نفحات ايمانية …… التيامن في الإسلام
اتفقت معاجم اللغة على ان معنى “اليمين” لغة يشمل أمورا عديدة وكلها طيبة، كالبركة والقوة والشدة، ومن اجل ذلك عني الاسلام بالتيامن، فأصحاب اليمين لهم البشرى في الآخرة فهم: “في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود وماء مسكوب، وفاكهة كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة..” الآيات من سورة الواقعة. فمن هم اصحاب اليمين المعنيون في هذه الآيات المباركات وغيرها من آيات الذكر الحكيم مما سنمر عليه لاحقا؟
ان الاسلام لا يتحدث عن شيء الا ويكون فيه الخير والبركة، فاليمن هو البركة والفأل الحسن، قال الجوهري: “يمن فلان على قومه، فهو ميمون اذا صار مباركا عليهم، وتيمنت به: تبركت وتفاءلت به خيرا، والأيامن: خلاف الاشائم (من الشؤم) والتيمن: الابتداء في الأفعال باليد اليمنى والرجل اليمنى، والجنب الايمن. وكانت العرب في جاهليتها تجعل الخير من اليمين والشر من الشمال، وكانوا يزجرون الطير، وقد عرف ذلك عندهم ب (الطيرة) والتي نهى الاسلام عنها فلا طيرة في الاسلام، وانما قوة وقدرة وشدة في الحق وليس طغيانا وبطشا في الظلم. وقد اشارت كثير من كتب التفسير الى ابيات من الشعر كشاهد على ان العرب يستخدمون كلمة (اليمين) بمعنى القوة والقدرة، قال الشماخ (وهو شاعر جاهلي):
إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
(وعرابة اسم رجل من الأوس). وقال آخر:
ولما رأيت الشمس أشرق نورها
تناولت منها حاجتي بيميني
ولابن قتيبة رحمه الله وهو صاحب التصانيف العديدة، قول في ان اليمين التي عني بها الاسلام هي مستودع القوة والقدرة، قال: “إنما قام اليمين مقام القوة، لأن قوة كل شيء في ميامنه”.
اليمين الحق والعدل
قال الفخر الرازي في تفسيره الكبير لبعض الآيات التي ورد فيها ذكر اليمين ومنها قوله تعالى: “ولو تقول علينا بعض الاقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين” (سورة الحاقة: الآيات 44 46) أي “انتقمنا منه بالحق، وذلك كقوله تعالى: “انكم كنتم تأتوننا عن اليمين”، أي من قبل الحق. وقيل: ان المقصود بكلمة (اليمين) هنا.. أي العدل، قال بذلك القرطبي في تفسيره “الجامع لأحكام القرآن” فالعدل هو اليمين، والجور والظلم: يرمز لهما بالشمال وكذلك اليمين بمعنى “الطاعة” ومن اجل كل هذه المعاني الخيرة والطيبة لليمين اهتم دين الحق والخير بالتيامن المشتق من اليمين “ان الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق ايديهم” والبيعة تتم باليمين لدى المسلمين، وقد رضي الله عن أولئك النفر، الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، جزاء لهم على حسن صنيعهم في موقف تحرش بهم فيه المشركون. ويقول الدكتور السيد اسما لا لقبا عبدالحكيم عبدالله: “التيامن من الأمور التي أمر بها الله ورسوله، فهو حق لهما، كما انه حق للمجتمع وللأفراد ايضا، وتبدو أهمية التيامن في أنه مظهر خارجي يذكر الانسان دائما باليمين، واهل اليمين، وأمور الشرع التي تجعل فاعلها من أهل اليمين”.
وما ادراك ما اصحاب اليمين الذين يذكرنا بهم التزامنا بالتيامن؟ يقول علماؤنا: اهل اليمين الذين التزموا بشرع الله، واطاعوا الله ورسوله وجاهدوا انفسهم للمثابرة على اتيان الطاعات واجتناب المحرمات، وقد وعدهم الله سبحانه وتعالى بالحساب اليسير أو عدم المحاسبة في الآخرة. قال تعالى: “فأما من أوتي كتابه بيمينه، فسوف يحاسب حسابا يسيرا، وينقلب الى اهله مسرورا، وأما من أوتي كتابه وراء ظهره، فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا” (سورة: الانشقاق الآيات من 7 10). عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (اللهم حاسبني حسابا يسيرا) قلت: وما الحساب اليسير؟ قال: ينظر في كتابه ويتجاوز عن سيئاته، فأما من نوقش في الحساب فقد هلك”.
التجاوز عن السيئات
ويشير ما جاء في سورة المدثر من ان اصحاب اليمين لا يرتهنون بأعمالهم كباقي الناس، وانما يتجاوز الله عن سيئاتهم وذلك في قوله تعالى: “كل نفس بما كسبت رهينة، إلا اصحاب اليمين” (الآيتان: 38 39. من سورة المدثر).
وقد اوضحت احاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمورا كثيرة ينبغي على المسلم مباشرتها بيمينه (بمعنى ان يكون فعله لها تيامنا) فالتيمم الذي نلجأ اليه عند افتقاد الماء نباشره بتقديم اليمين في المسح على اليدين من صعيد طاهر، فالوضوء نبدأه باليمين في غسل اليدين وكذلك الرجلين، ومن السنة في الصلاة وضع اليد اليمنى على اليسرى، واذا صلى اثنان احدهما إمام للآخر، وقف المأموم على يمين الامام، وفي الخروج من الصلاة، فإن التسليم يكون اولا من جهة اليمين، هكذا اثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ابن مسعود: ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده (أي انه يستدير بوجهه) وعن سمسرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم اذا صلى صلاة، اقبل علينا بوجهه وهذا يدل على انه صلى الله عليه وسلم كان يقبل على من في جهة الميمنة.
هذا بشأن الصلاة، وكذلك الأمر في كثير من شؤوننا الحياتية حيث نبدأ لباسنا باليمين ثوبا أو نعلا أو خلافه، ونقدم من على يميننا، سيرا أو دخولا الى الاماكن. فعن ابي داود: ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن ما استطاع في شأنه كله. وقد ذكر الشوكاني (في نيل الاوطار) ان التيامين سنة في جميع الاشياء، لا يختص به شيء دون شيء، كما اشار الى ذلك الحديث بقوله: (وفي شأنه كله)، وتأكيد الشأن بلفظ (كل) يدل على التعميم، وقد خص من ذلك دخول الخلاء والخروج من المسجد، ونقل الشوكاني عن النووي انه قال: ان قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدها فيستحب فيه التياسر.
يقول الدكتور السيد عبدالحكيم عبدالله: “ان التيامن يحقق لصاحبه التوافق مع هذا الكون المتسع بنجومه وكواكبه وأقماره، والتي تدور في اتجاه اليمين، وكذلك كثير من النباتات والحشرات والطير، التي لها حركات مؤكدة في اتجاه اليمين طاعة وانقيادا للخالق الذي أمرها بذلك وقدر سعيها وتحركها وفقا لهذا النظام البديع.