عنــوان القـــصة: ( قـــصاصــات ورق من حيــــاتي)
تــأليــــــــــــــف : (سلام محمد أبو اليسر حج مصطفى )
الفـــــــــكرة في هذه القصة (أنها تحكي عن حياة رجل عاش منذ طفولته إلى مماته جميع أنواع التفكك الأسري والاجتماعي والمادي بسبب غياب الوازع الديني والخلقي والإدراكي
الصحيح الذي يحتاجه لينشأ نشأة صحيحة
———————————————- لكنه كان ضحية ما جرى ليكون إنسان
ذو شخصية مركبة ونفسية معقدة واحتياجات كثيرة من الصعب فهمها وتلبيتها )
هذه القــصة مقدمة : لتكــــن عـــمـــل تلفــــــزيوني
(مسلسل من 30 حلقة )
?
في عام 1943م أي منذ 65عام انقضى, ولدت مأساة ندر حدوثها في ذلك الوقت العصيب,ودفنت في قلب رجل ليحمل وحده عناءها وثقل هذه التجربة القاسية التي انتهت في أواخر عام 2008م لـ يروي ما قضاه من ألم, وتكون روايته بين قصاصات ورق يصعب على المرء أن يلملمها فقد جمعت هذه الرواية ما لم يجمع في حكايات السند باد.
كان هذا الرجل البالغ من العمر 65 سنه يدعى (محمد),وهو رجل عجوز هرم أكل الكبر من جسده وصوته وملامحه وأنتشر الوهن والضعف في سائر جسمه, فلقد كان (محمد)يقطن مع أصغر أبنائه في منزل صغير متوسط الرقي , وكان يدعى ابنه هذا (عبد الله)وهو أع** وما زال يبني حياته لكي يستقر فيما بعد ويكون أسره,لقد أختار الأب (محمد) المكوث مع ابنه عبد الله البالغ من العمر 28سنه لأنه كان حنون عليه رحيم به قليل التدخل به وطرح الأسئلة عليه , أما بقية أبنائه هم(دلال),(سميرا),(سعد)وأما زوجته فهي(فاطمة),فلقد كان يقطنون في منزل أخر ولكل منهم حياته التي يباشر ,فـ(دلال) هي الكبرى تبلغ من العمر 34سنه وتعمل معلمه للمرحلة المتوسطة وهي غير متزوجة ومتكفلة بمصارف والدتها والمنزل ,وكانت تعيش همومها بين العنوسة ومشاكلها المدرسية, أما (سميرا) فهي متزوجة ولديها طفلان في المرحلة الإبتدائيه وتعيش أمورها الأسرية من زوج وأولاد ومنزل وتبلغ من العمر 32سنه ,أما (سعد)لديه زوجتان ويحاول التعايش بين مشاكلهم اليومية ,وأخير زوجة محمد (فاطمة)كانت تبلغ 50 عام لكنها كانت مقعده ولا تستطيع الحركة بسهوله ,لكنها تباشر ما تقدر عليه من أمور المنزل لتمضية وقتها.لقد كانت تلك مقدمه عن عائلة( محمد) الذي كان يلزم غرفة صغيرة في منزل ابنه (عبد الله) ,فيقضي فيها أغلب وقته جالسا على طاولة وكرسي بجوار سريره في الغرفة,وكان على هذه الطاولة أوراق كثيرة مبعثرة ملأها الحبر والدمع سويا ,لقد كان محمد يأنس لهذه الأوراق التي كتب فيها كل ما جمعت حياته من ألم وبؤس لم يعرف به مخلوق سواه ,كان يجلس طويلا وهو يسطر تفاصيلا دقيقه لأحداث عاشها وحدَث نفسه بها لزمن طويل ,لكنه ومع كبر سنه أحس باحتياجه لهذه الوريقات والقصاصات ليسكب أحزان وأحداث ما ضيه بداخلها فيخفف عن نفسه ما رسمه له الدهر في فَََلكِ حياته القاسية .
فلقد كان محمد قد هجر زوجته وأولاده منذ زمن ليبقى عند ابنه الأصغر( عبد الله), الذي كان يحاول جاهدا **ر وحدة والده قدر ما أمكنه ,فكان يحضر له الطعام بوقته ويحاول مجالسته وملاطفته بالحديث والمزاح,ولكن دوما كان سؤال يدور في ذهن (عبد الله) ما هو سر جلوس أبيه الدائم في غرفته ؟!وماهو سر هذه الأوراق التي رافقت والده وكان يأنس لها بشدة,وذات يوم استيقظ عبد الله كعادته وذهب لإعداد الفطور في الوقت المعتاد عليه كي يذهب بعدها ويوقظ والده لتناول الفطور سويا,وبينما هو في المطبخ يعد ما يلزم استيقظ والده (محمد) وخرج من غرفته متأرجح المشية بطئ في نقل قدميه منحني الظهر ونادى بصوت منخفض جدا ……عبد الله …….عبدا لله……..
عبد الله أين أنت؟!!هل جهزت الإفطار؟………………
وبينما عبد الله في المطبخ يدندن مع نفسه إحدى الأغنيات !!سمع نداء والده الذي كان بالكاد يسمع ,وصرخ قائلا !نعم يا أبي ………أنا هنا بالمطبخ أعد الإفطار……..لكن ماالذي جعلك تستيقظ مبكرا على غير عادتك!!!إن الساعة الآن 8وأنا معتاد إيقاظك على الـ10!!!
فسكت الأب ونظر إلى أبنه بحرقة وقال لا أعرف !لكني أشعر أنني أود تغيير موعد إفطاري ليتني استيقظت أبكر من هذا الوقت! أشعر أنني تأخرت !أجل تأخرت!!
فيجيب الابن متعجبا: وعلى ماذا تأخرت ؟ أهناك موعد تنتظره ياأبي؟!ولم تخبرني به كي أوقظك في الوقت الذي كنت تريده؟فيصمت الأب ولصمته وهرة ٌوسر عجيب ومشى ببطء شديد باتجاه النافذة في صالة الجلوس ويطل منها فينظر بعيناه الدامعتان إلى سماء الأرض ويسأل نفسه تراني سأكمل قصاصاتي وأنهي مابدأت به أم إن قصاصاتي هي من سينهيني؟! أحان موعد النهاية؟!! لكني أشعر بأنها البداية لكن البداية لماذا لاأعرف!! أيعقل أن أكون فقدت التمييز وأصبحت النهاية لدي كالبداية!! و(عبد الله) مازال في المطبخ…… يصنع وجبة الإفطار. ويتجه الأب محاولا الإسراع في خطاه قدر ماأمكنه ومتجه إلى غرفة نومه ليفتح بابها وينظر إلى طاولته وكرسيه بجانب سريره, ونظرته مرتكزة على الأوراق والقصاصات وما كتب فيها , ويكمل خطاه ليقترب من طاولته وهو يقول بحرقه ليتني أستطيع أن أغير الوقت؟!لو أقدر أن أعيد الزمن الذي مضى !أريد أن أصحح أمورا كثيرة , أريد أن أعيد التفكير في حياتي من جديد….. هل أستطيع؟!! ليتني أستطيع ليتني…..فيمسك بكرسيه فجاه ! يشعر بضيق بأنفاسه! ربط لسانه ! يشعر بالغرفة تدور من حوله!! يحس بوجود من يخبره بأنك لن تضع أي بداية ولن تعيد أي زمن مضى ولن تستطيع تصحيح أي أمر كان قد جرى ولن تضع أي بداية يا(محمد) !!, وهذه هي النهاية ! فلقد حان موعد الرحيل يا(محمد) . فيسقط أرضا وهو يرتعش….. أنفاسه تخرج بصعوبة يحاول الصراخ لكن لاجدوى !!فلسانه وكأنه عقد !! وهنا أيقن (محمد) بأن هذه النهاية وهذا موعد الرحيل وبدأ يودع كل ماحوله بالغرفة بنظراته المستجيرة, ليتوقف بعدها نبض قلبه المجروح من هذه الحياة, ويرحل مودعا لكل حي , وفي هذه الأثناء خرج (عبد الله) ممسكا بإبريق الشاي من المطبخ , لينادي لوالده فنظر إلى باب غرفته وأحس بصمت غريب !! شعر باستغراب وتقدم باتجاه الغرفة مناديا ….. أبي …أبي هيا للإفطار وفتح باب الغرفة ونظر ,و إذا بوالده ساقطا على الأرض وبصره شاخصا إلى سقف الغرفة , فسقط إبريق الشاي من يد (عبد الله) , ووقف (عبد الله) لثانيه مدهوشا أمام المشهد الذي أمامه , حاول أن يكذب عيناه وبعدها صرخ مناديا …أبي……….. أبي…أبي مابك؟! مالذي يؤلمك ؟! أجبني أتسمعني قل أنك مازلت هنا؟! هل هذا ماكنت تنتظره واستيقظت باكرا لأجله ؟ من أجل هذا ياأبي!! من أجل الرحيل!! والدموع تملأ عينا عبد الله ,وصراخه ملأ المنزل بأكمله ,أجل لقد رحل الأب محمد عن أبنائه فجأة ودون إنذار مسبق وعلم الجميع بموته وشيع ودفن من قبل أبنائه ,ودام الحزن أشهر معدودة على أسرته ,فلقد كان كل واحد منهم يشعر بأنه تائه ومعدوم الإرادة هذا غير لوم الأنفس الذي عاشوه على تقصيرهم مع والدهم محمد , وبعد إنقضاءوقت شبه طويل من الحزن شعر كل واحد من الأبناء انه لابد من الرضوخ للأمر الواقع ويجب عليهم إكمال مسيرة حياتهم لأن هذا الحزن أثر على حياتهم بكل مستوياتها ,ولكن ظل في ذهن عبد الله تساؤل حير قلبه الدامي وهو (ما سرغموض أبيه؟ ولماذا كان هاجرا لأمه؟ولماذا عشنا وهم مفترقين وما سر أوراقه وكتاباته ؟) …………………………وأتجه بعدها إلى والدته مسرعا وسألها :
أمي لقد عشنا زمنا سويا لكن لم نسألك يوما عن سر هجر أبي لكِ وعيشه بعيدا عنا ؟
لقد كنا أطفال حينها وعندما كبرنا لم يخطر ببالنا سؤالكم !!أخبريني يا أمي لماذا ؟خصوصا وأني تمنيت طرح هذا السؤال على والدي منذ زمن بعيد …………لكني كنت دوما متخوفا من ردة فعله خصوصا عندما أراه يختلي بنفسه بالغرفة مع قصاصاته!!فأجابت الأم بحرقة شديدة وقالت :إذهب يابني إلى غرفة أبيك وأقرأ ما كتب في قصاصاته وأنا متأكدة من أنك ستجد ما كنت تبحث عنه هناك …….إذهب………..إذهب يا بني ,
فتذكر عبدالله فضوله السابق إتجاه هذه القصاصات خرج مسرعا من منزل العائلة متجه إلى منزله الذي كان يعيش فيه هو ووالده ,ودخل بناء المنزل وصعد الدرج متجه إلى باب شقته لدرجة أن جاره ألقى عليه التحية لكنه لم يجب من شدة عجلته وكأنه سيجد كنز علي بابا المخبأ,وفتح الباب ودخل واتجه نحو الغرفة ووقف فجأة وأحس برهبة عجبيه ,لقد تذكر موقف الموت الذي كان في أرض الغرفة وتذكر كيف كان والده ملقى على أرض الغرفة ,فدمعت عيناه لدقائق لكنه شد على قبضة يده وقرر أن يتماسك ,فلقد كتب بين جدران هذه الغرفة أمر شد انتباه عبد الله منذ زمن بعيد وحان له الآن الخروج من بين هذه الأوراق والقصاصات ,فدخل الغرفة وجلس أمام الطاولة وأمسك بالورق المبعثر وحاول ترتيبه, وأخيرا سقطت عيناه على ورقة البداية ………..فصرخ قائلا من هنا البداية ………….هاهي الورقة الأولى ………..نعم من هنا . …..وبدأ القراءة :أنا محمد البالغ من العمر65سنه أعود بذاكرتي لأيام الطفولة لأروي قصتي وكل ما عشته من اضطهاد وظلم وندم وتشرد وخوف ومذلة وضياع عشته ابتداء من الأب وزوجته والمجتمع والجهل بالعرف والدين والأخلاق…………………………………… …..
فلقد ولدت في قرية صغيرة .كانت الزراعة هي المهنة الأساسية التي من خلالها يعيش منها الناس ,وكان الجهل يَعمُ بين أفراد القرية باستثناء (شيخ الكتاب)لأنه كان المعلم الوحيد لأطفال القرية ,كان هذا حال القرية .
أما منزلي الصغير فقد كان يعيش به والدي الذي تبدأ قصتي معه ,لقد كان أبي الذي يدعى (قاسم )رجل مزارع ذو طباع متناقضة فيه الحنان والقسوة معا ,والعصبية والهدوء,ومن النوع الطيب الذي يصدق أي أمر يقال له وذو شخصيه ضعيفة في المواقف الصعبة ,لقد تزوج أبي في أول حياته من امرأة تدعى (عاليه ) وأنجب منها طفلان وعاش معها فترة من الزمن لكنه كان كثير الشجار معها ,لأنها كثيرة الخروج من المنزل تذهب لقضاء الوقت دوما عند الجارات أو أهلها كي تفسح عن نفسها, ليجدها والدي عندما يعود من عمله في حصاد المحصول لم تعد له طعام الغداء ,أو أنها تهمل ما كان يطلب منها في تنظيف ملابسه أو أمور المنزل ,وبسبب تلك الأمور يظل الشجار قائم بينهم إلى أن جاء يوم وطلقها وقرر الزواج بأخرى , فتزوج والدي بعدها من إمرأه تدعى مريم وهي والدتي ,كانت مريم من قرية أخرى ويتيمة الأهل وعمها هو من قام بتربيتها ,وكانت مريم صغيره ولا تتقن أي عمل من أعمال المنزل ولا تتقن تحضير الطعام ,لكنها كانت جميلة وهذا ما جعل أبي يحبها ,لكن عدم إتقانها لأعمال المنزل جعل والدي يفكر بالزواج مره أخرى لأنه يريد امرأة تتقن فن إعداد الطعام وكل ما يتطلب البيت ,وتزوج بالثالثة وكانت تدعى (جازي)وكانت إمرأه كبيرة بالعمر متزوجة سابقا ومطلقه ولا تنجب أطفال ولكنها لم تكن جميله أبدا وكانت قبيحة الروح تجمع اللؤم والخبث ومتسلطة وقوية لكن أبي المسكين لم يكن مدرك لحقيقتها ,لأنه همه الوحيد أن يجد من تعتني به وبالمنزل على أكمل وجه ,فكانت جازي تود التخلص من أمي بأي طريقه لأن نار الغيرة تأكل قلبها من والدتي فكانت تعد لها المكائد دائما ليحصل الشجار بينها وبين والدي فعندما تعد والدتي الطعام تقوم جازي بالخفاء بإفساده إما بزيادة الملح أو البهار,ويبدأ بعدها شجار والدي على الطعام من الذي أعده ولماذا هكذا ,هذا وغير ما كانت تفعل بين الجارات من نشر للفتن والكلام الزائف وتتهم بعدها والدتي بأنها هي من قامت بنقله ,وكان بـ (جازي) عادة غريبة جدا لم أعهدها في أحد سواها ,لقد كانت تجمع أي شئ يأتي للمنزل من هدايا وملابس أو حلويات أو أي غرض جديد وتقوم ببيعه وبعدها تتهم والدتي بأنها هي من أخذه ,هكذا عاشت والدتي المسكينة في تلك الأجواء السيئة مما أدى إلى ضعف العلاقة بينها وبين والدي فكان لا يصدقها في أمر كان ,بل يصدق (جازي) في كل ما تقول من شدة تأثيرها عليه
وكنت أنا حينها موجود وعمري سنه ونصف ,وأختي عمرها 4أشهر ونصف ,فزاد أمر وجودنا من كيد جازي لأنها لا تنجب ………………………………………….. ..
وذات يوم ويا له من يوم خطر ببال جازي مالم يخطر برؤوس الشياطين وذهبت لأبي ووسوست له وسممت أفكاره ضد والدتي ,لقد كذبت عليه وأخبرته أن أمي على علاقة غير شريعة برجل أخر وأنه عشيقها منذ زمن بعيد وأنها تقوم بمقابلته دوما ,ولم تكتفي (جازي) الحقيرة بهذا بل أخبرته بأننا أبناء هذا العشيق ,وهنا جن جنون والدي وفقد صوابه وأستحلفها بالقرآن أنها صادقه فحلفت له ولم تحسب حسابا لأخرتها وشهدت شهادة زور ضد والدتي وأخبرته بأنه يجب أن يسرع ويتخلص منها ومن الأطفال قبل أن يكتشف أحد أمرها فَيُنكَس رأسه بالقرية ,وبعد اقتناع أبي كليا بوسوسات جازي ,اتجه في تلك الليلة المظلمة ودخل الغرفة وأمي نائمة ونحن بقربها وكان الشر يتطاير من عينيه وقام بركل أمي بقوة وصرخ بشدة قائلا:انهضي ………..هيااا………….بسرعة أيتها القذرة فنهضت أمي باستغراب ودهشة مذعورة وتسأله مابك؟ماذا جرى ؟!!! فأمرها بلبس عباءتها وحملنا واللحاق به …………فعاودت أمي سؤاله بذعر مالذي جرى ؟إلى أين سنذهب ؟!!! فألتفت إليها وقال بكل شدة اتبعيني وأنت صامته إلا قتلتك وأبنائك فخافت والدتي من أبي ونظراته التي لا تفسر ونهضت وحملتني أنا وأختي ووضعتنا بكيس قش ولبست عباءتها وخرجت لتجد أبي ينتظرها خارجا فركبت على ظهر الحصان ونحن معها بكيس القش وأمسك أبي بلجام الفرس وقام بجرها, ظل أبي صامتا طوال الطريق وبوجهه علامات لاتفسر ,ووالدتي لم تكف عن البكاء ومناشدته ما خطبه ؟وماذا جرى له؟وما أصابه؟لكن لا جدوى من أسئلتها فلقد التزم أبي الصمت ,وسار والدي مسافة طويلة من قريتنا حتى وصل إلى مشارف قرية جديدة ,وكان الوقت قرابة الفجر ولم يتفوه بكلمة واحده ,فوصل إلى مسجد في أول القرية وقام أبي بإنزال كيس القش الذي كنا بداخله ووضعنا على باب المسجد ,وهنا فقدت والدتي عقلها وبدأت الصراخ أولادي!!!مابك ؟ماذا جرى لعقلك؟لماذا تضعهم هنا؟هل جننت؟أجبني أرجوك أجبني…………….
وأرادت النزول عن ظهر الحصان ,ولكنه صرخ بها قائلا ابقي مكانك وإلا قضيت عليكم جميعا .
فأحست والدتي بالذعر وبدأت التوسل إليه ,ليخبرها ماالأمر؟ ولماذا يتصرف بهذا الجنون؟………لكن لا فائدة من كل هذه الأسئلة لقد التزم الصمت من شدة مانفثت (جازي) السم بأفكاره,وبعدها استمر بجره للحصان,وسار أبي مسافة طويلة إلى أن وصل إلى مكان خالي تمام من البشر وأي بناء ,كان مكانا لايوجد به أي حياة بل كان ملجأ لوحوش البراري,وهذا ما أراده والدي,ووقف أب في هذا المكان الخالي وأنزل والدتي وقال لها:أرقدي هنا لوحدك وانتظر هلاكك,فصعقت أمي التي انحنت مستجيرة وتحلفه بالله مابه وتقبل يداه وقدماها ليخبرها ما ذا أصابه ؟؟!!
فأجابها أبي بكل ألم أريد أن أرى كيف الضباع ستنهش لحمك على خيانتك لي كل هذا الوقت وأنت برفقة رجل أخر وتعشقينه وتقومين بمقابلته بالخفاء وأنجبت منه أولئك الأطفال ,وأنت طالق قبل رحيلي, وعندما سمعت أمي هذا الكلام جنت وبدأت بالصراخ أنا بريئة !!!من قال لك هذا الكلام ؟!!!إنهم أولادك ,إنني طاهرة ,إنني عفيفة أرجوك صدقني ,لا تظلمني ارجووك اسمعني……………………………….واستمرت والدتي بمناداته ولكنه لم ينصت وركب على ظهر الحصان ورجع إلى قريته تاركاً والدتي لمصيرها الذي ينتظرها ,وفي صباح اليوم الثاني كان أبي قد وصل إلى القرية فوجد الخبر قد شاع وانتشر وأمره مفضوح بأنه ذهب ليتخلص من زوجته وأولاده ,وكان من نشر هذا الخبر هي نفسها من تسببت به ومن غيرها إنها جازي,فاجتمع جميع أعمامي وذهبوا إلى والدي للتحدث معه وفهم ما جرى فوجدوه غير قادر على الكلام ,مصدوما مذهولا مما جرى ,وسألوه نريد أن نعرف ماذا حصل ؟!وأين زوجتك والأطفال؟!حدثنا
فأخبرهم والدي :من بداية القصة وكيف أخبرته جازي بالأمر وكيف تخلص من الأطفال ومريم ……….فصرخ أعمامي قائلين :أأنت أحمق؟هل تحققت بنفسك من صحة الأمر ؟
من الممكن أنها خدعه من جازي بسبب الغيرة خصوصا أن الجميع هنا يعلم من جازي ومن هي مريم ,كيف سمحت لنفسك بالشك بزوجتك ؟!دون أن تتأكد ,وهي إمرأه مسكينة والجميع يعرف أخلاق مريم ويعرف كيد جازي .
فامتلأت عيون أبي بالدموع والأسى,تائها لا يعرف يُصدق من أو يُكذب من ؟
فخرج أعمامي من المنزل وقطعوا على أنفسهم مع أهالي القرية عهدا بأن يقاطعوه هو وزوجته على فعلتهم الشنيعة,لكن جازي لم يهمها ما جرى لان هذا ما كانت تريده وما خططت له ,وفي هذه الأثناء خرج احد أعمامي وهو( ماجد) للبحث عنا وعن أمي فمَر على مشارف القرية التي وُضِعنا فيها ,وكان الوقت عصرا حين وصوله فدخل عمي وصلى وجلس يدعي وهو يبكي بأن يجدنا, فرآه إمام المسجد,فأقبل عليه وسأله بماذا أستطيع أن أساعدك ؟وما خطبك يا بني ؟!!
فأجابه عمي وأخبره بقصته ,فتبسم الإمام فرحاً وعيناه دامعتان متأثراً بما سمع وقال له ,لقد وصلت يا بني اهدأ واطمئن لإنني عند فجر هذا اليوم وجدت طفلان بكيس قش أمام المسجد وسألت أهالي القرية عنهم فلم يتعرف عليهم أحد وكان بكاؤهم محزن من شدة الجوع والعطش ,فقررت أخذهم إلى منزل أناس من أكابر البلدة وهم على درجة عاليه من الخلق والأمانة للاعتناء بهم ,ففرح عمي بما سمع وحمد الله أنهم بخير وشكر الإمام وذهب معه لمنزل هؤلاء الناس ,وطرق عليهم الباب ففتح الباب رجل كان يملأ وجهه النور والسكينة ,ورحب بهم الرجل وطلب منهم الدخول وكان هذا الرجل يدعى عبد الكريم وزوجته تدعى أمينه كانوا على درجة رفيعة من الخلق الحميد ومن الثراء والمنزلة الراقية بين أهالي القرية ولكنهم لم يرزقوا بأطفال وبعدها حدثهم عمي بما جرى وكامل قصة والدتي والأطفال ,فتأثر الرجل وزوجته لما سمعوا وأخبروه أننا بخير وأطمئن عمي علينا ,وعندما هَمَّ عمي بالرحيل وأراد أخذنا وقف الرجل وزوجته بحزن شديد وعرضوا على عمي أن يبقينا لديهم وهم سيقومون بتربيتنا وسيهتمون بنا على أكمل وجه لأنهم لم يرزقوا بأطفال ,ففكر عمي بالأمر ووافق ولكن كان لديه شرطان ,فسأله عبد الكريم ماهما؟ فأجاب عمي أنه يريد زيارتنا دائما ,وأن يخبرنا بحقيقة أمرنا عند رشدنا ,فقبل عبد الكريم ووعد عمي بأنه سيفعل ,وبعدها انطلق عمي ماجد مودعاً هذه الأسرة الكريمة ,وفي طريق عودته تساءل عمي في نفسه بحزن وقال ياترى ماذا حل بك يامريم ؟!هل مازلت على قيد الحياة؟ ياترى في أي مكان تركك أخي؟ ترى هل أكلتك وحوش البراري؟ كم أود أن أعثر عليكِ……………………………………… ……………
وفي هذه الأثناء كانت والدتي ملقاة في الصحراء تتعذب من شدة العطش والجوع ولكن حماية الرب كانت معها ,لقد مر رجل كان عابر سبيل تائه عن طريقه ,فوجدها وهي ممدة بين الصخور وتأن من كثرة البكاء والجوع والعطش والخوف ,فأقبل عليها مسرعا وسقاها من الماء الذي كان بحوزته وأجلسها على ظهر الحصان واتجه بها إلى بلدته ,وأثناء سيرهما قصت والدتي حكايتها على الغريب وماذا حدث لها,وبأنها قلقه على أولادها ولا تعلم ماذا حل بهم؟ فحزن الرجل لما جرى بها وسألها إن كان يوجد لديها أهل؟ فأخبرته أنها يتيمة ,وأن عمها هو من رباها وأنه توفي منذ زمن ,فأخبرها أنه حين وصولهم إلى بلدته َسُينزلها في منزله لتستريح وبعدها سيذهب للبحث عن أبنائها وقرية زوجها ليخبرهم بأنها على قيد الحياة وموجودة لديه,فشكرته والدتي على أخلاقه وشهامته معها ,وعندما وصلا أنزلها بمنزله فرحب بها أهله وقاموا بالاعتناء بها وتقديم الطعام والشراب لها ,وباليوم التالي هَمََّ متجها إلى القرية بناءً على وصف والدتي له ,وعند وصوله ذهب للمسجد الذي ُتركنا به,وسأل الإمام عنا وأخبره بالقصة فرحب به الإمام وأخذه إلى منزل عبد الكريم لإخبارهم وذهب الغريب لمنزلهم وشرح لهم كيف و جد أمي ففرحت الأسرة وحزنت في آن واحد ,لقد فرحوا لنجاة أمي وحزنوا لأنهم لا يريدون أن يخسرونا ,وبعدها طلب الغريب أخذنا لوالدتنا ,ولكن عبد الكريم أصر أن يؤجل أخذنا معه لحين مجيء أمي معه ,فقبل الغريب ورجع مسرورا يريد إخبار أمي بأنه قد وجدنا , ووصل إلى بلدته وأخبرها ما جرى,وطارت روح والدتي من شدة الفرحة بما سمعت وحمدت الله على نعمته وشكرت الغريب وأهله………….وسألته متى أستطيع أن أراهم؟ خذني لهم……………………………..فأخبرها عندما تصبحين جاهزة ,فقالت له أنها في صباح الغد ستكون جاهزة للرحيل معه إلينا.
وجاء صباح اليوم التالي وخرجت والدتي مع الغريب وبينما هما بالطريق أحست والدتي ببعض التعب فطلبت من الغريب أن ينزلا من على ظهر الحصان ليشربا بعض الماء ويأكلا ,فنزلا وأثناء جلوسها وإذا بعقرب تقرصها فتصرخ أمي من الألم ,فينهض الغريب فزعا ويسألها مابك ؟وإذا به يرى العقرب يمشي بالقرب من قدمها ,فيصرخ حزنا ياإلهي لا لا لا لا أرجووك ………………فهم في أرض مقطوعة من البشر ولا يوجد من يقوم بإسعافها وبدأ السم ينتشر بجسدها وارتفعت حرارة والدتي وبدأت ترتعش ,وعرفت أنه لا مهرب من القدر إنه قدرها لقد حان الأجل ولا مهرب ,وبكى الرجل بكاء شديدا ……………مسكينة أمي لقد ُظلمت عندما ُاتهمَت من جازي والآن تُحرم من رؤية أطفالها ,وبدأت تفارق الروح جسدها وهي توصي الغريب بأولادها إلى أن ماتت .
وهَمَّ الغريب بكل حزن وألم بدفنها ,وأكمل سيره قاصدا عبد الكريم ووصل إليه وأخبره وزوجته بما جرى,فحزنوا حزنا شديدا وأخبروه أن لا يقلق وبأنهم متكفلين بنا ,وأوصوه بالذهاب إلى عمنا (ماجد) بقريتنا وإخباره بما حدث,وأعطوه عنوانه ,وتوجه الغريب إلى قرية أعمامي قاصد عمي (ماجد) إلى أن وصل إليه وأخبره بما جرى ,وعلمت القرية ماذا حل بـ أمي وزاد كرههم لأبي وزوجته
وبعدها بدأت رحلة حياتي أنا وأختي مع عبد الكريم وزوجته ,لقد كان هذا الرجل رائع بكل المقاييس هو وزوجته ,عشنا معهم وكأننا الأبناء الحقيقيين لهم ,لم نحرم من شيء أبدا كنا نأكل أجمل الطعام والشراب وُتشرى لنا أجمل الثياب والألعاب كان عبد الكريم وزوجته حريصين كل الحرص على أن نعامل بأحسن معامله وننشأ نشأه صالحه أنا وأختي ,كانوا رائعين بكل ما تحمل كلمة روعه من معنى ,لم نُحرم عاطفة الأبوة والأمومة معهم وأستمرت حياتنا على هذا النحو إلى أن بلغت السادسة والنصف من عمري وكانت أختي قد بلغت الخامسة وهنا جاءت نقطة تحول أخرى في حياتنا أنا وأختي لنحرم من جديد الطمأنينة والأمان والحب الذي ُرزقناه ووجود الأبويين بجانبنا ,لقد مات عبد الكريم وزوجته أمينه بحادث سيارة لم نكن أنا وأختي برفقتهم ,فبقينا نحن ورحلوا هم ورحل معهم كل أمل وكل شيء جميل كان في حياتنا ,لنبقى أنا وأختي ولنواجه ما قدر لنا بهذه الحياة,بعد رحيل هذه العائلة الرائعة استضافنا إخوة عبد الكريم في منزلهم وكانوا يفكرون كيف يتخلصون منا ,لأنهم يجدونا عبئاً ثقيل عليهم وأمانة صعبه وخصوصًا أنهم غير محرومين الأطفال وليس لديهم رغبة في احتضاننا,وقضوا أيام وهم يفكرون كيف يتخلصون منا ,فكان بينهم واحد يدعى( سعيد) وهو الأخ الأصغر لـ عبد الكريم وكان دوما ملازما لـ عبد الكريم في شؤونه فكان يعرف كل قصتنا وعلى علم بكل تفاصيل حياتنا فأقترح عليهم ,بأن يرسلونا إلى ملجأ الأيتام وهم يتولون رعايتنا ,فوافقه الجميع على فكرته ,ولكن فجاه وقف سعيد وقال :….تذكرت !!!هناك مشكلة !!فسألوه ما هي؟! فأجاب سعيد قائلا:إن لهم عم اسمه ما جد كان يأتي لزيارتهم دائما بين الفترة والأخرى ,فماذا سنقول له أين الأطفال ؟!
ففكروا جميعا ثم قال واحد منهم :ما رأيكم أن نقول أنهم توفوا مع عبد الكريم وزوجته ؟! فأعجبتهم الفكرة ووافقوا عليها
وباليوم التالي أخذنا سعيد إلى ملجأ الأيتام ,فدخل على مشرفة الملجأ وأخبرها قصتنا وحََّملهَا أمانه أنه عندما يكبرون ويصبحون بسن راشد أخبريهم بحقيقتهم كاملة ,وعندما أراد سعيد الخروج وقف فجأة لأنه كان يحس بالذنب بداخله ولكنه التصرف الوحيد الذي يستطيع أن يقدمه لنا ,فقترب من المشرفة وقال لها هذا عنوان عمهم الذي كان باستمرار يقوم بزيارتهم ,احتفظ به لحين معرفتهم الحقيقة, وأخبريهم بأننا كذبنا على عمهم ماجد وأخبرناه أنهم ماتوا ,وخرج بعدها سعيد وهو دامع العين ,وَدخلتُ الميتم أنا وأختي ,ولكن بعد وجودنا بأسبوع أخذت أسره غنية أختي ,لم يكن لديهم فتيات فأخذوها وتبنوها لتكن كابنه لهم وأخذ الميتم عنوان هذه الأسرة وأحتفظ به وبدأ عذابي يزداد فلقد فارقتني أختي الوحيدة التي كانت رفيقة دربي هي أيضا حُرمت منها
وبدأت الصعوبة تزداد بحياتي ,فالميتم به أنظمه خاصة وصارمة لم أتعود عليها ولم أعهدها أبدا ,لقد كانت المشرفات علينا يحملنا كل القسوة في تعاملهم معنا كأنهن ليسوا نسوة ,فلم يحملنا أي نوع من الحنان في صدورهن وكنت أتساءل دوما لماذا هم على هذا النحو ؟هل لأنهم لم يجربوا الأمومة ؟ لأنهم كانوا عانسات !!!
فحرمت من العطف والحنان والكلمة الطيبة والنظرة الرحيمة التي كانت تتمتع بها أمينه
وبالميتم كان أطفال من مختلف الأعمار ,فأشعر دوما بالخوف والانزواء ولا أستطيع التأقلم مع أحد كنت أشبه بسجين صغير يعاقب,وسكان هذا السجن أطفال ظلمتهم الحياة مثلي ,كنت أتشاجر مع الأطفال دوما ولكني كنت أنا من يُضرب بالنهاية وأعاقب فأتذكر حينها عبد الكريم كيف كان لا يسمح لأحد بالاقتراب مني وإيذائي فأبكي بحرقة وأتساءل أين ذهب هو وزوجته أمينه لأني لم أكن أعرف معنى الموت
وكان طعام الميتم الذي يقدم من أسوأ أنواع الطعام ,وكانت الملابس قديمه وغير ملائمة ,وبالشتاء أذكر أني كنت أموت من شدة البرد لعدم وجود أغطية كافي ومناسبة
والوسائد قاسيه ,ومواعيد النوم صارمة لم يكن يوجد أي نظام به نوع من الرحمة كانت كلها وكأنها أوامر عسكريه ,لقد كان كل شيء مختلف هناك وكأنها حياة بلا ألوان وكأنها لوحة رسمت بقلم رصاص,وبالميتم كان يوجد مدرسه تأهيليه نتعلم فيها القراءة والكتابة وبعض المهن الحِرفية ,وبسبب هذه الظروف التي عشتها بدأت تتشكل تكوينة نفسيتي فأصبحت لدي نفسية مريضه متمرده أحيانا وضعيفة بداخلها وإنسان مشكك معدوم الثقة بنفسه ,لديه احتياج للعاطفة والحنان,أبحث دوما عن الطمأنينه والأمان وأحلم بالأسرة الحقيقية وإنسان عنيد ومكابر وعدواني وعصبي ,هكذا صقلت شخصيتي
وخلال دراستي بالميتم كانت لدي موهبة أمارسها دوما فكنت أحب تصليح الأدوات الكهربائية وأحب الفك والتركيب وأعشق تصليح السيارات ,فنميت هذه الموهبة خصوصا انه كان متاح لي هذا الأمر هناك ,وعندما بلغت ال18 من عمري وأصبحت قادرا على الخروج من الميتم والانطلاق للعيش خارجا وأردت توديع هذا السجن ,وفي نهار خروجي وإذا بالمشرفة تطلب مني الاستماع لما تريد إخباري به
فأخبرتني حقيقة حياتي ابتداء من أبي (قاسم )وزوجته وانتهاء عند لحظة دخولي إلى الميتم ,فصدمت بالحقيقة البشعة وتمنيت لو أنني مت قبل أن اسمع أي كلمة عني وأعطتني عنوان عمي ماجد وعنوان أختي سعاد ,فعرفت حينها أنني إنسان ممزق الأطراف وأنني أكذوبة ودخلت بدوامة الشتات ,ياترى ما حقيقة ما سمعت وبدأت الوساوس في رأسي وزاد احتقاري لذاتي وبدأت أتساءل هل أنا وأختي شرعيين ؟!!
أنحن نتيجة عشق محرم أم نتيجة زواج حقيقي؟!!من أنا ومن أكون ؟!أين أجد الحقيقة ؟!من أصدق ومن أكذب؟!!أأصدق ما قالته لي المشرفة ؟!أم أصدق ما توسوس به ذاتي ؟! وضقت ذرعا بنفسي وأصبح كل هاجسي البحث عن عمي ومعرفة الحقيقة منه بالكامل ………………………………………….. ……………
وخرجت وأنا أشعر كأن كل المجتمع يشير إلى بإصبعه ويعرف حقيقة حياتي,وقررت السفر إلى عمي فنظرت لنفسي فوجدت أني لا أملك المال لأصل إلى هناك ,ففكرت وقلت أستطيع أن اعمل فأنا أتقن أمور كثيرة تعلمتها بالميتم ,وبدأ مشواري خارج الميتم وبحثت عن عمل فلم أوفق بالبدايات وأقابل بالرفض دوماً,فأصبحت أطلب أن أعمل دون أجر ولكن فقط مقابل مأوى لي,لأني وقتها لم يهم الأجر بقدر أن أجد مكان سوى الطريق أنام به , فعملت بالمخبز وطعامي رغيف في كل وجبة وكنت أنام في نفس المخبز دون اجر,وبعد فترة أصبحت أريد مصروفا لان لدي احتياجات ,فذهبت لعمل أخر وعملت بالحلاقة لفترة لكنه أيضا لم يعطني ذاك الأجر لأنه اكتفى بتقديم المأوى لي,فتعددت المهن التي عملت بها فتارة أبيع على أرصفة الطرقات المناديل والبسكويت وبعض الكتيبات الصغيرة وتارة أبيع المشروبات الغازية والأيس كريم ,وبعدها عملت لدى لحام وكنت اخذ بعض الأجر منه وكان بسيطا ,لكني كنت أفرح بهذا الأجر فرحا كبيرا لأني أريد جمعه والذهاب لعمي ,فتعذبت كثيرا لأجمع بعض النقود وعندما أصبح معي مبلغ كافي من المال واستطيع السفر ,سافرت وعند وصولي بدأ قلبي يطرق خوفا ولم أعرف لماذا ؟!أيعقل لأني اقتربت من مواجهة نفسي …………………
وذهبت أسال عن عنوان عمي إلى أن إستدليت عليه ,وبعدها وصلت إلى باب منزله وأردت طرق الباب لكني لم أستطع فوقفت لمدة عشر دقائق دامع العينين أشعر بغصة في صدري ,وشعرت أن قواي خارت وفجاه وإذ بشخص يضع يده على كتفي من الخلف ويقول لي عما تبحث يا بني ؟!لقد كان صوته َواهنٌ لقد اخذ الكبر من قوة بدنه ,فألتفت عليه وأحسست بثقل لساني ,فتبسم قائلا اهدأ………….اهدأ………….اهدأ على ما يبدو أنك غريب تعال معي إلى الداخل وبعدها نتحدث …………………………..
فدخلت معه وأنا أرتعش من رهبة الموقف وبعدها جلسنا ونظر إلى وقال : ما بك أيها الغريب؟!!
وحينها تذكرت أن عمي لا يعلم أننا على قيد الحياة ,مما زاد من صعوبة موقفي وبدأت أفقد تركيزي ماذا أقول؟!! من أين أبدأ؟؟!
فوضع عمي يده على فخذي ليهدأ من روعتي وقال:أخبرني يا بني ؟قل لا تخف ,فنظرت إليه وبدأت دموعي بالانهمار وبدأت أتكلم له وأخبره من أنا وأننا على قيد الحياة وكيف أنني قضيت عمري بالميتم, وأن أختي مع أسرة أخرى ,فكانت صدمته أكبر من صدمتي وفرحته بوجودنا أحياء أكبر بكثير من فرحتي أنا بملاقاته ,وعانقني وطال عناقه لي ؟!
وفجاه سألته عمي أين أبي؟أريد أن أراه وأسأله أسئلة كثيرة !!!
أين هو؟!! فأبتعد عني مديرا وجهه وقال متنهدا إن في هذه الحياة عدالة مهما طال الوقت ,لقد نال والدك وزوجته جزاءهما ,لقد توفيا بحريق لا نعرف سببه إلى يومك هذا ,ففي ليلة من الليالي استيقظ أهالي القرية على نار اشتعلت بمنزل والدك ولم نعرف كيف حدث هذا ولم نستطع مساعدتهم بسبب سرعة انتشارها بالمكان وعندما انتهينا من إطفائها كان كل شيء قد تحول لرماد ودمار,فاقتربت من عمي ماجد واستحلفته بالله أن يخبرني ما حقيقة أمي هل كانت عفيفة وطاهرة؟! أم إننا بذرة حرام وعشق قذر!!
وأخبرته أنني متقبل حقيقتي مهما كانت فقط أريد الحقيقة.
فنظر إلى وقال إن أمك طاهرة يا محمد وعفيفة والجميع كان على علم من هي مريم ومن هي جازي
فبكيت من شدة من فرحتي وصرخت قائلا :أنا ابن شرعي !أنا منكم !وهنا مسقط راسي !
فأجابني :نعم يا بني أطمئن
وأذهب وأسترح ,فنمت في تلك الليلة كطفل رضيع ولم استطع وصف تلك الليلة ,وبعد فترة وجيزة من مكوثي لدى عمي أخبرته بأننا يجب أن نبحث عن أختي سعاد, فأخبرني انه هو أيضا كان يفكر بالموضوع وأنه يجب علينا استرجاعها طالما هي على قيد الحياة فقررنا باليوم التالي الذهاب لبلدتها ووصلنا للعنوان الذي كان معي من الميتم ,وقرعنا الباب ففتحت لنا شابه في ال17 من عمرها جميلة الوجه ناعمة الملامح رقيقة الصوت وهنا نظرت إليها بدهشة وعرفت أنها سعاد أختي فدمعت عيناي ولم أستطع التفوه بكلمة ,فقال عمي لها أيمكننا الدخول ؟ فأجابته بكل سرور:نعم ……..تفضلوا وذهبت لتنادي لأهل المنزل .
فحضر الأب والأم وجلسا معنا ,وبعد الضيافة قاموا بسؤالنا ما الهدف من زيارتنا ومن نحن ؟
فتحدث عمي وأخبرهم من نكون !وهنا جن جنون الأسرة وصرخوا بنا قائلين أخرجوا من هنا سريعا فهذه ليست ابنتكم ….
ولستم أنتم من قمتم بتربيتها والتعب عليها
لا يوجد لدينا ما تبحثوا عنه ,فوقفت أنا وصرخت قائلا مهما فعلتم لن تستطيعوا أن تحرموني من أختي وسأثبت لكم هذا ,واتجهت نحوأختي (سعاد) التي كانت واقفة مرعوبة من شدة ما سمعت من كلام شتتها ,فأمسكت بها وقلت لها أنظري بعيني جيدا …………تذكري جيدا يا أختي …….ألا تتذكرينني ؟!!ألا تذكرين أيام وجودنا في منزل عبد الكريم وأمينه ؟!!
تذكري…….أتذكرين ألعابنا ,ألا تذكر كيف كنت أخبأ لكِ لعبتك التي تحبينها وتذهبين إلى أمينه وتقولي:لقد أخذ محمد لعبتي ……….
فَتُقول لكِ ضاحكه:لا تبكي سيعيدها إنه يمازحك,وإن لم يعدها سأشتري لك واحدة أخرى
أرجوك تذكري يا أختي ……………أتذكرين
الحلوى التي كنت تحبينها (حلوى بيض الحمام)كنت تحبين ألوانها فكان يشتريها لكِ دوما عبد الكريم ……….ولم أكمل كلامي ,وإذا بـ (سعاد) تضمني وهي تبكي وتقول :لقد تذكرت أجل تذكرت يا محمد ؟أجل تذكرت يا أخي أين كنت كل هذا الوقت ؟!
لماذا تركتني ؟فتأثرت العائلة وهدأ الوضع ومن ثم جلسنا جميعا وبدأت أنا وعمي نخبر أختي والعائلة ما ذا حدث ………………………
وأين قضيت أيامي بعيدا عنها !!!!!!!!!!!
فقررت العائلة أن القرار عائد لـ (سعاد) إذا أرادت الذهاب معنا أو المكوث لديهم ,فنظرت سعاد حائرة وبعدها قالت : أخي أنا قضيت أغلب حياتي هنا ولم أجد سوى التكريم والحياة الهانئة ,كأنني الفتاة الحقيقية لهم ,لم أشعر يوما أني غريبة عنهم .
أريد أن أبقى لديهم ولكن بشرط أن يسمحوا لي بزيارة القرية وأعمامي من فترة لأخرى وأن تقوم بزيارتي أنت دائما ,فوافق الجميع على رغبة أختي ,وسافرت معنا لتزور القرية وتتعرف على بقية أعمامي ,وهناك تعرفت سعاد على أقاربنا اللذين عشنا بعيدا عنهم وأعجب بها ابن عمي ما جد وكان شاب خلوق وطيب ,فبادلته أختي الإعجاب فتقدم لخطبتها ,ورحبت الأسرة التي كانت لديهم أختي بذلك وتم زواجها من ابن عمي ما جد
واطمأنيت عليها ,وبعدها قررت السفر للمدينة لأبدأ حياتي من جديد وجلست أبحث عن عمل في مجال موهبتي وهو تصليح السيارات لأني كنت مبدعا به ,فعملت لدى صاحب ورشة سيارات وكان رجل طيب وميسور الحال وأثناء عملي لديه بدأ يعجب بي وبحبي لعملي وأصبح يثق بي ومع الوقت بدأنا نوسع عملنا بالورشة ,فاستلمت إدارتها وفتحنا لها عدة فروع ,وفي يوم من الأيام عرض علي الرجل أن يزوجني ابنته لأنه كان واثقا بي ,فقبلت طلبه ولكن بشرط فسألني وما هو؟
فأخبرته أني أريد أن تسمع أنت وأبنتك قصتي وبعدها تقرر الفتاة إذا كانت موافقة على الارتباط بي ……………..لأني كنت شديد الحرص أن تعرف ماضي
فوافق الأب وذهبت معه وأخبرت القصة وكانت تستمع إلي باهتمام إلى أن انتهيت ,فما كان منها إلا أن وافقت على الارتباط بي ,ففرحت فرحا كبيرا وأحسست أن العالم لم يتسع لي ,فهذا حلمي أن أجد حضناً دافئاً وأكون أسرةً وأعوض كل مافقدته في طفولتي.
وتزوجتها وكانت الفتاة على خلق ودين ومتعلمة وبسيطة وتعمل معلمة ,وبها كل ما يحلم به أي رجل وبعد مضي 6 أشهر من زواجنا بدأت تظهر عيوبي أمامها وأمراضي النفسية وعُقدِي التي خُبِئت منذ زمن طويل وبدأ عدم التكافؤ الاجتماعي والمادي والطبقي والعلمي بالظهور بيني وبينها فمن أين أنا أتيت ؟لقد عشت ممزقاً ومن أين هي كانت؟
وبدأت رحلة اكتشاف نفسي معها لقد كنت أناني معها متملك ,أريد منها كل حب وحنان وعطف لأعوض ما عشته من ألم ,ناسيا أنها بشرٌ مثلي ولها احتياجاتها ومطالبها النفسية ,كنت دوما أريد أن اخذ منها ولا أعطيها , وأريد منها أن تقدم لي ولا أ قدم لها
,كنت غيورا لدرجة أني لم أجعلها تكمل عملها بحجة الغيرة ,ولكن في الحقيقة كنت أغار من تقدمها ونجاحها كنت أشعر بالنقص والعجز أمامها لأن الماضي دائما لم يكن يفارق مخيلتي ؟ني لاشيء ,كنت أشك بها وأراقبها وأخاف أن تقوم بخيانتي لأنه كان يظل بداخلي قصة أمي على الرغم من معرفتي بأنها بريئة,كنت عصبي ومزاجي أحاول تحطيمها إذا نجحت بأمر ما كي لا أشعر أني أقل منها ,لقد بدأ قبحي يخرج أمامها بكل أشكاله ,واستمر بنا الحال هكذا وهي صابرة علي لمعرفتها بما عشت من أسى في ماضيَّ وكانت تطلب مني دوما الذهاب إلى طبيب نفسي ,فأجب قائلا بأني لست مريض بل أنت المريضة ,وأنجبت منها أولادي الأربعة كانت رائعة لكني لم أستطع أن أحافظ عليها لقد كانت هي الحلم الذي عشت انتظره ولكني فقدته منذ بدايته ,إلى أن جاء اليوم الذي َقررت به البعد عني وأنها ستكتفي من تجريحي وانتقاداتي لها وتدميري لها وبعد عناء كبير قررت أن أدعها وأهجرها لأني لم أستطع أن أطلقها ,لقد كانت كل حبي .
فقامت بتربية أولادي أحسن تربية وعشت أنا بعيدا عنهم أزورهم من فترة لأخرى ,لكنها لم تشوه أبدا يوماً صورتي أمامهم ولم تجعلهم يشعرون يوماً بغيابي عنهم ,لقد رسمت لي أجمل الصور في مخيلتهم , وعندما كبروا َقََررتُ أن أعيش لدى ابني عبد الله , وعندما بدأت أكبر وزاد مرضي وتعبي من الأيام, والعجز بدأ واضحاً في جسدي قررت أن ُأخرج ما بداخلي وأعترف لنفسي كم كانت ضعيفة وكم أضعت أيام جميلة بعيداً عن من أحببت وهي زوجتي وأبنائي ,كم خانتني نفسي؟
لقد أضاعتني الحياة في جميع مراحلي ولم أستطع الوقوف في وجهها ولا في مواجهة نفسي
,لقد اخترت هذه الأوراق وهذه القصاصات لأواجه بها نفسي فأرجوك أيتها القصاصات أخبري كل من حولي أني أعتذر لهم وأنهم وجودي وحياتي ,أرجوك يا أوراقي أوصلي لهم ألم أيامي التي عشتها بعيدا عنهم ,وأوصلي لهم الأسى على كل ما فات من عمري مع زوجتي ,أخبريهم أنني أحببتهم وهم من عشقت وهم كل وجودي
أرجوكِ…….أرجوكِ…………أرجوكِ أخبريهم
فحياتي كلها مضت كقصاصات ورق متطايرة برياح تجول من مكان لأخر.
(إنتهت والدكم محمد)
لقد إنتهت قصة محمد مع أوراقه وقصاصته لكن تراه هل رحل وهو راضٍ عن نفسه ومؤمن بأنه قدر ٌلم يكن له أي ذنب به ,فلقد ُظلم محمد منذ اليوم الأول الذي ظُلمت به والدته.
( فلترقد روح محمد بسلامٍ وحبٍ وتقدير)