. لتعزز حلمها وأمنيتها ، بأن تكون طبيبة . خاصة أن أمها تحمل للطبيبة شعوراً ايجابياً ، وذكريات طيبة . قالت مداعبة والدتها ، بشيء من المكر :
– يعني يا ماما ، أنـــــت ما تذكرك أختي مارية ، إلا بالممرضة روز ..؟ طيب ميمونة .. ما تذكرك بالدكتورة ميمونة .. أو مالها فضل ..؟
– يا حبي لها الدكتورة ميمونة .. الله يكثر من أمثالها ..
– أنت جادة يا ماما .. ودّك إن الله يكثر من أمثالها ..؟
نظرت الأم إلى ابنتها ، نظرة تعجب ، وشعرت أنها تخفي شيئاً ، وتهدف من استثارتها بهذه الطريقة ، إلى الوصول إلى أمرٍ ما . وقفتها الغريبة زادت من حيرتها . عائشة .. كانت تضع يدها خلف ظهرها ، ثم فاجأت أمها بإبراز ما كانت تخفيه ، وقالت :
– حبيبتي ماما .. هذا إشعار نجاحي من الثانوية . نسبتي تؤهلني لدخول كلية الطب . ما تبغيني أكون مثل الدكتورة ميمونة .. أحل مشكلتك ، ومشاكل كثير من الأمهات أمثالك ..؟
لم تجد الأم ما ترد به على ابنتها ، سوى أن تقول لها ، أن الأمر بيد والدها . ردّت عائــشة ، على اعتذار والدتها ، وربطه بقرار والدها وموافقته ، بأنها هي ، وليس غيرها ، من يستطيع أن يقنعه ، إن كانت هي موافقة .. ومقتنعة بالهدف ، الذي تسعى من أجله ، لتكون طبيبة . ردت والدتها :
– ما عندي مانع أكلم الوالد . صحيح أنا بعد التجربة الأخيرة .. وموقف الدكتورة ميمونة ، صرت أقدر الحاجة ، لأهمية وجود طبيبة لعلاج النساء ، خصوصاً من هم مثلي . لكني .. أيضاً تهمني مصلحتك ومستقبلك ، وخائفة عليك ..!
انشق ثغر عائشة عن ابتسامة عريضة ، فقذفت بإشعار النجاح من يدها ، وقفزت في الهواء .. وهي تردد صيحات فرح .. ثم اتجهت إلى أمها وضمتها :
– يا عــــمري ، يا أحلى ماما . إن شاء الله إني أكون عند حسن ظنكم . أنا قلت لها ، إنك لن تخذليني ..!
لم تفهم والدتها قصدها ، لكن عائشة نظرت إلى ساعتها ، ثم سارعت وأخرجت من جيبها ، ورقة وصفة دوائية ، مدون عليها رقم . أخذت تتصل به .. وهي تقول بصوت مسموع : ” إن شاء الله الوقت مناسب ” :
– السلام عليكم .. دكتورة ميمونة ، كيف حالك ؟ أنا عائشة ، أخت التوأم ميمونة ومارية .. عرفتيني ..؟
– وعليكم والسلام ، أهلاً .. أهلاً ، أكيد عرفتك ..
– أبشرك .. نجحت من الثانوية بمجموع مرتفع ، الحمد لله . الماما تســـلم عليك ، وتراها وافقت على تسجيلي في كلية الطب .
مدّت عائشة الجوّال لوالدتها ، التي أخذتها المفاجأة . الآن فقط .. فهمت قصة الحديث الهامس بين ابنتها والدكتورة ميمونة ، والكتابة على ورقة الوصفة الدوائية .. قبل عام ، حين مرت عليها الدكتورة بعد الولادة ، في غرفتها في المستشفى .. للاطمئنان عليها ، وإعطائها التعليمات . تحدثت مع الدكتورة ميمونة ، وكررت شكرها وامتنانها العميق لما قامت به تجاهها . اعتذرت عن ارتباكها ، لأن عائشة فاجأتها بهذا الاتصال ، الذي يبدو أنها كانت تخطط له منذ زمن .. وأختارت له ، لحظة حاسمة مثل هذه . تحدثت كذلك ، عن توأمها الجميل .. وكيف أن اسميهما زاداهما حلاوة ، ملمحة إلى اسم الدكتورة .
الدكتورة ميمونة شكرتها على تأييدها لرغبة ابنتها عائشة ، في دراسة الطب ، ووعدت أن تقف معها وتساندها ، أثناء دراستها في الكلية . تمنت أيضاً ، أن تزورها في المستشفى ، ومعها توأمها مارية وميمونة .. لتراهما :
– لقد شوّقتني لرؤية سَميِّتي ميمونة ، وتوأمها الأخرى .. الأَمّورة مارية . أنا متأكدة أن روزماري ستفرح بهما كثيراً . بالمناسبة ، فهي ممتنة جداً ، لتسميتك مارية عليها ، وقد ترك ذلك انطباعاً جيداً لديها.
انتظمت عائشة في دراستها في كلية الطب . البيت كله صار يؤيدها ويساندها . أمها الرافضة الخائفة ، خصصت لها غرفة خاصة في البيت . الوالد المتردد ، صار يطوف على المكتبات ، يوفر لها الكتب والمراجع . أما شقيقها أحمد ، الذي كان كل ما تفعله وتحلم به أخته ، محل استهزاء وسخرية منه .. فقد أصبح مصدراً رئيساً ، لدعم لم تكن تتوقعه .
أحمد صار متابعاً منتظماً لمنتديات الإنترنت . لا يمر يوم أو يومان ، إلا ويزود عائشة بأوراق ، طبعها من بعض منتديات الانترنت ، بعضها يتكلم عن أهمية دعم عمل المرأة في القطاع الصحي ، لتخدم بنات جنسها ، وأخرى عن وجوب توفير بيئة مناسبة للطالبات في الكلـيات الطبية ، والعاملات في القطاع الصحي .. تمنع التحرشات والمضايقات ، التي قد تقع عليهن . أكثر ما لفت نظرها ، كتابات لصاحب معرّف ، في أحد منتديات الانترنت الشهيرة ، رمز لنفسه باسم ” شهاب الإسلام ” . كانت كتابات شهاب الإسلام ، تفيض حَمَيّة وحماساً ، في الدفاع عن حــــــــــق المرأة ، بأن يتولى علاجها وتطبيبها ، امرأة مثلها ، وضرورة وجــود بيئة عمل ( نظيفة ) في المستشفيات ، تؤدي المرأة العاملة فيها ، وظيفتها ورسالتها .
في سنتها الأولى في الكلية ، مثلت لها هذه الكتابات ، بالإضافة إلى ما تلقاه من دعم أهلها .. سنداً معنوياً غير عادي . خاصة .. وأن والديها تعرضا لانتقادات كثيرة من أق