تأليف: أنطوان دو سانت اكزوبري
المترجم: مجهول
رأيت، وأنا في السادسة من عمري، صورة رائعة في كتاب عن “الغابة العذراء” يدعى “قصص حقيقية” وكانت الصورة تمثل ثعباناً (بُوَا) يبتلع وحشاً. في أعلى الصفحة نسخة عن تلك الصورة.وقرأت في الكتاب: “أن الثعابين تبتلع فريستها بالكامل، من دون أن تمضغها، فإذا ابتلعتها عجزت عن كل حركة ونامت مدة ستّة أشهر حتى تنتهي من هضمها.وبعد أن فكرت ملياً فيما يقع في الغابات من الحوادث أخذت قلماً فيه رصاصة ملونة وخططت أول رسم رسمتـُه وهو كما ترى.ثمّ أريتُ باكورة فنّي الكبار من الناس (أعني الكبار في السن) وسألتهم قائلاً: أما يُخيفكم هذا الرسم؟فأجابوا: متى كانت القبعة تخيف الناس؟ما كان رسمي يمثّل قبعة بل ثعباناً يهضم فيلاً. ثم رسمت باطن الثعبان عسى أن يفهم الكبار فإنهم في حاجة دائمة إلى الإيضاح. وكان رسمي الثاني كما ترى.فلما أبرزته لكبار الناس تنصحوا لي بأن أدع جانباً رسم الثعابين من الخارج والباطن وقالوا: الأفضل لك أن تعنى بدرس الجغرافية والتاريخ والحساب وقواعد اللغة، فأهملت، وأنا في السادسة من عمري، مستقبلاً باهراً في فن التصوير لأن رسمي الأول والثاني لم يروقا كبار السن. إن هؤلاء الكبار لا يدركون شيئاً من تلقاء نفوسهم فلا بد للصغار من أن يشرحوا لهم ويطيلوا الشرح ويكرّروا. ولا يخفى ما في هذا من التعب والعناء. اضطررت إلى اختيار مهنة أخرى، فتعلّمت قيادة الطائرات و طرت هنا و هناك في مختلف أنحاء العالم.ومما لا ريب فيه أن الجغرافية كانت لي خير معوان في طيراني، فكنت أفرّق ،لأول وهلة، و من دون أي تردد، بين بلاد الصين و أريزونا. و في هذا فائدة جلّى ولا سيما إذا ضلّ الطائر طريقه في الليل.واتصلت، في مجرى حياتي، بكثير من أهل الرزانة و الوقار، ولابست كبار الناس ملابسة حميمة، غير أن سوء رأيي فيهم لم يتبدل تبدلاً يذكر.كنت إذا لقيت أحدهم وبدا أنه على شيء من صفاء الذهن امتحنته بالرسم الأول الذي احتفظت به، لأرى مقدار ما عنده من الفطنة ، والإدراك، فإذا قال : “هذي قبعة” أضربت عن الكلام على الثعابين و الغابات العذراء و النجوم، وإنحططت إلى مستوى فهمه فحدثته عن “البردج” وعن “الغولف” وعن ربطة العنق وفي السياسة، فيسرّ سروراً كثيراً لتعرّفه إلى رجل على هذا الجانب من التعقل.
2
و ظللت هكذا وحيداً لا أجد من أتحدث إليه حديثاً صادقاً حتى اليوم الذي تعطلت فيه طائرتي في الصحراء و قد مرّ على هذا الحادث ست سنوات. وكان العطل في المحرك و لم يكن في الطائرة ميكانيكي و لا ركاب، فتأهبت لإصلاح العطل بنفسي على ما في إصلاحه من الصعوبة، على أن في إخفاقي أو نجاحي موتي أو حياتي. ولم يكن لديّ من الماء إلا ما يكفيني مدة ثمانية أيام.نمت في الليلة الأولى على الرمل و بيني و بين أقرب بلد آهل ألف ميل، فكنت في عزلتي أشد انفراداًمن غريق على طوف في عرض المحيط. و شدّ ما كانت دهشتي عندما استيقظت في الصباح على صوت نحيل غريب يقول: ارسم لي إذا شئت، خروفاً.قلت: ماذا؟قال: صوّر لي خروفاً.فاستويت على قدمي مذعوراً كمّن أنقضّت عليه الصاعقة، وأخذت أفرك عينيّ. ثم نظرت فإذا ولد صغير غريب الهيئة يحدق إليّ بإنعام ورصانة. وقد صورته فيما بعد صوراً عديدة غير أن الصورة التي ترى هي أفضلها. لكنها هيهات أن تدانيه فتوناً و جمالاً. وما يرجع إليّ الذنب في تقصيري فإن الكبار قد ثبطوا عزيمتي عن مسلك التصوير يوم كنتُ في السادسة من عمري، وما كنت تعلمت من هذا الفن سوى رسم الثعابين من ظاهرها و باطنها.نظرت إلى هذه الـ”رؤيا” بعينين ملؤهما الدهشة والحيرة. ولا غرابة فأنا على بعد ألف ميل عن كلّ ناحية معمورة وما من شيء يدل على أنّ هذا الولد ضلّ طريقه أو أنه يهلك جوعاً أو عطشاً أو أنه يموت عياءً أو خوفاً، و ما من شيء ينبئ أنه ضائع في قلب هذه الصحراء على بعد ألف ميل عن كلّ بلد آهل.ولما عاد إليّ روعي واستطعت الكلام قلت: وأنت… ماذا تصنع هنا؟فلم يجب على سؤالي بل كرّر عليّ طلبه الأول وكأنّه يعلّق عليه أهمية كبيرة.قال: أرسم لي، إذا شئت، خروفاً.فحيال هذا السرّ الغامض الذي أثّر في نفسي تأثيراً بليغاً ما جرؤت على عصيان أمره بل تأهّبت لتلبيته على ما فيه من الغرابة في مكان يبعد ألف ميل عن كلّ بلدِ معمور وعلى ما يحيق بي من خطر الموت. فأخرجت من جيبي ورقة و قلم الحبر ثم ذكرت أنّي درست على الأخص الجغرافية و التاريخ و الحساب و قواعد اللغة. فقلت للولد الصغير بنبرة فيها شيء من الامتعاض: إنّي لا أحسن الرسم. فقال: لا بأس في ذلك. ارسم لي خروفاً.و لم أكن رسمت من قبل خروفاً فرسمت له أحد الرسمين اللذين في متناول قلمي. وهو رسم الثعبان في هيئته الخارجية. وما أشدّ ما كانت دهشتي عندما سمعت الولد يقول: لا، لا. أنا ما أردت فيلاً في ثعبان. فالثعبان شديد الخطر، أما الفيل فيضيق به موطني. إن موطني صغير، صغير جداً. أنا بحاجة إلى خروف، فأرسم لي خروفاً.فرسمت له خروفاً.فأنعم النظر فيه ثم قال: لا، لا. هذا خروف مريض. وقد تفاقم مرضه فأرسم لي غيره.فرسمت له غيره.فابتسم ابتسامة حلوة وقال مترفّقاً بجهلي: ألا ترى … ليس هذا خروفاً. هذا كبش ذو قرنين.فرسمت له خروفاً آخر. فلم يرض عنه بل رفضه كما رفض الخروفين السابقين وقال: هذا خروف قد شاخ وأنا أريد خروفاً فتياً يعمِّر طويلاً. ففرغ عندئذٍ صبري وكنت أنوي الإسراع في تفكيك المحرّك فخربشت له الصورة التي ترى وقلت: هذا هو الصندوق. أمّا الخروف ففي داخله. ونظرت إليه فإذا وجهه يتهلّل حبوراً، فعجبت لأطوار هذا الولد الذي جعل نفسه حكماً في تصويري. ثم قال: هذا ما كنت أبتغي. ولكن أتراه يحتاج إلى كثير من العشب؟قلت: ولماذا؟قال: لأنّ موطني صغير جداً. قلت: مهما كان صغيراً فكن على يقين من أنّ عشبه يكفيه فإني أعطيتك خروفاً على غاية من الصغر. فحنا رأسه على الرسم وقال: لا أراه صغيراً بقدر ما تتوهّم … أنظر فإنه قد نام. هكذا عرفت الأمير الصغير.
3
قضيت مدّة طويلة قبل أن أعرف من أين كان مجيئه. فإنّ هذا الأمير الصغير كان يلقي عليّ الكثير من الأسئلة ولا يصغي إلى ما أطرح عليه منها وما عرفت عنه ما عرفت إلاّ من خلال ألفاظ كان ينطق بها مصادفة. ومن ذلك أنّه عندما رأى طائرتي لأول مرّة (لا أرسم الطائرة فرسمها معقد يعجز عنه قلمي) سألني قائلاً: ما هذا الشيء الذي أرى؟وكنت فخوراً عندما أنبأته بأني أطير.فصاح عندئذٍ: ماذا! أتكون هبطت من السماء؟قلت متواضعاً: نعم.قال: زه. زه. هذا أمر غريب.ثم ضحك الأمير الصغير ضحكة صافية امتعضت منها امتعاضاً كثيراً فأنا أكره الاستخفاف بما ينزل بي من المصائب. ثم أردف قائلاً : وأنت أيضاً أتيت من السماء! فمن أيّ الكواكب أنت؟فعلى ضوء كلامه هذا انكشف لي شيء من سرّ وجوده في تلك الصحراء فبادرته قائلاً:أتكون هبطت من أحد الكواكب ؟فلم يجب و أخذ يهز رأسه هزّاً وئيداً وينظر إلى طائرتي ثم قال: ما أراك تستطيع المجيء من بلد قصي على مثل هذه الطائرة …ثم استسلم لبحران متماد. ولمّا آب من بحرانه أخرج الخروف من جيبه وجعل ينظر إلى “كنزه” ويتأمّله تأمّلاً عميقاً.إنّ ما فاه به الأمير الصغير عن “الكواكب الأخرى” أثار فضولي وزاد في حيرتي فحاولت أن أعرف عنه فوق ما عرفت فقلت:من أين جئت يا عزيزي الصغير؟ وأين موطنك؟ وإلى أين تذهب بالخروف؟ففكر قليلاً ثم قال: من حسنات هذا الصندوق الذي أعطيتني إياه إنه يصلح أن يكون له مأوى في الليل.قلت: هذا مما لا ريب فيه. وإنّي لأعطيك إن كنت لطيفاً، حبلاً لتربطه في النهار ثمّ وتداً.وكأنّه اغتاظ مما عرضت عليه فقال: أيربط الخروف ؟ إنّها لفكرة غريبة!…قلت: إن لم تربطه ذهب في كلّ مذهب وضاع. فأغرب صديقي الصغير ضحكاً ثم قال: وأين تراه يذهب؟قلت: يذهب في كلّ مذهب، يذهب تواً في اتجاه وجهه.فترضّن الأمير الصغير وقال: لا بأس في ذلك فإنّ موطني على غاية من الصغر. ثم أردف بصوت فيه بعض الكآبة: من سار في اتجاه وجهه لا يبعد كثيراً.
4
وعرفت هكذا شيئاً آخر ذا شأن عن كوكبه وهو أنّ هذا الكوكب يكاد حجمه لا يتجاوز حجم بيت من البيوت. وما كنت لأعجب لهذا الأمر، ففي الفضاء ما عدا السيارات الكبرى التي سميت بأسمائها كالأرض والمشتري والزهرة والمريخ، مئات من السيارات الأخرى، بعضها على جانب من الصغر يصعب معه رؤيتها حتّى بالمجهر.فإذا اكتشف فلكيٌّ سيارة منها أعطاها بدل الاسم رقماً فدعاها مثلاً السيارة رقم 3251.أعتقد أنّ الكوكب الذي جاء منه الأمير الصغير هو الكوكب رقم ب 612 ويرتكز اعتقادي على أسباب وجيهة. فإنّ هذا الكوكب لم يُرَ في المجهر إلا مرة واحدة في سنة 1909 وكان الذي رآه فلكيًّا تركيًّا.أثبت الفلكي اكتشافه بأدلّة قاطعة في مؤتمر فلكي دولي غير أنّه لم يجد من يصدقه لأنّه كان مرتدياً ثياباً تركية، وهذا دأب الكبار فما الحيلة؟ثم إنّه، لحسن طالع الكوكب رقم ب 612، قام في تركيا “دكتاتور” فرض على الشعب، تحت طائلة الموت، ارتداء الألبسة الأوروبية، فارتدى الفلكي التركي لباساً أوروبياً أنيقاً، وأدلى في سنة 1920 ببيانه وأدلّته عن اكتشافه، فأنضمَّ الجميع إلى رأيه هذه المرة.قصصت عليكم قصة الكوكب رقم ب 612 بتفاصيلها وأطلعتكم على رقمه وذلك لأنّ الكبار يحبّون الأرقام فإذا حدّثتهم عن صديق عرفته حديثاً أغفلوا مزاياه الجوهرية ولم يسألوك عن رقّة صوته ولا عمّا يؤثر من الألعاب ولا عن رغبته في جمع الفراشات بل يسألونك: في أيّة سنة هو، وكم عدد إخوته، وكم وزنه، وكم يربح أبوه؟ فإذا عرفوا كل هذا اعتقدوا أنّهم عرفوه.وإذا قلت للكبار: “رأيت بيتاً جميلاً مبنياً بالقرميد الأحمر وعلى نوافذه الرياحين وعلى سطحه الحمائم…” عجزوا عن تمثّل ذلك البيت، فإذا أردت الإيضاح وجب عليك أن تقول “رأيت بيتاً قيمته ألف دينار” فيصيحون قائلين: “ما أجمل هذا البيت!”. وإذا قلت لهم: “دليلي على أنّ هذا الأمير الصغير قد وجد حقّاً هو أنه كان فاتن الطلعة وأنه كان يضحك وأنه كان يريد خروفاً ومجرد أنه يريد خروفاً دليل على وجوده”. إذا قلت لهم ذلك هزّوا أكتافهم ورفعوها وقالوا: أنك ولد صغير… أمّا إذا قلت لهم: “إن الكوكب الذي جاء منه الأمير هو الكوكب رقم ب 612” اقتنعوا بكلامك وتركوك وشأنك ولم يزعجوك بأسئلتهم. هم على هذا الدأب فلا لوم عليهم وما على الأولاد إلا أن يتجملوا ويعاملوا الكبار بالحلم والصبر. هذا هو الواقع أمّا نحن فنفهم معنى الحياة، ولا غرابة في أن نستخف بالأرقام. كنت أودّ لو بدأت هذه القصة كما تبدأ قصص الجنيّات فأقول:كان في قديم الزمان أمير صغير يقطن كوكباً لا يزيد حجمه عن حجم الأمير إلا قليلاً. وكان بحاجة إلى صديق… فلو بدأت قصتي هكذا لكانت في رأي من يفهمون معنى الحياة، أقرب إلى الصواب والحقيقة. أنا لا أحبّ أن يقرأ الناس كتابي قراءة طائشة و أن يستخفوا به، فإني أحسّ غمّاً شديداً عند كتابة هذه الذكريات. مرّت ست سنوات على فراق صديقي وذهابه بالخروف الذي رسمته له. فإن وصفته هنا فما ذلك إلا خوف نسيانه، ومن المؤسف أن ينسى الصديق صديقه فالأصدقاء قليل، وقلّ من له صديق. وقد أُصبح غداً كالكبار من الناس الذين لا يهتمّون لغير الأرقام. فلهذي الأسباب جميعاً اشتريت علبة صباغ وأقلاماً وعدت إلى التصوير، وقد وجدت صعوبة في العودة إلى هذا الفن بعد أن بلغت من العمر ما بلغت.ما كنت من قبل حاولت رسم شيء سوى رسم الثعبان من الظاهر ومن الباطن، وكنت عندئذٍ في السادسة من عمري، مهما يكن من أمر فإني سأبذل الجهد في تصوير الأمير صوراً تكون على قدر المستطاع كثيرة الشبه به. وما أنا واثق من بلوغي هذه الغاية فقد أوفق في بعض الرسوم، وأخفق في البعض الآخر.ومما لا شكّ فيه أنّي أخطئ قليلاً في القياسات ففي هذه الصورة يبدو الأمير أكبر مما يجب وفي تلك أصغر مما ينبغي، وأتردد أيضاً في لون ثوبه فألتمس اللون الحقيقي فأصيب تارة وأخطئ أخرى. ولا غرابة في أن يزل قلمي في بعض التفاصيل الهامة فأرجو المعذرة على هذا الزلل فتبعته لا تقع عليّ بل على الأمير الذي ما كان ليوضح شيئاً من أمره، ولعله كان يحسبني شبيهاً به قادراً على اكتشاف الغوامض. وما كان في استطاعتي، لسوء طالعي، رؤية الخرفان من وراء خشب الصناديق، فقد أكون مشبهاً للكبار من الناس، ولا بدع فإنّي قد كبرت عن سنّ الحداثة.
5
في كلّ يوم يمرّ كنت أطّلع على شيء جديد من أحوال الكوكب الذي هبط منه الأمير الصغير، فيوماً أعرف كيف كان خروجه منه، ويوماً أعرف كيف كانت رحلته. وكنت ألتقط هذا التقاطاً من مجرد الانتباه إلى ما يبدي من الآراء. في اليوم الثالث عرفت على هذه الطريقة قصة البوبابات*! كان الفضل، هذه المرّة أيضاً، عائداً إلى الخروف في إطلاعي على هذه القصة، فإنّ الأمير الصغير فاجأني على حين غرّة بسؤاله قائلاً: أصحيح أنّ الخرفان تأكل صغار الشجر؟ وبدا كأنّه في ريب من صحة الأمر. قلت: هذا أمر صحيح لا شكّ فيه. قال: ما أسعدني إذاً! ولم أدرك ما همه أن يأكل الخرفان صغار الشجر، غير أنّه أردف قائلاً: إذا أكلت الخرفان صغار الشجر، فهي تأكل كذلك البوبابات؟ فقلت له: أنّ البوبابات ليست من صغار الشجر بل هي من عظامها. يعدل حجم الواحدة منها حجم الكنيسة، فلو ذهبت إلى موطنك بقطيع من الفيلة. لما أتى هذا القطيع على بوبابة واحدة. فضحك الأمير الصغير عندما تصور في ذهنه قطيع الأفيال في موطنه ثم قال: إذن لا بدّ من أن نضع الأفيال بعضها فوق بعض. ثمّ استدرك وقال: أنّ البوبابات تبدأ صغاراً ثمّ تكبر. قلت: هذا صواب. ولكن لماذا تريد أن يأكل الخرفان البوبابات الصغار؟ فأجابني: أيخفى عنك ذلك؟ فكان كمن يقول: إنّ الأمر على غاية من الوضوح. أمّا أنا فأعملت الفكر طويلاً حتّى حللت هذه المشكلة من تلقاء نفسي. والواقع أنّ كوكب الأمير الصغير كان مشتملاً كسائر الكواكب على أعشاب مختلفة، منها الصالح ومنها الطالح، وعلى بذور لها صالحة وطالحة. أمّا البزور فلا تُرى! منها ما ترقد في ضمير الأرض إلى أن يخطر لإحداها أن تستيقظ فتهب من رقدتها وتتمطى ثم تدفع على خوف نحو الشمس أشطاءً ندية لا خطر فيها. فإذا كان أشطاء فجلة أو ريحانة تُركت لشأنها ونمت كيف شاءت أمّا إذا كانت عشبة نبتة طالحة وجبت المبادرة إلى اقتلاعها فور عرفانها. وكان في كوكب الأمير الصغير بزور فظيعة هي بزور البوبابات وكانت تملأ أرض الكوكب، فإذا نبتت إحداها وتُركت ولم يُؤبه لها اشتدت وقويت ثمّ استحال التخلص منها ثمّ عمّت أرض الكوكب وغرزت جذورها فيه. فإن كان الكوكب صغيراً وكانت البوبابات كثيرة فجّرت الكوكب وذهبت به. وقد قال لي الأمير فيما بعد: “القضية قضية دربة وانتظام، فإذا انتهى المرء في الصباح من تنظيف نفسه وإصلاح حاله، وجب عليه أن يُعنى بتنظيف كوكبه، فيلزم نفسه اقتلاع * البوبابة شجرة من أشجار المناطق الحارة تعظم كثيراً.البوبابات حالما يفرّق بينها وبين الرياحين، فإنها جميعاً تتشابه كثيراً في أوّل نبتها. وهذا عمل فيه بعض الملل وإن يكن من السهولة بمكان”.ونصح لي يوماً بأن أبذل الجهد في رسم صورة جميلة يسهل معها إدخال هذه المبادئ في رؤوس أولاد بلادي. وقال: “إذا كانوا يوماً على سفر فلا يبعد أن يجنوا منها ثماراً مفيدة. قد لا يضير المرء أن يؤجل عملاً أمّا إذا كان عمله اقتلاع البوبابات في مهودها ففي تأجيل عمله الكارثة الكبرى. عرفت كوكباً كان يقطنه ولد كسول فتهاون في اقتلاع ثلاث شجرات صغار…”.رسمت هذا الكوكب معتمداً ما أخبرني عنه الأمير الصغير. أنا لا أحبّ الوعظ كثيراً غير أنّه قلّ من يعرف خطر البوبابات وما يتعرض له المرء من المهالك إذا قاده القدر يوماً إلى كوكب صغير. ولهذا أشذّ عن خطّتي في تجنّب الوعظ وأقول: “أيّها الأولاد، حذار، حذار من البوبابات!” هذا وما عنيت كلّ العناء في رسم هذه الصورة إلا رغبة مني في إنذار أصدقائي بخطر يحوم حولهم كما حام حولي وهم في غفلة عنه، فلهذه الموعظة، كما ترون، قيمة لا يستهان بها. وقد تقولون متسائلين: ليس في هذا الكتاب رسوم تعادل بروعتها وعظمتها صورة البوبابات. فلمَ هذا الإهمال! فأقول: قد حاولت ولم أنجح، أمّا صورة البوبابات فكان العامل الأكبر في إجادتي رسمها شعوري بالحاجة إليها.
6
أيّها الأمير الصغير، لم أدرك ما أنت فيه من الكآبة إلا شيئاً فشيئاً. مضى عليك زمن لم يكن لك فيه من سلوى سوى النظر إلى غروب الشمس في سكون المساء. عرفت هذا الأمر الجديد عن مجرى حياتك عندما قلت لي في صباح اليوم الرابع: أحبّ كثيراً غروب الشمس. ألا تصحبني فنرى الشمس حين تغرب؟ قلت: لا بدّ من أن ننتظر طويلاً. قال: وماذا ننتظر؟ قلت: ننتظر إلى أن تجنح الشمس للغروب.فبدتَ عليك الدهشة في بدء الأمر ثمّ ضحكتَ من نفسك وقلت: حسبتني لا أزال في موطني.لا يخفى على أحد أنّ الشمس تغرب في فرنسا بينما تكون الولايات المتحدة في رائعة الظهيرة، فلو استطاع المرء أن ينتقل في دقيقة من الولايات المتحدة إلى فرنسا لشهد فيها غروب الشمس. غير أنّ فرنسا لسوء الطالع، بعيدة جداً عن الولايات المتحدة. أمّا في كوكبك الصغير فيكفيكَ أن تجرَ كرسيكَ بعض خطوات فترى الشفق كلما عنّ لك أن تراه. قلت لي: رأيت يوماً الشمس تغرب ثلاثاً وأربعين مرة. ثمّ أردفت: لا تجهل أنّ المرء، إذا اشتدَّت كآبته أحبّ أن يرى الشمس عند غروبها. فقلتُ: أكنت على هذا الحدّ من الكآبة عندما رأيت الشمس تغرب ثلاثاً وأربعين مرة؟ غير أنّ الأمير الصغير لم يجب.
7
في اليوم الخامس عرفتُ شيئاً جديداً عن الأمير الصغير، وكان الفضل في ذلك كما كان من قبل راجعاً إلى الخروف. ألقى سؤاله توّاً وعلى حين غرّة كأنّما هو نتيجة تفكير عميق في معضلة حاول حلّها.قال: إذا كان الخروف يأكل صغار الشجر فهو يأكل الأزهار أيضاً! قلت: الخروف يأكل كلّ شيء يجده في طريقه.قال: وهل يأكل الأزهار ذات الشوك؟ قلت: يأكل حتّى الأزهار المشوكة. قال: وما نفع الأشواك إذاً؟ ما كنتُ أدري ما نفعها. وكنت عندئذٍ منهمكاً في فكّ لولب في المحرّك استعصى عليّ وقد خشيت أن يطول الزمن قبل التمكّن من إصلاح الخلل فيتحرّج الموقف، ولا سيما أنّ ماء الشرب آخذ في النفاذ. وكرر الأمير السؤال قائلاً: الأشواك ما نفعها؟ فإنه ما كان ليتخلّى عن سؤال طرحه بل يلحّ فيه ويبالغ في إلحاحه. وكان اللولب المستعصي قد أثار سخطي فأجبته جواباً لا طائل تحته. قلتُ له: الأشواك لا تفيد شيئاً. إن هي إلاّ مظهر من مظاهر سوء الخلق عند الأزهار. فقال متعجّباً: ماذا؟وبعد أن وجم قليلاً صاح بي وفي نبرة صوته نبرة الحاقد: أنا لا أصدّق ما تقول. إن الأزهار ضعيفة البنية ساذجة الطبع. تعمل على طمأنة نفسها قدر استطاعتها، فإذا تسلّحت بالأشواك حسبت أنّها تبعث الرعب في القلوب. فلم أحر جواباً وكنت عندئذِ أفكّر في نفسي قائلاً: إذا ظلّ هذا اللولب على المقاومة أطرته بضربة من المطرقة. عاد الأمير فشوّش مجرى أفكاري وقال: أتظنّ أنت أنّ الأزهار… فقطعت كلامه قائلاً: كلا، كلا. أنا لا أظنّ شيئاً. قد أجبتك جواباً في الهواء لا طائل تحته فأنا أهتمّ الآن لأمور جدّية! فنظر إليّ بدهشة وقال: أمور جديّة؟ وكان يراني والمطرقة بيدي وأصابعي سود من الشحم وأنا منحنِ من فوق هنّةِ تبدو في عينه على غاية من القبح، ثمّ قال: إنّك لتتكلم ككبار الناس! فخجلت بعض الخجل من نفسي، أمّا هو فلم يرأف بخجلي بل تابع قائلاً: إنك لا تميّز بين الأشياء بل تخلط بينها جميعاً! وكان مستشيطاً غيظاً، يهتزّ من غيظه فيرتجف في الهواء شعره الذهبيّ، ثمّ قال:عرفتُ كوكباً كان فيه رجلٌ قرمزيّ اللون. ما شمّ يوماً زهرة ولا نظر إلى نجمة ولا أحبّ أحداً فكان انهماكه طوال حياته في جمع الأرقام، وكان يردّد في يومه، من صبحه إلى مسائه، ما قلت أنت: “أنا رجل رزين، أنا رجل رزين” وكان ينتفخ كبراً لكنّه ما كان رجلاً بل ضرباً من الفطر. قلت: ماذا؟ قال: ضرباً من الفطر. قال هذا وقد امتقع لونه من ثورة الغضب.ثمّ قال: منذ الملايين من السنين تنبت الأزهار أشواكاً، ومنذ الملايين من السنين تأكل الخرفان الأزهار بالرغم من الأشواك، وأنت ترى أنّه ليس من الجدّ في شيء أن نحاول إدراك السبب الذي من أجله تعاني الأزهار إنباتاً لأشواك لغير ما فائدة. ألا يكون من شأنٍِ للحرب القائمة بين الخرفان والأزهار؟ ألا يكون التبحّر في هذه القضايا أجلّ شأناً وأكثر رصانة من التبحّر في الأرقام التي يقضي ذلك الرجل الضخم الجثة، القرمزي اللون، في جمعها؟ فلو أنني أعرف أنا زهرة وحيدة لا شبيه لها في العالم وكانت هذه الزهرة في كوكبي وأعرف أنّ في طاقة خروف صغير أن يقضي عليها ويبيدها صباح يومٍ، بقضمة واحدة، من دون أن يدرك شنيع صنعه، أما تكون هذه القضية في نظري على جانب من الخطورة!وعلا وجهه احمرار ثمّ عاد فقال: إذا أحبّ رجل زهرة ليس من نوعها إلاّ هي في الملايين الملايين من النجوم فإنّ ذلك يكفي لإسعاده عندما ينظر إلى النجوم ويقول في نفسه “إنّ زهرتي هي في بعض هذه الكواكب” أمّا إذا أكل الخروف الزهرة فإنّ تلك النجوم تنطفئ بغتةً في ناظريه وتصبح كأنّها لم تكن. ألا ترى في هذا شيئاً خطيراً؟قال هذا ولم يزد بل طفق يشهق وينتحب، وكان الليل قد خيّم. وقد سقطت الأدوات من يدي، نظرت إلى المطرقة واللولب نظرة استخفاف واحتقار، وهان عندي العطش والموت.فعلى هذه النجمة، هذه الأرض التي هي كوكبي، أمير صغير ينبغي لي أن أُهدئ من روعه وأعزّيه وأواسيه، فأخذته بين ذراعيّ وهدهدته وقلت له: لا خطر على الزهرة التي تحبّ فإني أرسم للخروف كمامة فلا يستطيع قضمها وأرسم للزهرة حاجزاً من حديد فلا يستطيع الدنوّ منها. وارتبكت فلا أدري ما أقول له وشعرت بأنّي خرِفٌ غبيّ لا يسعني إدراك ما به ولا اللحاق به في عالمه، إنّ عالم الدموع لسرٌّ غامض!
8
ثمّ عرفت شيئاً كثيراً عن تلك الزهرة. كان في كوكب الأمير الصغير أزهار بسيطة ذات صفّ واحد من الأوراق. تنبت فيه منذ القدم ولا تشغل مكاناً واسعاً ولا تزعج راحة أحد. كانت تبدو في الصباح بين الكلأ ثمّ تتلاشى في المساء، أمّا تلك الزهرة فإنّها نجمت يوماً من بذرة جاءت من حيث لا ندري، ورآها الأمير الصغير فإذا هي لا تشبه الأعشاب النابتة على كوكبه، فراقبها مراقبة شديدة خوف أن تكون نوعاً جديداً من أنواع البوبابات. غير أنّ النبتة، سرعان ما توقفت عن النموّ وطفقت تأخذ الأهبة لإبراز زهرتها. وكان الأمير الصغير يشهد تكوين برعمتها العظيمة ويتوقّع أن تخرج من هذه البرعمة رؤيا عجيبة. على أنّ الزهرة كانت تتباطأ وتطيل التأهُّب للخروج، حتّى تجيء على غاية ما يكون من جمالها. فهي في خليّتها الخضراء تنتقي بكل دقّة ألوانها وتتأنّى في ارتداء أثوابها فترتب أوراقها وتنظمها خشية أن تبرز للنور بثوب واهن النسج كثوب الشقائق، بل في اكتمال الجمال والروعة. وما الحيلة وهي مغناج تحبُّ الثياب الأنيقة الزاهية. فلا عجب أن يطول تأهُّبها للخروج وأن تعنى عناءً زائداً في تجمّلها وإعداد زينتها في الخفاء.وفي صباح يوم، عند طلوع الشمس، شقّت برعمتها وظهرت. وبالرغم مما قضت من الوقت في إعداد عدّتها للخروج قالت وهي تتثاءب: آه! إنّي ما استيقظت إلاّ منذ هنيهة فلذا تراني مشعثة الشعر فأسألك المعذرة. ولم يتمالك الأمير الصغير عن إبداء إعجابه فصاح: ما أجملك!فأجابت الزهرة بلطف: ما أصدق ما قلت! فإنّي ولدت عند ولادة الشمس.فأدرك الأمير الصغير أنّها لم تكن على كثير من التواضع غير أنّها كانت على كثير من الفتون.ثمَ قالت الزهرة: أظنُّ أنّ وقت الإفطار قد حان فهل تتكرّم وتهتمّ بي.فارتبك الأمير الصغير ومضى فجاء بمرشّة وسقى بها الزهرة ماءً بارداً.وما لبثت الزهرة حتى أخذت تعذّبه بزهوّها وصلفها وما تبدي من الغيرة. ومن ذلك أنّها قالت له يوماً وهي في الحديث عن شوكاتها الأربع: لتأت الآن الأنمار ببراثنها! فردّ عليها الأمير الصغير قائلاً: ليس من أنمار على كوكبي. ثمّ إنّ الأنمار لا تأكل العشب. فأجابت الزهرة بلطف: ما أنا عشبة. فقال: اغفري لي زلّتي. فقالت: أنا لا أخشى الأنمار إنّما أخاف مجاري الهواء. ألا يكون عندك حاجز دون الهواء.فقال الأمير في نفسه: ليس من عادة الأزهار أن تخاف الهواء، فما معنى هذا؟ إنّ هذه الزهرة لذات نفسٍ معقّدة. ثمّ قالت الزهرة: وإذا جاء المساء ضعني تحت غطاء من زجاج فالبرد قارس عندك وليس عندي شيءٌ من أسباب الراحة. أمّا البلد الذي جئت منه…وتوقّفت عند هذا الحدِّ من كلامها.إنّها جاءت إلى كوكب الأمير على شكل بذرة فما استطاعت أن تعرف شيئاً عن العوالم الأُخرى.وكأنّها خجلت عندما فاجأت نفسها وهي تعدُّ كذبة على هذا الجانب من السذاجة فأحّت أحّتين أو ثلاثاً لتظهر للأمير خطأ رأيه في مجاري الهواء. ثمّ قالت: والحاجز دون الهواء أين هو؟قال: كنت على وشك الذهاب للمجيء به غير أنّكِ تكلمينني.فعادت إلى الأحّ وبالغت فيه لتثير تبكيت ضميره.وعلى هذا الحدّ أخذ الشكّ يتسرب إلى قلب الأمير الصغير بالرغم من صدق نيّته في حبّه لها.أمّا أنا فأرى أنّه أنزل منزلة الجدّ بعض كلمات لا آبه لها فبات من جرّاء ذلك تعساً شقيّاً.وقد قال لي يوماً: “كان عليّ ألاّ أصغي إليها فمن الخطأ أن نصغي للأزهار. يكفينا منها أن ننظر إليها وأن نتنشق طيبها”. كان شذا زهرتي يعبق في جنبات كوكبي أمّا أنا فما عرفت أن أجني منها لذّة ومتعة. وقصّة البراثن والأنمار التي أزعجتني بها كثيراً، أما كان الأحرى بي أن أبدي لها عند سماعها عطفاً ورفقاً؟وقال لي مرّة أخرى: “أنا ما عرفت أن أتدبّر أمري ولا أن أفهم. ما كان عليّ أن أحكم على كلامها بل على أفعالها. إنها كانت تعطرني وتضيء لي. فلماذا فررت منها ولم أحزر ما وراء حبائلها وحيلها الساذجة من المحبّة والعطف. إنّ الأزهار تناقض نفسها بنفسها. لكنّي كنت صغيراً جدّاً ولم أُحسن محبتها”
9
أعتقدُ أنه اغتنم فرصة مرور طيور برّية كانت مرتحلة من بلد إلى بلد ففرّ معها، على أنّه في صباح يوم فراره رتّب كوكبه ووضع فيه كلّ شيء في محلّه فنظّف، بكثير من الاعتناء، البراكين المشتعلة، وكان في
الكوكب اثنان منها، ولا يخفى ما في هذين البركانين من الفائدة فأنّه كان يسخّن عليهما طعام الصباح. وكان في الكوكب أيضاً بركان هامد. لكن من يدري متى يشتعل؟ لذلك نظّفه من أوساخه، فإنّ البراكين إذا نظّفت ونزعت أوساخها كان اشتعالها لطيفاً منتظماً فلا يخشى ثورانها. إنّ ثوران البراكين لأشبه بنار الموقد، فإذا اتسخت مداخنها وصعب مرور الهواء فيها، أدّت إلى الكوارث. أمّا نحن على هذه الأرض فأنّ براكيننا عظيمة ونحن صغار فلا نستطيع تنظيفها فهي لا تفتأ مدعاة للقلق والحذر.ثمّ انتزع الأمير الصغير ما نبت من بزور البوبابات وكان في عمله هذا على شيء من الكآبة لأنّه كان مصمّماً على أن لا يعود إلى كوكبه، بيد أنّه كان يجد في ذلك الصباح كثيراً من الارتياح في انصرافه إلى هذه الأعمال التي ألفها. وعندما سقى للمرّة الأخيرة زهرته وهمّ بأن يضع عليها غطائها الزجاجيّ شعر بالدمع يصعد إلى مقلتيه، فتمالك وقال للزهرة: الوداع!فلم تجبه الزهرة فكرَّر قائلاً: الوداع!فأحّت الزهرة أحّة لم تكن أحّة زكام وقالت: قد كنت في سلوكي معك غبيّة حمقاء فاغفر لي واجتهد أن تكون سعيداً.فعجب الأمير من أنّها لم تُبدِ لوماً ولا عتباً ووقف لا يدري ما يصنع وغطاء الزجاج في يديه وهو لا يدرك ما يشاهد في الزهرة من الرقّة و اللطف والسكينة.ثمّ قالت له: أي والله أنّي أُحبّك ولئن خفيّ عليك حبّي فالذنب ذنبي لا ذنبك. أمّا الآن فأيُّ شأنٍ لكلِّ هذا، على أنّك أنت أيضاً كنت مثلي حُمقاً وغباوة. فاجتهد أن تكون سعيداً…واترك هذا الغطاء فلا حاجة لي به.قال: والهواء؟ قالت: لست من السعال في الدرجة التي تعتقد…وإنّ هواء الليل العليل لأنفع لي وأفيّد. وإنّما أنا زهرة…قال: والوحوش!؟قالت: لا بدَّ لي، إذا أردت رؤية الفراشات، من تحمّل جيرة بعض الديدان. فقد بلغني أنّ الفراشات شيءٌ عجيب، وإذا لم يكن من فراشات فمن يزورني من بعدك. أمّا الوحوش فلا خوف عليّ منها فإنّي أذودها ببراثني، وأشارت إلى أشواكها الأربع وأردفت قائلة: لِمَ إبطاؤك؟ إنّك لتزعجني بتمهّلك وتردّك. ألم تقرّر الذهاب؟ فاذهب إذن.وما قالت ذلك إلاّ مخافة أن يراها تبكي. إنّها كانت زهرة على جانب عظيم من الكبرياء.10
كان كوكب الأمير الصغير في منطقة الكواكب المرقومة بالأرقام التالية:325 و326 و327 و328 و329 و330 فبدأ رحلته بزيارتها لعلّه يجد فيها عملاً ينصرف إليه أو عملاً يفيده.
وكان أوّل كوكب نزله موطناً لملك، فرآه مرتدياً الأرجوان والسمور ومستويّاً على عرشٍ تبدو عليه، بالرغم من بساطته، معالم الأُبّهة والجلال. وما رأى الملك الأمير الصغير حتّى صاح قائلاً: هذا من أبناء رعيّتي.
فقال الأمير في نفسه: كيف عرفني وهو لم يرني من قبل!
وكان يجهل أنّ العالم في نظر الملوك هو شيء على غاية البساطة: فالناس جميعاً رعيّة الملوك.
ثمّ قال الملك: ادنُ منّي فأرى وجهكَ جليّاً. وكان معتزّاً بأنّه ملك يملك على أحد الناس.
أجال الأمير لحاظه مفتِّشاً عن مكان يجلس فيه فلم يجد ذلك أن معطف الملك الفاخر السابغ كان يشغل الكوكب بجملته فظلَّ واقفاً وكان قد تعب فتثاءب.
فقال له الملك: ليس من آداب البلاط أن تتثاءب بحضرة الملك. فأنا أنهيك عن التثاؤب.
فأجاب الأمير الصغير مرتبكاً: لا أستطيع أن أمنع نفسي منه فقد كانت رحلتي طويلة ولم أذُق نوماً.
قال: إذا كان الأمر كذلك فأنا آمرك بأن تتثاءب. إنّي لم أر أحداً يتثاءب من زمان بعيد.والتثاؤب في نظري أمر غريب نادر. فتثاءب وتثاءب أيضاً. هذا أمر منّي فأطع.
قال الأمير الصغير وقد احمرَّ خجلاً: إنّ أمرك هذا يثير اضطرابي فلا أقوى على التثاؤب.
قال الملك: آمرك إذن بأن تتثاءب حيناً وتمتنع حيناً. وأخذ يتمتم ويدمدم ويبدي الكدر. ذلك لأنّ الملوك تحرص حرصاً كثيراً على أن تُحترم هيبتهم وسلطتهم فلا يتساهلون في أمر الطاعة. وكان هذا الملك مطلق السلطان غير أنّه كان طيّب النفس فلا يأمر إلاّ بما يقرب من الصواب.
ومن أقواله التي كان يرددها: إنّي لو أمرت قائداً أن يتحوَّل إلى طائر من طيور البحر وعصى القائد أمري لما كان الذنب ذنبه بل ذنبي.
وسأله الأمير الصغير بصوت ينمُّ عن بعض الحياء والخجل: أيأذن لي الملك بالجلوس؟
قال الملك: إنّي آمرك بالجلوس فاجلس.
وجذب إليه بعزّة وجلال ذيلاً من ذيول معطفه السموريّ.
وكان الأمير يعجب من أمر الملك ويقول في نفسه: على من يملك الملك في هذا الكوكب الصغير؟
ثمّ سأل الملك قائلاً: أستميحك العذر مولاي في سؤالك عن بعض الشؤون.
فبادر الملك فقال: إنّي آمرك بأن تسألني.
قال الأمير: على من تملك يا مولاي؟
فأجاب الملك بكل بساطة: أملك على كلّ شيء؟
قال الأمير: على كلّ شيء.
قال الملك: على كلّ شيء.
لم يكن هذا الملك مطلق السلطان فحسب بل كان يبسط ملكه على العوالم كافة.
وقال له الأمير: وهل تطيعك النجوم؟
قال الملك: كيف لا فإنّها تلبّي في الحال أوامري وإنّي لا أطيق عصيانها واختلال النظام فيها.
فعجب الأمير الصغير لمثل هذا السلطان وقال في نفسه: لو كنت على شيءٍ من هذا لشهدت في اليوم ستّين غروب شمس لا أربعة وأربعين، بل لشهدت منها مئة ومئتين دون الاضطرار إلى جرِّ كرسيّ من مكانه إلى مكان. وشعر بكآبة تغمر نفسه عندما تذكر كوكبه الصغير الذي هجره. ثمّ تشدّد وتجرأ فقال: وددت لو شهدت غروب الشمس. تكرَّم عليّ يا مولاي بأن تأمر الشمس بالغروب.
فقال الملك: لو أمرت قائداً من قوادي أن يطير من زهرة إلى زهرة كما تفعل الفراشات أو أن يؤلّف مأساة أو أن يتحوّل إلى طائر من طيور البحر ولم يذعن القائد لأمري فمن يكون المخطئ منّا؟ هو أم أنا؟
فأجاب الأمير بقوة ورباطة جأش: أنت يا مولاي.
فقال الملك: هذا هو الصواب، فليس من الحكمة أن يُطلب من المرء ما يكون فوق طاقته، إنّ أول أركان السلطة العقل. ألا ترى أنّ الشعب إذا أمرته بأن يلقي بنفسه في البحر استسلم للفتنة وثار عليك. أمّا أوامري فإن أنا اقتضيت تنفيذها فذلك لأنّها تنفّذ.
وذكّر الأمير الصغير الملك بغروب الشمس فإنّه ما كان ليغفل عن سؤالٍ طرحه.
فقال له الملك: إنّك ستشهد غروب الشمس. فإنّي سآمرها بالغروب لكن عليّ أن أنتظر الوقت المؤاتي.
هذا ما تقتضيه آداب الحكم.
فقال الأمير: متى يكون الوقت مؤاتياً؟
قال الملك بعد أن نظر في رزنامة ضخمة: يكون الوقت ملائماً هذا المساء عند الساعة السابعة والدقيقة الأربعين. وعندئذٍ ترى أنّي مُطاع في أوامري.
فتثاءب الأمير الصغير وأسف أنّه أخطأ غروب الشمس ثمّ استولى عليه الملل فقال: لم يبقَ لي من حاجة هنا فأنا ذاهب.
وكان الملك معتزّاً بأنّ له من يأمره وينهيه فقال: لا تذهب بل امكث هنا فأجعلك وزيراً.
قال الأمير: وزير أيّ شيء؟
قال: وزير…وزير العدل؟
قال: كيف أكون وزير عدل وليس هنا من أحاكمه؟
قال: من يدري! أنا لم أجُب بعد أنحاء مملكتي وقد طعنت في السنّ وما من مكان في المملكة يتّسع لمركبة أركبها. أما المشي فلا أطيقه.
قال الأمير بعد أن ألقى نظرة إلى الجهة الثانية من الكوكب: قد نظرت إلى جهات الكوكب جميعاً فلم أرَ أحداً.
قال الملك: تحاكم إذن نفسك بنفسك وهذا أصعب ما يكون إنّ مقاضاة المرء نفسه لأصعب من مقاضاته غيره. فإذا أصدرت على نفسك حكماً عادلاً صادقاً كنت حكيماً حقّاً.
قال الأمير الصغير: إنّي أقاضي نفسي أنّى كنت فلا حاجة لي بالمكوث هنا.
قال الملك: أظنُّ أنّ في ناحية من أنحاء الكوكب جرذاً مسنّاً، أسمع له حركة في الليل، فلكَ أن تحاكمه وتحكم عليه من وقت إلى وقت بالموت. وهكذا تتوقّف حياته على عدالتك ثمّ تعفو عنه لتستبقيه في الكوكب فليس فيه غيره.
قال الأمير الصغير: أنا لا أُحبُّ القضاء بالموت على أحد. وأرى أن لا سبيل إلى ذلك هنا فأنا ذاهب.
قال الملك: لا، لا تذهب.
وبعد أن تأهّب الأمير الصغير للذهاب كره أن ينغص الملك الشيخ بعصيان أوامره، فقال له:
إذا شئت مولاي، أن تُطاع فمرني أمراً مستطاعاً كأن تقول لي: إنّي آمرك بالذهاب قبل انقضاء دقيقة واحدة. ويبدو لي أنّ الأحوال التي ترافق هذا الأمر هي مؤاتية.
ولم يجب الملك فتردّد الأمير ثمّ تنهّد وأخذ في طريقه فبادر الملك وصاح به قائلاً:
إنّي عيّنتك سفيراً لي. وكان في صوته نبرة السلطة والعظمة.
فقال الأمير الصغير في نفسه: إنّ شأن الكبار لغريب. وردّد هذا الفكر في قلبه طوال رحلته.
11
وكان يسكن الكوكب الثاني رجل مزهوٌّ بنفسه فعندما لمح الأمير الصغير صاح قبل أن يدنو منه:
هذا زائر معجب بي.
إنّ ذوي الصلف والإدّعاء يعدّون سائر الناس من المعجَبين بهم.
وحيّاه الأمير الصغير قائلاً: عِم صباحاً! إنّي أرى لك قبّعة غريبة الشكل.
قال: هذي قبّعة أُحييّ بها المعجبين عندما يهتفون لي، غير إنّه، لسوء الطالع، لا يمرُّ أحدٌ من هنا.
قال الأمير الصغير: ماذا؟ ولم يدرك ما يعني الرجل.
قال الرجل: صفّق بإحدى يديك على الأخرى.
فصفّق الأمير بيد على الأخرى ورفع الرجل قبّعته قليلاً وحيّا بتواضع.
فقال الأمير الصغير في نفسه: زيارة هذا الرجل أدعى إلى اللهو والتسليّة من زيارة الملك.
وعاد فصفّق بيديه وعاد الرجل إلى التحيّة برفع قبّعته.
وبعد أن ظلاّ على هذا مدّة خمس دقائق تعب الأمير الصغير من هذه اللعبة التي تستمرّ على نمط واحد وسأل الرجل قائلاً: إذا أردنا أن نُسقط القبعة فماذا نصنع؟
فلم يجب الرجل لأنّ المعجبين بنفوسهم لا يصيخون إلاّ إلى المدح والثناء.
ثمّ قال الرجل: أحقّاً أنك معجب بي كثيراً؟
قال الأمير: وما معنى الإعجاب؟
قال الرجل: الإعجاب أن تقرَّ لي بأني أجمل رجل على هذا الكوكب وأني أحسن الرجال أناقةً وثوباً وأكثرهم غنى وذكاء.
قال الأمير: غير أنّك وحيد في كوكبك هذا.
قال: وإن أكن وحيداً فاشرح صدري بأن تعجب بي.
قال الأمير، بعد أن هزَّ كتفيه: أنا معجب بك، لكن ما يهمّك إعجابي؟
وانصرف الأمير الصغير وهو يردّد في نفسه طوال رحلته: إنّ شأن الكبار لعجيبٌ حقّاً.
12
وكان يسكن الكوكب التالي رجلٌ سكّير فلم يُطل الأمير إقامته فيه غير أنّه شعر بكآبة كبيرة تغمر نفسه.
وكان السكّير جالساً إلى المائدة، ملازماً الصّمت ومن حوله مجموعة من القناني الفارغة ومجموعة من القناني الملآنة. فقال له الأمير: ما تصنع هنا؟
قال السكّير بصوت ملؤه الحزن والأسى: أشرب.
قال الأمير: ولماذا تشرب؟
قال: لأنسى.
قال الأمير، وقد أخذته فيه الرأفة: لتنسى ماذا؟
قال السكّير وقد أطرق برأسه: لأنسى عاري.
قال الأمير الصغير، وقد أحسَّ برغبة في إسعافه ومساعدته: وأيُّ عار؟
قال: عار الشرب. قال هذا ولزم الصمت.
وانصرف الأمير الصغير متحيّراً من أمره، وكان يردّد في نفسه طوال رحلته: إنّ شأن الكبار لعجيب.
13
وكان الكوكب الرابع كوكب ” البزنسمان” رجل الأعمال فلمّا نزله الأمير الصغير كان الرجل منهمكاً كلّ الانهماك حتّى أنّه لم يرفع رأسه فقال له الأمير: عِم صباحاً، هذي سيكارتك قد انطفأت.
أمّا الرجل فظلَّ منكباً على حساباته يقول: ثلاثة واثنان خمسة. خمسة وسبعة اثنا عشرة، اثنا عشرة وثلاثة خمس عشرة، عِم صباحاً. خمس عشرة وسبعة اثنان وعشرون. اثنان وعشرون وستة ثمانية وعشرون، لا وقت لي فأشعلها، ستة وعشرون وخمسة واحد وثلاثون.”أُف” فالحاصل إذن خمسماية مليون ومليون وستماية واثنان وعشرون ألفا ًوسبعماية وواحد وثلاثون.
قال الأمير: خمسماية مليون ماذا؟
قال الرجل: آه.لا تزال هنا؟ خمسماية مليون…خمسماية مليون لا أدري ماذا. إن أشغالي عظيمة جداً حتى إني لا أدري ما هي الخمسماية مليون. أنا رجل رصانة وجدّ. أنا لا ألهو بالترهات! اثنان وخمسة سبعة…
فكرّر الأمير السؤال قائلاً: خمسماية مليون ماذا؟ والأمير كما تعلم لم يطرح قط في حياته سؤالاً وغفل عنه بعد طرحه.
رفع “البزنسمان” رأسه وقال: أنا أقطن هذا الكوكب منذ أربع وخمسين سنة وما شُوَّش عليَّ عملي إلا ثلاث مرّات. ففي المرّة الأولى، لاثنتين وعشرين سنة خلت، عكّرت عليَّ صفو عملي خنفساء سقطت من حيث لا أدري وأحدثت ضجّة هائلة فغَلطت أربع غلطات. وفي المرّة الثانية لإحدى عشرة سنة خلت، أصبت بنوبة عصبيّة وذلك لأنّي لا أمارس شيئاً من الرياضة البدنيّة فعملي لا يترك لي متّسعاً من الوقت للنزهة والتمشّي على الطرقات من غ?