ما أجمل روح الحياة حين تجري في العروق – قصة تائبة


ما أجمل روح الحياة حين تجري في العروق – قصة تائبة (1)

بقلم الشيخ الدكتور عبدالسلام بن إبراهيم الحصين

لا أدري لماذا أعرض هذه القصة هنا؟! وأولى الناس بها هم الآباء والأمهات، الذين ضاع كثير من البنين والبنات بسببهم، ولكن أرجو أن تنقل إليهم، فتلامس أسماعهم، وتنفذ منها إلى قلوبهم، فتهز مشاعرهم، وتحرك عاطفتهم، وتثير غيرتهم..

أن تنفذ إلى أعماقهم فتغير واقعهم، وتعيدهم إلى دينهم..

هل نسي الآباء والأمهات موقفهم بين يدي الله، حين يسألهم عن الأمانة التي حُملوها؟

ما أعظم حسرتهم، وما أطول وقفتهم، يا لعظيم خيبتهم..
ما جوابهم؟ ما عذرهم؟

هذه قصة ما نسجتها من عالم الخيال، ولا استخرجتها من العدم..
سمعتها بأذني، وقرأت حروفها بعيني..
قصة وقعت هنا، لكنها تتكرر كثيرًا في أماكن مختلفة، مع عالم الضياع الذي يعيشه البنات بسبب إهمال الآباء والأمهات.
قالت لي: هل أنت فلان؟
قلت: نعم.
قالت: هل تأذن لي بسؤال؟ ما حق الأبناء والبنات على الآباء والأمهات؟

فأجبت باختصار، وذكرت ما حضرني من النصوص التي تحث على تربية الأبناء..

لكنها قاطعتني بنبرة مليئة بالأسى، نبرة تنقلك إلى تجربة مريرة قائلة:
لماذا يركز طلبة العلم دائمًا على حقوق الآباء، والأمهات، وعلى حقوق الزوج؟؟!!
أما لنا نحن البنات من نصيب؟؟ أما لنا من حق على آبائنا؟؟ هل يكفي أن يوفر الأب لابنته المسكن، والملبس، والمأكل؟ هل يكفي أن يعيشها في فندق، فيه من متطلبات الجسد كل شيء، وليس فيه من معاني العطف والحنان والرحمة والمودة أي شيء.
لقد ضعت في دهاليز الحياة، وأنا أرى إهمال حقوق الأبناء، بالرغم من محافظة الأبناء على حقوق والديهم من طاعة وبر ..
ضعت وأنا أرى التقاطع العائلي.. ينشأ الإنسان في أسرة مفككة، لا يعرف فيها الولد عمه ولا أقاربه الأقربين، بل إن أصدقاءه أقرب إليه من أبيه وأمه..
ضعت وأنا أرى ضعف الإيمان وعدم التنشئة الصحيحة للأبناء؛ حيث لم يتعلموا أصول الدين وشرائع الإسلام…
ضعت وأنا أرى انشغال الوالدين؛ أحدهما أو كلاهما بحياته الخاصة، وعدم الاكتراث بأبنائهم…
ضعت وأنا أرى جفاف مشاعر الأبوين، وحاجة الأبناء للاهتمام والمحبة والرعاية من قبل والديهم…
ضعت مع رفقاء السوء، الذين كانوا أقرب للابن من والديه، يُسْدُون إليه النصائح الفاسدة، ويدلونه على الطرق المظلمة، يظنون أنها هي الحل لمشاكلهم، ولكنهم لا يعلمون أنها بداية الضياع، والدخول في مصارعة الأمواج الصاخبة، والأعاصير العاتية..
ضعت وأنا أرى الفراغ يمزقني، والوحدة تقتلني، واليد الخبيثة تحتضنني…
رأيت شيئًا كثيرًا، حتى صرت وأنا ابنت الثالثة والعشرين كأني ابنت الأربعين.
هل تستمع لقصتي؟ هل تصغي لآهاتي؟ هل تنقل كلامي للناس، لكي يرو نتيجة إهمالهم تربية أبنائهم؟ هل أسرد قصتي عليكم، عسى أن تكون عبرة وعظة لغيري من أقراني و للوالدين؟
قلت: تكلمي، فكلي آذان صاغية.

في يوم من أيام الربيع من عام 1982م, كان مولدي من أم ليست مواطنة، ولكنها عربية، وقد كنت الأمل الذي طالما عاشه أبي، استقبلني بحفاوة بالغة، مع أني لم أكن أول أولاده، ولكني كنت أول بناته..

كان أبي يتمنى أن يولد له بنت في كل مولدٍ من ميلاد إخوتي الخمسة، حتى أعطاه الله البنت التي انتظرها كثيرًا..

لكن فرحته لم تكتمل، والسبب مرضي الذي أثر على حياتي؛ فقد أصبت بمرض الربو، وكان شديداً علي، حتى عشت أغلب أيام طفولتي في المستشفيات والعيادات، وكان أبي أقرب شخصٍ إلي، حتى من أمي..

لقيت اهتماماً شديداً منه، وعناية بالغة، حتى صار يُفرِّقُ بيني وبين إخوتي، كان يلبي جميع طلباتي، لم يتردد يومًا قط في شيء مما أريده، كان يحملني بين يديه، ويضعني على صدره، يطوف بي بين الأطباء، يتطلب لي الشفاء..

أهمل أبي تربية أبنائه، وصرت شغله الشاغل، فأحدث ذلك فتنة بيني وبين إخوتي، وصاروا يحقدون علي؛ لأني محط اهتمام والدي.

لاحظتْ أمي ذلك، وخشِيَتْ أن تقع بيني وبين إخوتي النفرة والجفاء، فطالبت أبي بالعدل، وأن يكف عن التمييز الواضح، والدلال الزائد، الذي سيكون أثره سلبيًا على الجميع، لكنه لم يفعل، وتجاهل جميع النصائح.

بدأت أمي تتغير علي، أهملتني تمامًا، والتفتت إلى إخوتي، بل أصبحتُ أحس أنها تحقد علي بسبب دلالي الزائد، ولم تكتف بذلك، بل صارت لا تتوانى عن ضربي وإيذائي، ولسان حالها يقول: خلي دلال ابوج ينفعج.

انقطعت حبال الوصل بيني وبين أمي، بعد أن انقطعت بيني وبين إخوتي، فصرنا فريقان متحاربين، كَرِهتُ أمي كراهيةً لا أظن أحدًا من البشر عرفها قط..
وصار عندي نوع من الحالة النفسية برفضها وعدم الاعتراف بوجودها، وكنت كلما أراها أهرب من المنزل، وأذهب إلى أحد بيوت الجيران خوفًا منها..

وجدت الراحة النفسية، وحنان الأم وعطفها ومحبتها عند جارتنا؛ فكنت لا أجلس في البيت حتى يعود أبي من العمل، وعند خروجه أعاود الخروج..
كل هذا وأنا ما أزال في السنة الثالثة أو الرابعة من عمري.

مضت الأيام، وبدأت حالتي الصحية في التحسن، حتى شفيت من مرضي ذلك بفضل من الله تعالى، وكان عمري وقتها 7 سنوات.

دخلت المدرسة، وصارت لي متنفسًا، وجدت من ألعب معه من بنات جنسي، ممن هو في سني، لكني حين أعود إلى البيت أدخل في وحدة قاتلة، فإعراض أمي وجفاؤها، وفارق السن بيني وبين إخوتي، والمواقف السابقة التي تسبب فيها أبي، جعلت بيني وبينهم سدًا منيعًا، وزاد الأمرَ سوءًا انتقالُ جيراننا، وكنت لا أزال أحس بشيء من العطف والحنان عند أبي..

أخرج إلى المدرسة فلا يودعني أحد، أعود منها فلا يستقبلني أحد..

لو أن الإنسان مُنع من الطعام والشراب أيامًا ماذا يحصل له؟ أليس يضمر جسمه، ويتغير لونه، وتغادر روحه جسده؟

ليتني مُنعت من الطعام والشراب، ولم أحرم من العطف والحنان..

كانت روحي تضمر، ومشاعري تجف، كنت عطشى وجوعى، فلا يسقيني أحد، ولا يطعمني أحد..
لا أريد ماء باردًا، ولكني أريد صدرًا حنونًا..
لا أريد طعامًا ذا رائحة زكية، ولكني أريد قبلة حانية على جبيني، على ثغري، يدًا تحتضنني، تضمني..
أمًا تودعني وتقول: في حفظ الله ورعايته… أماً تستقبلني وتقول: أهلاً بحبيبتي، كم أنا في شوق إليك، كأنك غبت عني سنة كاملة..

وكانت الطامة حين بدأ أبي يبتعد عني شيئاً فشيئًا، كان يظن أني محتاجة إليه بسبب مرضي، أمَا وقد شُفيت فلا حاجة لي به..
لكنه مخطأ، لقد أخطأ خطأ فادحًا أصابني في مقتل…
أنا الآن أشد حاجة إليه، أكثر من ذي قبل..
قلبي الآن يمرض، مرضًا أخطر من مرض جسمي..
أنا الآن أشد حاجة إلى عطفه وحنانه وحبه الذي فقدته من الكل، حتى من أمي..
صرخت، أدركوني، أنا مريضة فعلاً..
أدركوني قبل أن أموت..
أبي هل تسمعني؟ أما ترى مرضي يفت في عضدي، أما تراني أتضور جوعًا..
أبي.. أين أنت؟ أعلم أنك موجود، كل يوم أراك في البيت، ولكني أراك جسمًا لا مشاعر فيه…
أبي.. لم لا تضمني إلى صدرك؟!
أبي.. لم لا تقبلني؟!
أبي… لم لا تناديني بحبيبتك؟!

كل يوم أكبر فيه تزداد مشاعر الوحشة في نفسي، والنفرة من واقعي، والهروب إلى المجهول…
أتطلب شيئًا لا أجده عند أمي وأبي..
لم يعد للبيت أي قيمة عندي… صارت المدرسة هي أنسي، وراحتي، وبيتي الحقيقي..
ولكن هيهات أن تجد بين ساذجات مثلي من يقدم لك النصيحة الصادقة..
بدأت العاصفة تهب، ودخلت في مرحلة جديدة من حياتي..

رفقاء السوء، وبداية السقوط في الهاوية..
كنت في الثانية عشرة من عمري، في بداية مراهقتي، قد اكتملت أنوثتي، حتى إن الْخُطَّاب طرقوا باب أبي، ولكنهم رُفضوا بحجة أني ما زلت صغيرة، ولأجل مواصلة الدراسة..

بدأت أُعبِّر عما أشعر به من حاجه ماسة إلى الحنان والاهتمام..

أبي كان مشغولاً في مزارعه، ومع أصدقائه، كان في وادي، وأنا في واد آخر..

ربما أكون مبالغة في طلبي للعطف والحنان، ولكني قد افتقدت قدرًا كبيرًا منه…
هل أنا صادقة مع نفسي حين أُعلِّق أخطائي على غيري؟!
هل كان افتقاد العطف والحب والحنان والألفة هو السبب الوحيد؟!

الحقيقة أنه ربما كانت هناك أسباب أخرى متعلقة بنفسيتي وشخصيتي الحساسة المرهفة، وتضييق أبي في الإنفاق، ورغبتي في مجاراة من حولي في المظهر…
لكن لا أشك أن السبب الرئيس هو إعراض أبي، وجفاف أمي..
لقد عانت أمي كثيرًا، عانت من أبي سوء تصرفاته، وتضييقه عليها في النفقة…

في تلك الفترة الحرجة كان أقرب الناس إلي زميلاتي في المدرسة..
كنا نجلس ونتكلم عما يدور في داخلنا، نشكو بعضنا لبعض، كل واحدة تتحدث عما بداخلها، عن أسرار بيتها، عن ضياع أسرتها..
أصدقكم القول أني لما سمعت معاناتهن وجدت نفسي أحسنهن حالًا…
هذه إحداهن بدأت كلامها بدمعات تساقطت على وجنتيها الصافيتين، دموع حارة، صاحبتها آهات وزفرات، خرجت من فيها كأنها وهج من نار..
قالت: أنا أكبر إخوتي، وكان أبي سبباً في ضياعي..
قلنا: كيف؟؟؟
قالت: تزوج أبي من أمي وهي في مقتبل العمر، وكان يكبرها بعشرة أعوام..
كانت أمي بالغة الجمال والحسن، من أسرة محدودة الدخل، وكان أبي ميسور الحال..
كان أبي يريد ابنًا يخلفه، يرثه من بعده، حتى يقطع أطماع إخوانه في تركته..
أنجبتني أمي.. وكان أبي خارج غرفة الولادة ينتظر الولد الذي يكون له السند والعون، والذي سيرثه بعد موته حتى لا يرثه إخوته..
فوجئ بمولدي، غضب غضباً شديداً، وكأن أمي هي التي خلقتني، وكأن قرار تحديد نوعية النسل بيدها… طلقها وتركني معها..
حتى إذا أتممت السنة الأولى من حياتي أخذني أبي عنده، كان مصراً على أن أكون صبياً، سماني باسم من أسماء الذكور، مع العلم أن أمي سمتني في شهادة الميلاد باسم أنثوي جميل…
لكنه لم يكترث بما في الأوراق، وصار يناديني بالاسم الجديد وهو (أحمد).
كان يلبسني ملابس الذكور، ويعاملني معاملتهم حتى نسيت أني أنثى..
لو كان يستطيع أن يُجري لي عملية جراحية أتحول بها إلى ذكر حقيقةً لفعل..
بمرور الوقت أيقن أبي حاجتي لأمي؛ فأرجعها إلى عصمته وتزوجها من جديد..
حملت أمي، وأنجبت بنتًا ثانية، فطلقها…
ثم راجعها؛ فأنجبت له بنتًا ثالثة، فرابعة؛ فصرنا أربع بنات، لا.. عفوًا، بل أربع مصائب وبليات..
في آخر مرة حملت فيها أمي، أنجبت ما كان يتمنى أبي، أنجبت ولدًا، استطاعت في آخر محاولة أن تلبي رغبته، لكن للأسف لم تقر عين أبي به؛ لأنه مرض مرضاً شديدًا في قلبه، قبل أن تلد أمي، لم يصمد كثيرًا، ففارق الحياة…
من حينها بدأت رحلت العناء والشقاء لي ولإخوتي مع هذه التركة الكبيرة..
استهان عمومتنا بوفاة أبي، كانوا يحضرون إلى المنزل، يودون لو طردونا منه..
حاولوا أن يستولوا على تركة أبي وأخذ أملاكه، ولكنه قبل موته كتب أغلب ثروته لي…
لم يقتنع أعمامي بذلك، فاتهموا أمي بأنها زورت المستندات، وأن أبي كان مريضًا..
كلام طويل، وشقاق ونزاع من أجل حفنةً من المال سيموتون غدًا ويتركونها..
عشنا في إهانات متتابعة، وشتائم وسباب من أقرب الناس لنا..
أصيبت أمي بمرض نفسي بسبب هذه الظروف التي أحاطت بنا، فذهبنا وعشنا في بيت جدتي أم والدتي، ولم نسلم من طمع أخوالنا فينا..
بكت ولم تستطع إكمال حديثها…

تكلمت زميلتي الثانية؛ فقالت: لم أعد أثق بأحد..
قلنا: لماذا؟؟
قالت: في يوم من الأيام، بينما أنا جالسةٌ في غرفتي إذ دخل أخي الكبير علي، نظر إلي بنظرات أرعبتني، أقترب مني.. قبلني.. لكني لم أطمأن لقبلته؛ لأنها لم تكن قبلة طبيعية كما كان يفعل، ثم عانقني، فزعت… نظرت إليه مرة أخرى وأنا في حيرة عظيمة، لا أريد أن أصدق أنه يريد ما حدثتني نفسي به، مستحيل.. إنه أخي، ماذا دهاه؟؟!!..
لكن الأمر لم يمكن فهمه إلا على هذه الصورة…
وزاد الأمر يقينًا تصريحه بذلك، لقد طلب مني أن …..
بكيت بكاءً شديدًا، وخرجت من غرفتي، واختبأت في الحمام، حتى اطمأننت أنه خرج من غرفتي، فأخذت المفتاح وأقفلت الباب علي, ولم أنم ليلتها لما فاجأني وآلمني منه، حيث كان أخي الكبير الوحيد الذي كان خليفةَ أبي بعد وفاته..
وكنت أتجنب رأيته، حتى لا أتذكر ما حصل لي معه، ولم أخبر أمي ولا أخواتي بما حصل لي…

هكذا كان حوارنا… مآسي متقابلة، وكأن القدر ساقاني إلى أمثال هؤلاء…

لَمَ لَمْ أرتبط بغيرهن؟؟
هل كانت المدرسة كلها هكذا؟
لا أظن.. الخير بحمد الله موجود…
ولكن القدر ساقاني، ولكل شيء سبب وحكمة وغاية..

وأخَذَتْ الواحدة منا تتحدث تلو الأخرى..
قصص أغرب من الخيال..
حتى جاء دوري بالحديث عن نفسي:
ومع بداية حديثي بدأ مشوار الضياع…
قد قيل قديمًا: فاقد الشيء لا يعطيه..
كيف يمكن أن أجد عند أمثال هؤلاء حلاً سليمًا؟؟؟
كل واحدة غارقة في مشاكلها، تهرب من واقعها إلى واقع تتخيله..
تظن أن الكلمات المعسولة التي تسمعها من الشاب هي فيض جنانه، وخالص حنانه، تظن أنه يعطيها أغلى ما يملك، حتى إذا وقعت لم تستطع أن ترى الحقيقة؛ لأنها لا تريد رؤيتها..
تريد أن تسمع كلمات المدح والثناء، كلمات الإعجاب والإطراء، كلمات الحب والغرام…
آه.. كم أنا مشتاق.. قلبي ينتفض كعصفور بلله القطر…، أنت كل شيء في حياتي، كلماتك أحلى من تغريد الطير، وأنفاسك أعطر من الورد، الساعة التي لا أراها فيكِ كأنها أسبوع، تمر ببطء شديد.. وحين أكون معك يطير الوقت، كأنما تريد هذه الساعة أن تقطع حديثنا..
هل لعبت الغيرة برأسها فدارت عقاربها بسرعة؟!!!
لماذا أيها الزمن تعاندنا؟!!
لماذا تسرع في ساعات الأنس والفرح؟؟ وتمشي ببطء في ساعات الحزن والأسى؟؟
حتى أنت أيها الوقت صرت ضدنا، لا تمنحنا من الحنان ما نريد..
ألا يكفي أن يكون أهلنا كذلك، حتى تكون أنت معهم..
أحلام وردية جميلة، لكنها سراب.. إذا وصلنا إليها وجدناها لظى تحرق أجوافنا.. وتقتلنا وأرواحنا في أجسادنا..

بدأتُ أسرد عليهم ذكرياتي الأليمة، وتاريخي المر، مع أنه كان ألطف بكثير من واقعهن السيئ..
أنا أفتقد العطف والحنان، أريد من يمنحني الاهتمام والحب بعدما فقدته من أبي..
أريد من ينفق علي، أبي يقصر علي في النفقة حتى في العيد يحرمني الكسوة..
لم يكن للعيد أي طعم في حياتي..
أرى الناس يلعبون، ويمرحون، ويضحكون فأتعجب، وأقول: لم تفعلون ذلك؟؟
لا أرى في العيد أي معنى يستحق الفرح به..، لا فرق بينه وبين أي يوم آخر..
ليس هناك أقارب يزوروننا…، ولا ألعاب جديدة نفرح بها…
لا ألبس جديدًا، ولا يعانقني فيه أحد…
لقد وصل الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك…
هل تصدقون أن الخادمة صارت أصدق وأحب إلى أبي مني؟؟
بل هل تصدقون أن أبي أراد أن يطردني من البيت بسببها؟ بل لقد طردني فعلاً..
تعجبت زميلاتي من ذلك أشد العجب، وقلن بصوت واحد: أب يطرد ابنته!! كيف ذلك؟؟
في يوم من الأيام حدث لي مع الخادمة موقف، سوء خلاف، كما يحدث كثيرًا بين الخادمة والبنات الصغيرات من أمثالي..
تظلمتْ عند أبي، وشكتني إليه…
أقسمتُ لأبي بما حدث، وقلت: نعم.. قد أكون قصرت في حقك، لكني لا أكذب، لا أحلف كاذبة، إني ما زلت أُعظِّمُ ربي..
وأقسمتْ هي أيضًا…
صدقها أبي وكذبني..
صُدمت وأحسست بالظلم؛ لأني كنت صادقة فعلاً، وقلت: كيف تُكذِّبُ ابنتك، وتصدق امرأة غريبة عنك..
قال: هي تنفعني، وأنت ليس فيك نفع، أصرف عليك بلا فائدة..
أنت أبي، كيف تصرف علي بلا فائدة؟؟!! الأب لو كانت اللقمة في فمه فطلبتها ابنته لأعطاها إياها وحرم نفسه..
ماذا تنتظر مني… أن أجلب لك المال؟! أن أصرف على نفسي بنفسي؟!…

لم تكن كلماتي تلك إلا وقودًا لنار تشتعل في جوفه، ففقد وعيه، وطردني..
أب يطرد ابنته… هل سمعتم بهذا من قبل؟؟؟؟!!
أنا نفسي لم أصدق.. أبي يطردني…!!! ولماذا؟؟!! من أجل من؟!!!
أين أذهب؟!!
أنا لو رأيت عمي في الشارع ما عرفته؛ لأني لم أره من قبل…
أصر على خروجي، ولكني رفضت، وقلت: لن أخرج.
لم يقف في وجهه إلا أمي، لم ترض بهذا القرار الجائر الظالم…
بقيت في البيت، ومن ذلك اليوم تولَّد في داخلي حقد شديد عليه..
لم أكلمه بعدها، وهو لم يكلمني.. تمر علينا المناسبات فلا يقع لساني على لسانه، ولا عيني على عينه…

توقفتُ عن الحديث، وصارت دموعي تتحدث بدلاً عني..

قامت إحدى زميلاتي إلي.. وهدأت من روعي.. واحتضنتني..
وقالت: لا عليك، الأمر يسير، ستجدين العطف والحنان عند غير أبيك..بل حتى المال..
ستسمعين كلام الحب والغرام… سترين العاطفة التي شح بها عليك أبوك، وستجدين المال الذي بخل به أبوك..
انظري إلى هذا الهاتف النقال الذي أحمله، لقد أحضره لي حبيبي بمناسبة عيد مولدي…
خذي فكلمي… وستجدين كل شيء..

في الحقيقة لم أقتنع بكلامها..، لا يمكن أن أفعل ذلك، أنا من بيت مستور، ما كلمت رجلاً غير أبي، لم أعرف طريق الحرام يومًا، أنا أحتاج إلى حب صادق، وعاطفة كريمة، إلى من ينفق علي بالحلال..
أنا أشكو لأبث ما في نفسي.. لعلي أخفف من وطأة واقعي المألم..
لكن واقعي يزداد سوءًا، فصرت بين نارين..
نار الواقع الذي أعيشه.. ونار الوقوع في هذه الهاوية المظلمة..
كان يستحثني على موافقتهن ما أرى من حالهن..
يضحكن ويمرحن ويقضين الساعات الطويلة في الكلام الجميل…

بدا أن أستشير أحدًا تكون له تجربة، لعله يدلني إلى الطريق الصحيح..
لكن من أستشير؟؟ أبي؟؟!! وهو من أراد أن يطردني..
أمي؟!.. وهي التي منحت إخواني كل اهتمامها، ورمتني خلف ظهرها، كأنها ما أجنبتني..
وماذا أقول لهم؟ أريد العطف والحنان، عاملوني كإنسانة..
لقد كانت كلماتي تضيع في الهواء…

تذكرت قريبات لي يكبرنني بخمس عشرة سنة، كن عانسات..
قلت في نفسي: لعلي أجد عندهن الحل، أستطيع أن أصارحهن بما أريد فعله، فأنا في مأمن من أن يصل شيء من ذلك إلى أهلي..
وكانت مشورتهن كالحبل الذي طوق عنقي، وأدخلني من باب الهاوية..
لم أكن أعرف أن لهن تاريخًا مجيدًا -عفوًا بل سخيفًا- في قصص الحب والضياع..
ما عرفت ذلك إلا متأخرًا.. كانت أمي تسخر منهن؛ لأنهن عوانس، ولم يرض بهن أحد من الرجال لسمعتهن السيئة..
لما وقعت بين أيديهن رأينني فريسة سهلة، ساقه القدر إليهن..
بالإيقاع بي سيردون الصاع إلى أمي صاعين…
يا ولتا… أمي تسخر، وأنا الضحية!!…

ألا فلا تسخروا أيها الأباء والأمهات من أحد، ولكن أحمدوا الله على نعمة السلامة، وسلوا لغيركم العافية..

أشاروا بأن أفعل، إن الأمر لن يكلف شيئًا، هو كلام، كلام ضائع، هل تعرفين شيئًا أرخص من الكلام، وهذا الكلام الرخيص يُدرُّ مالاً…معادلة بسيطة..
أطرقي الباب، وإياك والخوف… استمتعي بأنوثتك، أخلعي ثياب الأسى والحزن..
إلى متى وأنت تنتظرين…
لا أظن إلا أن الشيطان بدأ يتعوذ من مكرهن وكيدهن..

في اليوم التالي جاءت زميلتي ومعها هاتفها النقال، واتصلت بأحد الشباب وأعطتني الهاتف فرميته؛ لأني لا أستطيع فعل ذلك، الخوف يتملكني، والعاقبة المجهولة تكاد تقتلني..
لكنها أصرت واتصلت مرة أخرى، فأخذت الهاتف، فكان أول ما بدأتُ به حديثي أن قلت: كيف حالج؟
ضحك، وقال: آنا ما ني بنت، أنا ريال.
رميت السماعة، ووقعت زميلتي في إحراج بسبب موقفي، فأكملتِ هي التحدث إليه بعد أن غيرتْ صوتها..

لم تيأس مني زميلتي، كانت تعلم أن المسألة مسألة وقت.. وأن الحاجز هو الخوف والرهبة.. وأن الرغبة ما زالت موجودة، لكنها تحتاج إلى جرأة، إلى شيء من المنشطات..
في المرة الثانية كتبت كلامًا في ورقه؛ لكي أقوله منها…
تكلمتُ، وكنت أقرأ من الورقة كالذي يقرأ قصةً في كتاب، أو مقالاً في جريده، ولم يكن يوجد بيننا حوار؛ لأني اكتفيت بالقراءة، ولم أسمع ما قال.. أنهيت المكالمة فور انتهاء النص الذي أعطتني إياه زميلتي .
مع الوقت، والتدريب المكثف استطعت التكلم والحوار دون ورقة، بل صار عندي نوع من الجرأة في التكلم، ليس ذلك فحسب، بل تفوقت عليهن في الأسلوب، وعذب الكلام…
صرت أبتكر الكلام، وأُنشئ ألونًا من صور الغرام، فلقد منحني الله ذكاء، وقدرة على الكلام القوي الواضح الفاضح، مع نغمة متكسرة ساحرة..

انتهت مرحلة زميلتي، كانت مهمتها أن تزيل حاجز الخوف، وقد زال..
وتولى إكمال المسيرة قريباتي…

لقد ذهبتُ إليهن أشكو إليهن أني لا أجد ما كنت أطلب، لا أحس أن من يكلمني يحبني فعلًا، إنما أراه متسليًا، يغريني بالكلام المعسول لكي يصل إلى جسدي، وهذا ما لا يمكن فعله…
كلام جميل في الظاهر، لكنه جاف في الحقيقة، كلحاء الشجر، ليس فيه أي ندى..
القضية خداع في خداع…
أنا أريد شخصًا يحبني حقيقة..، لا يطلب جسدي..
قُلن لي: الحب الخالص لا تجدينه إلى عند الزوج، لن تحصلي على ما تطلبينه في هذه المكالمات.. ليس في هذه المكالمات إلا الكلام الفارغ فقط، القضية تسلية فحسب..
أنت تشعرين بالضيق، وتحسين بالأسى؛ لأنك لا تسمعين مثل هذه الكلمات، فاسمعيها من هذا الشاب..
قلت: لكن هذا كذب في كذب.
قالت إحداهن: مسيكينة، ما زلت فتاة نظيفة القلب، صادقة المشاعر، أرجوك اخلعي هذه الثياب، لأنها لن تنفعك، والبسي ثياب النفاق والجدل..
ثم الكذب أحسن من لا شيء…
كذب يجيب فلوس، ووناسة، وسعة صدر، فيه أحسن من كذا..
استوعبت الدرس، وفهمت المقصود، وانطلت عليَّ الحيلة..

من وقتها صرت أكلم الشاب تلو الآخر، بالعشرات..
كنت أتسلى.. نسيت المشاعر الصادقة، والعواطف النابعة من القلب، نسيت الحب الذي ينطلق من معاني شريفة وسامية…
نسيت الحب للذات.. للخُلق.. للقيم.. للمعاني الشريفة… للتعاون الصادق..
نسيت ذلك كله لأني أطلب المستحيل..
هل يمكن أن تجد في النار شربة ماء…؟؟!!
هل يمكن أن تجد في الكهف المظلم في الليلة المظلمة شعاعًا من ضياء..؟؟!!
كنت أتسلى وألهو.. أعبث بشهواتهم وعواطفهم جزاء كذبهم وخداعهم..
لقد كنت فاتنة ساحرة.. لكن أحدًا منهم لم يصل مني إلى شيء غير الكلام، والنظرات الفاتنة الساحرة..
لكن ..لم يزل عندي أمل بأني سوف أجد الشخص الذي يحبني ويرتبط بي زوجة…
وقد جاء.. لكنه كان ذئبًا في جلد محب ولهان.. استطاع أن يحطمني مرة أخرى، بعد أن حطمني أهلي في المرة الأولى..
ليتني ما عرفته..
بسببه وصلت إلى القاع..

في القاع يستوي في نظرك كل شيء..

كنت أظن أن الذكاء والدهاء سيحمياني من الوقوع في الرذيلة، لم أكن أعرف أن عقلي ناقص، وأن العاطفة لم تكن غائبة في الحقيقة، ولكنها كانت حاضرة في بعض المواقف القاتلة…

كان الشباب يراهن بعضهم بعضًا على الإيقاع بي، لكن كانت محاولاتهم تبوء بالفشل..

في السنة الأخيرة من الثانوية تعرفت على شخص لم تطل معرفتي به، وتركته لأنه لم يعجبني، وكان صاحبًا لأحد الذين أعرفهم …

فراهن على الإيقاع بي، حتى إنه خطط مع شخص آخر أن يعتديا علي بالقوة، لكن صاحبه رفض…

حاول الوصول إلي بشتى الطرق فلم يستطع، لقد كنت خبيرة بألاعيبهم وحيلهم، أعرف الملابس الخادعة التي يلبسونها…

لم يكن لي هم إلا التسلية، وتفريغ الهم الذي أحمله، والهروب من الواقع الذي أعيشه..

لكنه جاءني في ثوب آخر، غير الثوب الذي أعرفه، جاءني في ثوب خاطب، يطلبني بالحلال، تقدم إلى أهلي، فرفضته، لم أثق في طلبه، ظننت أنها وسيلة من أساليبه التي يحاول بها أن يصل إلي…

لكنه فعل شيئًا ما كنت أظن أحدًا يفعله إلا أن يكون صادقًا..

صار يلح إلحاحًا شديدًا، لدرجة أنه كان يبكي بين يدي في بيت أهلي، بل كاد يقبل رجلي…

قلت في نفسي: ما فعل هذا إلا من حب صادق، وإلا فلماذا يذل نفسه، ويبكي هذا البكاء المر ..

وافقت وحددنا موعد الملكة…

وقبل الموعد بيومين طلب مني الخروج معه، لم أعارض أبدًا، فأنا فعلاً قد أحببته، ثم هو سيكون زوجي بعد يومين فقط، إذًا لا مشكلة أبدًا في الخروج..

خرجت معه، وليتني ما خرجت، لقد فقدت أغلى ما تملكه أي فتاه…

بكيت في بادئ الأمر، لكني سرعان ما هدأت بعد كلامه المعسول، وقوله إننا أزواج، ولا حرج في ذلك.

مر اليومان ولم يحضر، وصار يؤجل الموعد الأسبوع تلو الآخر..

وكان يطلب لقاءي ليتمتع بالجسد الذي كان يحلم به كل شخص عرفني ولم يستطع الوصول إليه.

صار يضع العراقيل في طريق زواجنا؛ فمرة يقول: إنه لا يستطيع أن يسكنني في بيت مستقل، ولكنه سيجعلني مع أهله..

ومرة يقول: إن المهر كثير، وأنا لا أستطيع دفعه….

ومرة يقول: إن غرفة النوم لا يمكن أن يوفرها، فيكفي أن أضع سريرًا وبكتًا متواضعًا….

وكنت أتنازل عن كل شيء طلبته، وأرضى بأي شيء … المهم أن يتزوجني..

لما رأى ذلك صار يُكرِّهني في نفسه، يصرخ في وجهي، يظهر عدم احترامي.. يهملني حين أتصل عليه، حتى دمرني..

اتصل ذات يوم فقال: إنه لا يستطيع الزواج بي، لأن أهله لم يقبلوا بي..

أظلمت الدنيا في عيني.. وأصبت بانهيار عصبي.. ولم يبق على الامتحان إلا أيام.. قررت عدم دخول الامتحان.. لكن أمي رفضت، وأصرت على مواصلة الدراسة…

تخرجت من الثانوية بمجموع لا يؤهلني للدخول إلى الجامعة، فلم تقبلني إلا كلية من كليات التقنية في الدولة…

في الكلية كانت متطلبات الدراسة كثيرة، ولم يكن لدي من المال ما أشتري لباسًا يناسبني… كنت أذهب بملابس متواضعة وبسيطة…، لا أكل إلا وجبة واحدة، مع أننا ربما جلسنا من الصباح إلى المساء، فكنت أؤخر وجبة الإفطار إلى قريب من الغداء…

كنت مثار السخرية من الجميع…

شكوت إلى أهلي ما أجد، طلبت منهم أن يزيدوا في النفقة فتكاليف الدراسة كبيرة…

لكن لم يسمعوا قولي، ولم أر منهم إلا الصدود والإعراض…

كنت أعود إلى البيت فأبكي على حالي، وأذهب إلى الكلية بنفسية محطمة بائسة…

لاحظتْ إحدى المعلمات الفاضلات حالتي تلك، وما أنا فيه، فاتصلت علي ذات يوم .. فاستنكرتْ صوتي، فقالت: مالك؟

قلت: لا شيء..

قالت: كيف؟ وأنا اعرف صوتكِ جيداً…

اضطررت أن أخبرها بما حدث لي من مواقف في الكلية…

طلبت زيارتي فرحبت بها وكانت المفاجأة!!!!!

أحضرت لي مجموعة من الملابس والأحذية وكماليات أخرى..

استغربتْ وانتابني شعوران متناقضان.. ففرحت وبكيت في نفس الوقت..

عزَّت علي نفسي أن أقبل بهذا الشيء وأهلي باستطاعتهم أن يعطوني كل ما أحتاج إليه… رفضت لكنها أصرت وربطت علاقتي بها بقبولي لهذه الأشياء…

كنت أعزها كثيرًا، ولم أرد فراقها؛ لما أكنه لها من احترام وحب وتقدير…

في اليوم التالي تفاجأ الجميع في الكلية بما أنا عليه من أناقة وبهاء … قلت: إني كنت في الأيام الأولى غير صافية المزاج؛ فلذلك لم أهتم بمظهري، لكني الآن أحسن حالاً…

استمرت معلمتي تجلب لي الملابس الجديدة وتعطيني المال لأنفق على نفسي…

مرت الأيام…وكان من الممكن أن تساهم هذه المعلمة في انتشالي من وحل الرذيلة..

لكني أدركت أنها مهما أعطتني فلن تطيق الاستمرار إلى النهاية ..، ثم كان هناك شيء في نفسي يهيج كلما تذكرت إعراض أبي وقطيعته..

فكرت في مصدر آخر يكون دائمًا…

كان هناك رجل يبلغ السبعين من عمره، كان وحيداً، اهتممت به، وقمت بالسؤال عنه بعد إهمال أبنائه له، فكان يوفر لي كل ما أحتاج إليه، بل ربما أعطاني في الشهر ثلاثة آلاف درهم…

كنت أنظر إليه وكأنه أبي الذي عوضني الله عنه…

ولكني كنت أحلم، كانت نيتي حسنة تجاهه، لكنه كان كسائر الرجال أو الذئاب إن صح التعبير…

في يوم طلبت منه المال لأشتري ملابس العيد، فطلب مني طلبًا، أو بمعنى آخر ساومني علي طلبي هذا..

أراد أن يقبلني… قلت في نفسي: إنه في مقام أبي، فلا بأس…

لكن كانت الصدمة أن قُبلته أرعبتني، قبَّلني قُبلة العاشق، قُبلة من يطلب شيئًا فوق هذه القبلة….

حزنت كثيراً … أهكذا أنتم أيها الرجال؟؟!!… حتى من شاخ منكم…

لم أملك سوى القبول، حاجتي إلى المال كانت تجعلني أرضى بمثل ذلك…

ثم إني تعودت على نمط من العيش لا أريد أن أنزل عنه..

ضل يساومني عند كل طلب، وكنت أحياناً أقبل وأحياناً لا أقبل…

لكن الشيء الذي أفقدني صوابي طلبه معاشرتي… كرهته وكرهت ماله… وانقطعت عنه …

بدأت في مواصلة الدراسة على شدة الحال التي أنا فيها… حتى إني كدت أطرد بسبب عدم قدرتي على شراء الجهاز المحمول (لاب تب)..

تدخل أخي.. وقسط المبلغ واشترى لي الجهاز….

مثل هذه المواقف كانت تسندني.. لكنها لم تكن متواصلة…، ولا تصل إلى بعد فوات الأوان، بعد أن تهان كرامتي، وتداس في الأرض…

لم أتم دراستي؛ لأن الشخص الذي دمرني لم يكتف بما فعل أول مرة، بل عاود الظهور في حياتي، وأخذ ينغص علي عيشتي، ويذكرني بالذي حدث بيني وبينه، حتى لم أعد أطيق الحياة…

فاستوى في عيني شريف الحياة ووضيعها، جميلها وقبيحها، كريمها ولئيمها…

صرت أتعرف على الواحد تلو الآخر.. لم تبق كبيرة من كبائر الدنيا لم أفعلها، إلا (المخدرات – شرب الخمر – وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق).

كانت تمر علي الأعياد والمناسبات السارة ولا أشعر بها… بل كانت أثقل علي من الجبال الصم….

ملكتُ المال… امتلأت غرفتي بالملابس والأحذية، من جميع الماركات…

لكني افتقدت طعم السعادة وراحة البال والطمأنينة والأمان والرضا عن النفس..

والمثير في الأمر أن أمي علمت بأمري ولم تكترث له أبداً…

قد لا تصدقون.. لكنه هو الواقع الذي أُشهد الله عليه….

هب أني فقدت شرفي وحيائي، هب أن نفسي هانت علي.. فكيف بك أنت يا أمي…أأهون عليك إلى هذا الحد؟! يهون عليك عرض زوجك، وشرف أبنائك؟!…

أتدرون لماذا لم تكترث به؟؟!!!

لأني أجلب المال، ولا أطلب منهم أي شيء…

لكن أمي كانت تمنع أختي الصغيرتين من الاختلاط بي.. خوفًا عليهما..

رغم أني كنت أخاف عليهما أن يمرا بتجربتي…

يا إلهي … أي هوان وصلت عليه في عيني أمي؟؟!!

أتلومونني إذا كرهتها، وكرهت رؤيتها…

لم يعد يؤثر في حياتي بعد ذلك شيء، حتى المواقف المحزنة فقدت تأثيرها…

في يوم من الأيام أفقت على اتصال من إحدى صديقاتي تقول: إن فلانة (إحدى صديقاتي) ماتت.
ماتت!!! كيف؟؟!! وأنا كنت معها بالأمس!!!…

قالت: تعرفين فلانة كيف هي ظروفها…

قلت: نعم كانت بنتًا من بين عشرات الإخوة والأخوات الذين أنجبهم أبوها من نساء كثيرات، ونتيجة الإهمال وعدم الإنفاق سارت هي وأخواتها السبع في طريق الضياع..

كن يتعرفن على الشباب ليصرفوا عليهن، وليوفروا لهن الملبس، والأدوات والأجهزة الخاصة بدراستهم في الكلية…

قالت: خرجتْ في ليلة من الليالي لتلبي رغبة صاحبها، ولم يعلم بخروجها غير أخواتها… ولما أدركتْ أن الوقت قد تأخر، ولابد من عودتها رجعت هي وصاحبها بسرعة هائلة، فحصل لهم حادث أليم أودى بحياتهما معًا…

ولما عرف الأهل تبرؤوا منها ….

قلت في نفسي: من كان سبب ضياعها؟؟؟؟!!!! أنتم والله تستحقون البراءة منكم ومن أفعالكم…

أثَّر فينا الموقف، وصار لنا عبرة، لكن لم يكن ذلك إلا كقطرات ندى تبخرت مع حرارة الواقع والشهوة الخفية…

وغرقنا مرة أخرى في دنيانا ولهونا…

لم يبق بيني وبين الله إلا حبل واحد، كان يومًا ما متينًا قويًا فأضعفته بذنوبي وتقصيري..

ضَعُفَ هذا الحبل حتى كاد أن ينقطع، لكنه بحمد الله لم ينقطع…

فجاءت المنحة الإلهية لتقوي هذا الحبل وتشد منه…

الضياء النازل من السماء…

الحبل الذي كان بيني وبين الله هو الصلاة، مع كل ما فعلت لم أترك الصلاة، لكن كانت صلاة بلا روح، لا تحتل أولويات حياتي، فربما أخرتها حتى خرج وقتها..

أصلي وقلبي مشغول بدنياي، لا أعرف من الصلاة إلا أنها قيام وقراءة، وركوع وسجود..

أتوضأ فأغسل وجهي ويدي، وأمسح رأسي ورجلي، لكني لا أشعر بالطهارة المعنوية التي يمدني بها الوضوء…

في أول يوم من أيام العيد المبارك (عيد الفطر الماضي) خرجت مع أهلي إلى حديقة من الحدائق، فجلست وحدي كالمعتاد، لا أتحدث إلى أحد، ولا يتحدث إلي أحد…

لم يفجأني إلا رجل حلو الطلعة، جميل الشكل، مشرق الوجه، يرتدى ثوبًا أبيض وغترةً بيضاء…

وقف على رأسي، فسلم علي…

رددت عليه السلام، وشيء من الاستغراب والإعجاب يتملكني…

سماني باسمي؛ ففزعت، وقلت: أتعرفني من قبل؟!

قال: نعم.

قلت: كيف؟؟!! وأنا لم أرك من قبل!!

قال: لا يهم ذلك، لكن اسمعي مني قولي، ألا يكفيك ما أنت فيه من لهو وعبث؟؟… ألا يكفي هذا الضياع؟؟ حتى متى تسيرين في طريق لا تعرفين نهايته؟؟… إلى متى وأنت توقعين الناس في حبائلك؟ وتنصبين لهم شباك مكرك وكيدك؟ تتفاخرين بذلك…

وصار يتحدث عن تفاصيلَ دقيقةٍ في حياتي…

بكيت؛ لأني اكتشفت حقيقتي وحقارتي وضياعي…

ألم أكن أعرف نفسي قبل ذلك؟؟!!

كلا فأنا أعرفها جيدًا…لكن لما سمعتها من غيري ظهر لي حقيقة هوانها وذلها وبعدها عن جادة الخير والحق.

قلت له: صدقت… أنا فعلت كل ذلك، سرت في طريق الغواية حتى وصلت إلى نهايته…

ولكن ما اخترته اختيارًا، إنما اضطررت إليه اضطرارًا، كل شيء في الحياة كان يقف ضدي، ويدفعني إلى الانحراف…أبي أمي، إخوتي، حتى من تعلقت به وأحببته ووثقت فيه وصار لي أملاً أحلم به في يقظتي ومنامي، تأملت فيه الفارس الذي ينقذني من جحيم بيتي.. حطمني وقتلني، وليته كف عن ذلك، ولكنه صار يطاردني…

أظلمت الدنيا في وجهي، ولم يبق شيء ما فعلته…

فما الذي يطهرني؟! لو جمعتَ أطهر مياه الدنيا ما غسلت عاري وذنبي..

كيف يغفر الله عظائمي وجرائمي؟؟!!

قال: ومن قال لك ذلك؟ أما تعلمين أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال ((كل بني آدم خطاء، وخيرُ الخطائين التوابون)).

بل إن الله يناديك وأمثالك من المسرفين فيقول {يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم}.. ويقول ((يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم))..

وقع علي كلامه موقعًا غريبًا، ما وعيت ما قال، أو لم أستطع أن أستوعبه، فقلت: ماذا قلت؟ بالله أعد علي ما قلته؟

فأعاده علي، مرتين وثلاثًا…

ثم قال: اعلمي أن رحمة الله أوسع من ذنوب العباد، كلمة واحدة تخرج من قلب صادق تمحو كل خطيئة… بل إن فعلاً واحدًا يفعله العبد بقلب مخلص يرجو ثواب الله يكون فيه غفران جميع ذنوبه، فهذه بغي من بغايا بني إسرائيل غفر الله بسقيها كلبًا كاد يقتله العطش…

ما أهون هذه الذنوب والخطايا عند الله إذا عرف من قلب عبده الإقبال إليه، وإخلاص الوجه له.. فالتائب من الذنب كمن لا ذنب..

أما تعلمين أن الشرك أعظم الذنوب، وأن نسبة الولد إلى الله من أعظم الذنوب، حتى إن السموات تكاد يتفطرن من ذلك، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدًا، ثم إن الله يخاطب من أشرك معه غيره، ومن نسب الولد والزوجة إليه، فيقول {أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه، والله غفور رحيم}.

قلت: أنا أريد الحب، أريد رجلا يبادلني المشاعر الصادقة، يفيض علي من حنانه وعطفه، يعاملني كإنسانة، كنت أفرح حين أسمع كلمات الإعجاب والثناء، أشتاق لسماعها..

قال: أنت تعيشين قصة وهمية، تغطين في سباتٍ عميق، لم ترغبي يومًا في الاستيقاظ ومعرفة حقيقة ما أنت فيه، بالرغم من أنكِ تعلمين بأن الجميع يرغب فيكِ جسدًا، ولم يكترثوا بمشاعرك وأحاسيسك..

إن الحب الصادق ستجدينه عند الله، ومن أحب الله فلا بد أن يقوده إلى طريق الخير والرشاد والهدى والنور…

أنت شاركت في ضياع نفسك، لم تصبري على البلاء الذي ابتلاك الله به، ولو أنك صبرت لكان خيرًا لك، ولكن قدر الله وما شاء فعل…

عدت إلى البيت وانهمكت في التفكير في هذا الشخص، من يكون؟ ومن بعثه إلي؟

احترت، ولم أجد جوابًا، ولكن قلت: هذا التفكير لا فائدة فيه، وأهم منه أن أتأمل في كلامه، وأطبق ما طلب مني…

عزمت على التغير والرجوع إلى الله تعالى، والمحافظة على الصلاة في وقتها، والانشغال فيما ينفع….

لكن كان الأمر عسيرًا، صديقاتي وأصدقائي… وأمور كثيرة تضغط علي..

كيف يمكن أن أنقلب بين عشية وضحاها؟؟!! ولكني كنت عازمة.. فكلما ضاق بي الأمر ذهبت إلى ذلك المكان، وكنت أراه…

قلت له: الحمد لله، قد أقلعت عن كثير مما تعرف، وحافظت على الصلاة في وقتها..

لكني ما زلت أشعر بالوحشة والنفرة، في نفسي شيء يحثني إلى الوراء، الواقع يضغط علي….

قال: أنت تنتقلين من طور إلى طور، ومن المهم أن تعلمي أن هناك أشياء لا بد أن تخسريها، لا بد أن تتنازلي عن هذه الأوهام التي تعيشينها، والأموال التي تجمعينها بالحرام…

مُرَّ العيش وضيق الحال أهون بكثير من عذاب الله….لكن الله كريم، فمن ترك شيئًا له عوضه الله خيرًا منه…

ثم قال: كيف أنت مع الصلاة؟

قلت: أنا اصلي، ولم أقطع الصلاة منذُ زمن، وقد بدأت بالحرص عليها أكثر..

قال: الصلاة صلة بين العبد وربه، ومن المهم أن تعرفي الفرق بين الصلاة التي ليس فيها إلا حركات وكلمات، والصلاة التي فيها خشوع وخضوع، وحضور قلب وسكون جوارح، تأملي في صلاتك وقوفَك بين يدي الله، وقربك منه، واستجابته لك…

الصلاة هي الملجأ الذي سيحول بينك وبين المعاصي والذنوب، ورفقاء السوء، والعادات السيئة؛ لأن المصلي حين يناجي ربه، ويرى قوته وبطشه، وسعة علمه ورحمته، يخشى من الوقوع في الذنب، ويستحي من الله أن يراه حيث نهاه، وأن يفقده حيث أمره..

ستشعرين بالأمان والأنس والراحة والطمأنينة حين تصلين على هذه الصورة…

حتى الوضوء.. استشعري فيه خروج ذنوبك مع آخر قطرة من قطرات الماء، ستحسين بشعور غريب، ستشعرين أنك ملاك لم يعمل يومًا ذنبًا…

نحن حين نتوضأ لسنا نزيل الأوساخ العالقة بأيدينا، ولكنا نزيل الذنوب المتراكمة على قلوبنا، نغسل القلوب المتسخة الوالغة في المحرمات، فمن المهم أن نقف بين يدي الله ونحن طاهرون من نجاسات البدن والقلب، اسمعي ماذا يقول الله بعد أن ذكر غسل الأعضاء، والتيمم بالتراب للعاجز عن الماء {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم ولعلكم تشكرون} فبالله عليك هل تحسين حين تتيممين أن شيئًا من جسدك في الظاهر قد تطهر؟! الإحساس داخلي، حين تطيعين الله في أوامره، وتستجيبين له دون تردد، يغفر لك ذنوبك، ويضيء لك قلبك، فتصفو نفسك، وينشرح صدرك، وتطيب أفعالك، فتقبلين على الله في الصلاة بقلب حاضر طاهر..

ذهبت إلى البيت، وأول شيء عملته أني توضأت، ثم صففت قدمي في محرابي، فلما رفعت يدي قائلة الله أكبر أحسست وكأن الدنيا قد سقطت من وراء ظهري، ألقيتها بيدي الصغيرتين، فوقفت بين يدي الله، وقلبي فارغ من كل شيء إلا من ذكره والتفكر في ملكوته وآياته…

ها هو ربي الذي أحببته، والذي خلقني فسواني، وأطعمني وأسقاني، وعافاني وشفاني، وهداني واجتباني، ها أنا واقفة بين يديه، يا رب: الحمد الله رب العالمين الرحمن الرحيم… أحسست أن كل كلمة أقولها أسمع ربي يجيبني عليها…

سمعته يقول: حمدني عبدي… أثنى علي عبدي… مجدني عبدي…. لعبدي ما سأل..

يا إلهي… أنا واقفة الآن بين يدي الملك العظيم؟؟!!!

أنا الحقيرة المذنبة يرد علي القوي الكبير؟؟؟!!!!

أنا الوالغة في وحل الخنا إلى شحمة أذني، بل إلى أعلى هامة رأسي يجيبني الرحمن الرحيم..؟؟!!!

ركعت، ثم رفعت، ثم أهويت إلى السجود، فلم أشعر إلا بروحي وقد غادرت جسدي، خرجت ترفف بجناحيها.. علت، ثم علت، حتى حطت رحلها بين يدي الله، هناك تحت العرش، سبحان ربي الأعلى… سبحان ربي الأعلى… سبحان ربي الأعلى…

يا ذا العزة والجبروت، والقوة والملكوت، يا من خضعت له الرقاب، وذلت له الأعناق.. يا من بيده ملكوت السموات والأرض، يا من نواصي العباد بيده، يا من يقول للشيء كن فيكون…

دخلتُ في عالم غريب عجيب، ألم أشعر بطول السجود، ولا بطول القيام، وكثرة الذكر، كنت أحس بالأنس والراحة، أتخيل نفسي في قبضة الله؛ فأرى كبرياءه وشدة انتقامه فينتفض قلبي وجلاً، ويقشعر جلدي خوفًا وهلعًا، وتضطرب نفسي خشية ورهبة، ثم أرى رحمته ومغفرته، فيلين قلبي وجسدي، وتطمأن جوارحي، وتسكن نفسي….

أحببت الله، وتوجهت إليه، عرفت قدر الصلاة ومكانتها…

ذهبت إلى الحديقة لأقص على الرجل قصة الصلاة التي تذوقتها..

فقال لي: بقي شيء بعد ذلك؟

قلت: وما هو؟

قال: بر الوالدين… فإن الله قرن الإحسان إليهما بالنهي عن الشرك به؟

قلت: والداي؟؟ وهل أصابني ما أصابني إلا من إهمالهما وتفريطهما في الأمانة التي وضعت على أعناقهما، فداسوها تحت أقدامهما.. لقد قاطعتهما وهجرتهما، بل إني سأدعو عليهما، سأتوجه إلى الله بأن ينتقم لي منهما…

قال: ليست هذه أخلاق المؤمنين.. إن المؤمن يعفو ويصفح…

ودعيني أذكر لك شيئًا من فضل الوالدين… تخيلي لو أنك ولدت بلا أم وأب، من بغي مثلاً، لم تقولي في حياتك يومًا: بابا، ولا ماما…، لم تضمك إلى صدرك أم، ولم يحملك على كتفيه أب، كيف سيكون شعورك، ليتقطعن قلبك … تتمنين أن يكون لك أم تحضنك، وأب تنتسبين إليه…

هل نسيت معاناة أمك في حملك؟! وآلامها عند وضعك؟! والدماء التي تفجرت من رحمها عند خروجك؟! والمعاناة التي تحملتها في صغرك؟! من أرضعك؟ ومن غسلك؟ ومن ألبسك وسترك؟

أنسيت معاناة الأب سبع سنين، وهو يحملك بين يديه، يدور بك على الأطباء، ويقف على رجليه في المستشفيات والعيادات؟؟!!….

الله علمنا في كتابه أحسن الأخلاق وأقومها، علمنا الإحسان إلى الوالدين حتى وهما يدعوان الولد إلى الإشراك بالله، الذنب العظيم الذي لا يغفر الله لصاحبه أبدًا إذا مات عليه..
يقول الله تعالى {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا} تأملي هذه الآية، هما يبذلان أعظم الجهد لكي يشرك ولدهما، والله يقول صاحبهما في الدنيا معروفًا….

تقصيرهما ذنب عظيم يحاسبهما الله عليه، أما أنت فالواجب أن تحسني إليهما، وتطلبي رضاهما في غير معصية الله….

قلت: كيف أكلم أبي وأنا مقاطعة له أكثر من سبع سنين، ما كلمته فيها أبدًا…

قال: الكلمة الطيبة تمحو ما في القلوب من الضغائن والأحقاد، فكيف إذا كان هذا هو قلب الأب؟! جربي وسترين النتيجة..

لما رجعت إلى البيت كان الليل قد غزا الكون بظلامه، فلما تنفس الصباح، كان أول شيء فعلته حين رأيت أبي أن قلت له: السلام عليك ورحمة الله..، ثم صبحت عليه.

نظر إلي فاغرًا فاه، جاحظًا بعينيه، قد انعقد لسانه من هول ما سمع، وكأن الذي نطق إنسان آخر غيري…

انتظر قليلاً… حتى إذا زال عن لسانه قيد الاستغراب والدهشة، قال: وعليكم السلام ورحمة الله..

عادت علاقتي بأبي أحسن مما كانت، حتى كنت أسأله في بعض الأوقات هل تريد أن أطبخ لك؟ وكنت أضع اللقمة في فمه بيدي، أتحبب إليه…

لكن كان الشيء الذي يثور إذا فعلته، هو طلب المال، فيغضب ويخاصمني، فأعرضت عن طلب المال بتاتًا، ورضيت بما يسكت جوعتي، ويستر عورتي، ويؤويني إذا نشر الظلام بساطه على الكون…

الحق يقال أنه تعجب من هذا التصرف، وبادر إلى سؤالي عن قناعتي هذه…

قلت بلسان مليءٍ بالرضا والقناعة: أنا الآن أعامل ربي، والله ما أحسنت إليك وأنا أرجو منك درهمًا واحدًا، إني أرجو ثواب الله، أحببت الله، وكان من حبي له أن تنازلت عن كل شيء لأجله، لا يهمني أعطيتني أم حرمتني، ما فعلت الذي فعلته معك وأنا أرجو منك ثوابًا، إنما أرجو ثوابي عند الله، وما عند الله لا يضيع، هو محفوظ، يصلنا خيره وبره في الدنيا والآخرة…

ومع ذلك، كنت أشعر بالحزن والأسى من واقع أبي وأمي، حتى إني انفجر?

عن elfnane

شاهد أيضاً

وش قصة ابوة…..؟؟؟

يقول صاحب القصة كان والدي من المسلمين المحافظين على صلاته ولكنه كان يفعل كثيراً من …