خلاصة القصة أن زعيم الطبقة الأولى من كتاب العصر العباسي عبد الله بن المقفع تطاول بعنقه أن يقلد أسلوب القرآن الكريم وإذا قلبت مؤلفاته وجدت في أسلوبه جاذبية تأسرك بما فيه من أصالة لا يخامرها تكلف.
والمهم أن الرجل جمع من روائع كتاباته قدرا كافيا من روائع كتاباته وهم أن يطلع به على الناس ولكنه مر على كتاب يتعلم به الصبية القرآن وإذا طفل لا يتجاوز العاشرة يقرأ قوله تعالى من سورة هود {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين } فلم يكد يسمعها حتى سارع ومزق أوراقه قال: هذا مالا تنهض له طاقة البشر.
أروع ما يطربك في هذه الآية أنها صورت تلك الخاتمة التي آل إليها الظالمون في صورة بلاغية لم تتعد بضع عشرة كلمة في كلمة {وقيل} قد وردت بالبناء للمجهول لأن القائل جل وعلا غنى عن الذكر ثم إن إضمار القائل يوقع في النفس مهابة لأن العبرة بما قيل ولأن المقصود هو الأمر الإلهي نفسه وهو أمر نافذ على كل مخلوق عاقل أو غير عاقل.
ومثل هذا الأسلوب في حذف الفاعل في قوله:{ وغيض الماء}فان من غاضه معروف لا إله إلا هو {وقضي الأمر }فسبحان من قضى أمر نوح وقومه بهذا الحكم العادل { وقيل بعدا للقوم الظالمين}كلما ت فيها إيجاز مهيب إذ الأولى فاعلها كل المخلوقات والثانية مصدر حذف فعله وناب هو عنه والثالثة تنظم للظالمين من أي نوع في سلك الغضب والبعد, فكل ظالم سيبعده الله إبعادا يقوده إلى هاوي الدمار.
وتـأمل الصورة في قوله {يا أرض}إنها كالعقلاء بل أكثر طوعا في تنفيذ أمر ربها وحقت أن تنفذه وانظر إلى كلمة {ابلعي}أي صورة رائعة إذ يختفي ماء الطوفان في باطن الأرض كما تبتلع اللقمة ولم يقل:ابتلعي لأن الأولى على قصرها أكثر اتساقا بالسياق أما كلمة {ماءك} فهي إيذان أن الماء بعد أن كان أداة للعذاب أصبح حياة للأرض, فهو ماؤها الذي تختزنه ليتحول حياة لأهله بعد أن سيق هلاكا للظالمين فسبحان من أنزله ثم أسكنه.
ومضى يقول { ويا سماء} يأمرها لأنها ملك يمينه { أقلعي} يعني عن المطر, وهي كلمة واحدة أنفذتها السماء وحقت أن تنفذها { واستوت على الجودي} حذفت التي استوت فأكسبها الحذف سطوعا.
والمخبأ في هذه الآية أعظم فسبحان منزل أشرف الملام على أشرف الأنام.
منقول بإختصار من
كتاب (من لطائف التفسير)
المجلد الأول
للشيخ أحمد فرح عقيلان