/ إن مفهوم التدبر عموماً هو:
” أن تقف مع الآيات تتفكر وتتأمل وتُعيد النظر من أجل أن تُدرك معانيها، والمراد منها ..وبذلك تستشعر حلاوة القرآن ولذته، وتحظى بكنوزه وأسراره..
خاصةً وأن الكلمة في القرآن ليستْ كما تكون في غيره ، بل السموّ فيها على الكلام أنها تحملُ معنىً، وتُوميء إلى معنى..وتستتبعُ معنىً ، وهذا ما ليسَ في الطاقة البشرية.. وهذا الدليلُ على أنه :{ كتابٌ أُحكِمتْ آياتهِ ثم فُصّلت من لدن حكيمٍ خبير }
وقد دعا الله عز وجل إلى التدبر فقال تعالى:{ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها..}
.
وهذا أسلوب حث وحضِ شديد على تدبر القرآن ، وأنهُ أمرٌ مفروغٌ منه ،فكيف أنهم إلى الآن لم يفعلوه..؟؟
قال القرطبي: “إن هذه الآية دلتْ على وجوب التدبر في القرآن ليُعرف معناه”.
إذ ْْ أنه مفتاح الكنوز والذخائر والعلم والبركة العظمى التي احتواها هذا الكتاب المجيد..
– وقد قرنَ الله جل وعلا بين البركةِ والتدبر ، قال تعالى:{ كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدَّبروا آياته.. }.
هذا الكتاب مبارك، تتجلى فيه كل مظاهر البركة وآفاقها وأصولها وفروعها ، بركةٌ في الأنفس وبركةٌ في القلوب، وبركةٌ في الأعمال، وبركةٌ في كل شيء.. وأنت بمقدار تدبرك له وجلوسَك إليه واستفادتك من هدْيه بمقدار ما ستُدرك من بركته..
نعم تصحيح التلاوة وتعلّم التجويد ، واستقامة اللسان أمرٌ مهم ، وحِفظ القرآن وقراءته وإقرائه طلباً للأجر والثواب مطلبٌ عظيم وغايةٌ جليلة ، ولكن ليس عند هذا سنقف..!
فهناك ما هو أعظم وأكثرُ أجراً وثواباً وأعلى مقاماً وأشرفُ مقصداً وهو تدبُر ما نقرأه ونُقرئه.. وتدبر ما نحفظُه و نُحفِّظهُ..
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
” والمطلوب من القرآن فهمُ معانيه ، والعمل به، فإن لم تكنْ هذه هي همةُ حافِظهِ لم يكن من أهل العلِم والدين”.
فالله عزوجل ما أنزل كتابه إلاَّ لنعملَ به ونحن لن نعمل إلاَّ إذا فهمناه ، وتدبّرناه، وصحِبناه حق الصُحبة..
لا أعنى بصحبة القرآن أن نتعامل مع هذا الكتاب مجرد قراءةٍ فقط فيصبح همُ أحدنا متى ينتهي من السورة ليبدأ بغيرها ، ويكرر الختم ويتسارعُ فيه..
ولا أعنى بالصحبة أيضاً صُحبة السماع، أو الترتيل فقط ، فيصبح جهده وتركيزه منصباً على تقويم لسانه ” المخارج، والصفات، والتجويد والصوت الجميل “.. أما المعاني والمقاصد فكأنه أمام طلاسم ورموز لا يمكنُ فكُّها ولا فهمها..
ولا أعنى بالصحبة أيضاً صُحبة الحِفظ فيصبح جُلَّ همه وغايته كم حفِظ ؟ وكم أنهى ؟ وكم بقي له ؟
هذه كلها صورٌ لصحبة ناقصة فيها من الخللِ ما فيها لن تُعطيَ صاحبها الثمرة المرجوة من القرآن ..
“..
استمع لما يقوله الحسن البصري عن بعض “قراء زمانه”:
” أما والله ما هو بحفظ حروفه ، وإضاعة حدوده، حتى إنَّ أحدَهَم ٍليقول: لقد قرأت القرآن فما أسقطتُ منه حرفاً، وقد والله أسقطهُ كلهُ..
ما يُرى له القرآن في خُلقٍ ولا عمل، وإنَّ أحَدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نَفَس، والله ما هؤلاء بالقرَّاء ولا العلماء، ولا الحكماء، ولا الورعة، ومتى كانت القُراءُ مثل هذا فلا كثَّر الله في الناس مثل هؤلاء “.
فإن كنت عاقلاً وأنت عاقل ؟؟ فقف وانظر وتأمل ، وأعِدْ حساباتك مع نفسك وحدد موقعك من كتاب الله، ولا تكن كالعطشان يموتُ من الظمأ والماءُ بين يديه ، ولا كالتائهِ يَهْلَكُ من الحيِرة والإعياء والنور من حوله فقط لو فتحَ عينيه..
..فقد ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم ; أنه قال:[ إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضعُ به آخرين ].
مثل هذه النصوص لا بُد أن تؤثَر فينا وأن تخيفنا.. لا بد أن تستوقفنا ونعرضُ أنفسنا عليها ..
لنرى حقيقة صحبتنا لكتاب الله سواء كُنا قارئين أو حافظين أو مُعلمين ، وإن كان الكلامُ يتأكد أكثر في حق حفظِة كتاب الله ومعلمي كتاب الله ،،
“فإن العبدَ إذا أُعطيَ من النعمةِ كمالها كان المطلوبُ منه آكدُ وأكثرُ من المطلوب من غيره “..
صحبتك لأشرف وأجلًَّ وأعظم كلام ..كلام الله الذي لا منتهى له .لا بد أن يُرى أثرها عليك ، فيكون القرآن ربيعاً لقلبكَ تَعْمرُ به ما خَرُبَ من هذا القلب، وتُصلحُ به ما فسدَ من جوارحك ..تُقوي به إيمانك، تُهذّب به نفسك، تتحلَّى بحليته باطناً وظاهراً ، ترتقي به إلى المعالي وإلى الكمال..
كما قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه :
” حامل القرآن له أحوالٌ غير أحوال الناس حتى يستحق حمل القرآن في صدرهِ “..
فتكون أول ما تكون صادقاً مع ربـــــك ..
صادقاً مع نفسك..
صادقاً مع الناس…
وهذا الصدقُ ما هو إلاَّ ثمرة الخشية التي قُذفتْ في القلب حين امتلأ بالقرآن وانتفعَ بالقرآن…
قال تعالى:{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيتهُ خاشعاً متصدعاً من خشيةِ الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون }..
فإذا كان الجبل تغيَّر حاله من القرآن… أولاَ يتغيَّر حال حامل القرآن ومعلم القرآن ..؟؟
😆 idea:
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ( موافق للمطبوع ) – المؤلف : الشيخ عبدالرحمن السعدي
منقول مع التعديلات