لقد أرسل الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وهداية للخلق أجمعين ليجمع على الإيمان قلوب المؤمنين ويزيل من قلوبهم كل أسباب الشحناء ويطهر نفوسهم من كل أسباب البغضاء ليكونوا إخوانًا متحابين، وهذا واضح في سنته عليه الصلاة والسلام، من أوامره عليه الصلاة والسلام، وكذلك من نواهيه، فمنها ما أخرجه البخاري ومسلم عليهما رحمة الله، صحيحيهما عن النبي أنه قال: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) رواه البخاري ومسلم.
لقد تضمن هذا الحديث أحد عشر نهيًا يؤدي الانتهاء عن فعل هذه النواهي إلى الائتلاف والصفاء بين قلوب المسلمين وإلى البعد عن الاختلاف والشحناء بين المؤمنين.
احرص على حفظ القلوب من الأسى فـرجوعها بعد التنافر يعسرُ
إن القلـوب إذا تنـافـر ودهــــــــــا مثل الزجاجة كسرها لا يجبر
قول النبي : ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث)) المقصود بالظن هنا هو التهمة التي لا سبب لها، وهو الظن السيئ فإنه من الإثم والباطل قال تعالى: ((إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ)) [الحجرات: 12]، وقال عز وجل: ((إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ اللْحَقّ شَيْئًا )) [يونس: 36] فعلى المسلم أن يحذر من ظن السوء وأن يحمل أخاه على أحسن الوجوه ما وجد إلى ذلك سبيلاً، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً)، وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: (كتب إليّ بعض إخواني أن ضع أمر أخيك على الأحسن ما لم تغلب).
وقوله: ((فإن الظن أكذب الحديث)) أي ما ينشأ عن الظن مما لا يطابق الواقع.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا تحسسوا ولا تجسسوا)) قال العلماء: التحسس الاستماع لحديث القوم، والتجسس: البحث عن العورات، وقيل: هو التفتيش عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال ذلك في الشر قال الخطابي رحمه الله: “معناه: لا تبحثوا عن عيوب الناس ولا تتبعوها”.
وقوله: ((لا تحاسدوا)) أي لا يحسد بعضكم بعضًا، والحسد هو تمني زوال النعمة عمن لديه تلك النعمة، وهو سخط على الله في فضله ونعمته واعتراض على قسمته قال سبحانه: ((أَمْ يَحْسُدُونَ الناس عَلَىٰ مَا ءاتَـٰهُمُ الله مِن فَضْلِهِ)) [النساء: 54]،وكل ذي نعمة فهو محسود قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما كانت نعمة لله على أحد إلا وجدت لها حاسدًا ولو كان الرجل أقوم من القدح ـ وهو السهم ـ لما عدم غامزًا) إلا ما ذكر عن التواضع فإنه قل من يحسد من يتصف به، قال المبرد: النعمة التي لا يحسد صاحبها عليها التواضع، والبلاء الذي لا يرحم صاحبه العجب. ولعل السبب في كون المتواضع لا يحسد على تواضعه لأن التواضع في نظر المستكبر ذلة وصغار وهو في الحقيقة عزة وإكبار.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا تناجشوا)) والنجش هو أن يزيد الرجل في قيمة السلعة وهو لا يريد شراءها وإنما قصده نفع البائع على حساب المشتري أو مضرة المشتري المحتاج وهو من أسباب البغضاء ومن الإعانة على أكل المال بالباطل ومن الغش للمسلمين، فلا يجوز لك أيها المسلم أن تزيد في ثمن سلعة ما عند المزايدة إلا إذا كنت تريد شراءها حقيقة لك أو لغيرك.
وقوله: ((ولا تباغضوا)) أي لا تفعلوا أسباب البغضاء فيما بينكم من السب والسخرية والغيبة والنميمة، وإن من شرار الناس المشائين بالنميمة المتبعين لأهوائهم، ولتحذري أيتها المسلمة أن تبغضي أختاً لك من أجل أمرها لك بمعروف أو نهيا عن منكر فتبغضيها من أجل أن وعظها لا يوافق هواك فتكونين ممن اتبع هواه بغير هدى من الله فتصبحين من الضالين.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا تدابروا)) والتدابر هو التهاجر والتقاطع فإن كلا من المتقاطعين يولي صاحبه دبره ويعرض عنه ولا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام قال النبي : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) أخرجه مسلم.
قال ابن عبد البر رحمه الله: قيل للإعراض مدابرة لأن من أبغض أعرض، ومن أعرض ولى دبره، والمحب بالعكس.
وقوله: ((ولا يبع بعضكم على بيع بعض)) معنى ذلك أن يقول لمن اشترى سلعة في مدة الخيار افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأقل أو أجود منه بثمنه فليتق الله المسلم وليقنع بما آتاه الله ولا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله.
((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره)) فقوله لا يظلمه أي لا يجوز له ظلمه بقول أو فعل أو ترك بل يسعى في نصحه وإعطائه حقه وعدم الاعتداء عليه، وقوله: ((ولا يخذله)) أي لا يترك نصرته وإعانته إذا استعان به في دفع الظلم عنه وهو يقدر على ذلك.
وقوله: ((ولا يحقره)) أي يستصغر شأنه من أجل أنه أقل منه في علمه أو سنه أو في دنياه أو في مركزه ومنصبه أو في جاهه ونسبه أو في قبيلته أو عشيرته، فإن الاحتقار منشؤه الكبر والاستكبار والله لا يحب المستكبرين.
وقد توعد عليه الصلاة والسلام من كان في قلبه كبر بعدم دخوله الجنة؛ حيث قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) فقيل له إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا فقال: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)) رواه مسلم.
ومعنى قوله: ((بطر الحق)) أي رده ودفعه إلى قائله، وقوله: ((وغمط الناس)) أي احتقارهم وازدراؤهم وكفى بالاحتقار شرًا قوله عليه السلام بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.
وقول النبي : ((التقوى هاهنا)) ويشير إلى صدره ثلاث مرات، يدل على أن نظر الله تعالى إنما هو إلى القلوب والأعمال لا إلى الصور والأموال، وكما يحرم عليك ذم أخيك المسلم وماله فكذلك يحرم عليك عرضه بسب أو سلب.
قال بعض السلف: ليكن حظ أخيك المؤمن منك ثلاث: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه لا تذمه.
وأخيراً يا أخواتي الفاضلات:
إن أعداء الإسلام يفرحون بتفرق المسلمين واختلافهم وتباغضهم وتحاسدهم ليتمكنوا من الدخول عن طريق خلل الصفوف فكونوا رحمكم الله ـ متحابين متلاحمين ولا تدعوا فرجات لشياطين الإنس والجن بل اجتمعوا لطردهم واتحدوا لدحضهم وكونوا عباد الله إخوانًا لعلهم يموتون بغيظهم فيكفيكم الله شرهم ومكرهم وكيدهم، وما كيد الكافرين إلا في ضلال.