المنهج الشرعي في الفتن


المنهج الشرعي في الفتن


د. عبدالعزيز بن محمد السعيد

الحمد لله وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله ومن والاه،
أما بعد،
فقد عني الإسلام بالتحذير من الفتن، وذكر ما تتقى به، ذلك أن مبدأ الفتن كلمة تقال، أو عمل لا يلقى له بال، أو شرارة تضرم ثم تضطرم ناراً لا تنطفئ، وربما كان أولها ضحكة وفرجة، ومنتهاها أحزان وخوف وهلاك الحرث والنسل وغلبة الفساد،
والوقائع في الماضي والحاضر مما هو مسطور في بطون التواريخ أو مشاهد بالأعيان، معتبر لكل مسلم، أن يدعو إلى فتنة، أو يذكيها، أو يلج فيها.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن، وبين تتابعها حتى ذكر أنه يأتي على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل، ولا يدري المقتول على أي شيء قتل. رواه مسلم
.
واجتناب الفتن من سعادة المرء، قال صلى الله عليه وسلم: »إن السَّعيد لمن جُنب الفتن إن السَّعيد لمن جُنب الفتن إن السّعيد لمن جنب الفتن ولمن ابتلى فصبر فواها» رواه أبوداود
.
وكثير من الناس تتخطفهم في الفتن: آراء الرجال، وأهواء السفهاء، وزلات العلماء، وحظوظ النفوس؛ ولهذا لا عجب أن ترى المتناقضات، وافتراق الناس، وإعجاب كل ذي رأي برأيه وإن خالف الحق والعقل. وقليل من الناس من يتلقى الفتن بالأصول الشرعية وإن خالفت الهوى.

والواجب على المسلم في الفتن أن يتعامل معها بالأمر الشرعي، بنصوصه وقواعده ومقاصده، في دفع الفتن أو الوقاية منها.
وما وقع منها بالكسب فالعبد مسؤول عنه إنشاء واتقاء وأثراً، بمعنى أن تبعاتها تقع على منشئها والباعث عليها،
وأن الواجب على كل مكلف اتقاء الفتنة بحيث لا يتسبب في وجودها أو إثارتها أو إذكائها واستمرارها،
كما أن آثار الفتنة وهي ما يترتب عليها من عقوبات في الدنيا والآخرة تقع على مكتسبها كما قال تعالى: (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير).
وقبل الشروع في ذكر المنهج الشرعي تجاه الفتن،
: أذكرك أيها المسلم بأربعة أمور يجب استصحابها،

أحدها: أن النفوس في الفتنة أشد إنكاراً للحق

وثانيها: حضور الشيطان في الفتنة

وثالثها: أن أكثر الناس لا يعرف الفتنة إذا أقبلت ولكن يعرفها إذا أدبرت،
قال الحسن البصري رحمه الله: «العالم يرى الفتنة وهي مقبلة، والناس لا يرونها إلا وهي مدبرة»
ورابعها: دفع الفتنة قبل وقوعها خير من رفعها بعد وقوعها
.
وتلقي الفتن بمقتضى الدلائل الشرعية هو المطلوب من المكلف أيا كان في أي زمان أو مكان أو على أي حال.
والمنهج الشرعي يتلخص في الآتي:
أولاً: ترك الاستشراف للفتن والتعرض لها، قال – صلى الله عليه وسلم – لما ذكر الفتن: «من تشرف لها تستشرفه» متفق عليه.

ثانياً: السعي في إزالة أسباب الفتنة قبل وقوعها، والحرص على الإصلاح فيها، وفيه قوله تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).

ثالثاً: الصبر والحلم والتأني وترك العجلة قال تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون) (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)،

رابعاً: التثبت في الأخبار وعدم الالتفات إلى الشائعات، فكثير من الفتن إنما تنشأ عن الشائعات التي لا رصيد لها من الحقيقة أو المنقولة على غير وجهها، والحق تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).

خامساً: قول الخير أو الصمت سيما أهل الإيمان، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» وهذا إنما يكون إذا وقع النطق في مكانه والسكوت في مكانه.
وإليكم شواهد ذلك من فعل الصحابة رضي الله عنهم، روى البخاري عن أبي هريرة قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم – يعني أنه لم يبثه خشية الفتنة –
وروى البخاري – أيضاً – أنه جاء رجل من أهل مصر حج البيت فرأى قوماً جلوسا، فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: يا هؤلاء قريش، قال : فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبدالله بن عمر، قال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني، هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم! قال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهدها؟ قال: نعم! قال: تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم! قال: الله أكبر! قال: ابن عمر: تعال أبين لك؛ أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى هذه يد عثمان، فضرب بها على يده، فقال هذه لعثمان. فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك،
وروى مسلم عن يزيد بن هرمز قال: كتب نجدة بن عامر إلى ابن عباس، قال فشهدت ابن عباس حين قرأ كتابه وحين كتب جوابه، وقال ابن عباس: والله لولا أن أرده عن نتن يقع فيه ما كتبت إليه ولا نُعمة عين.

سادساً: استصحاب الأحكام الشرعية العامة والخاصة في الفتنة، كالأحكام المتعلقة بالدماء والأموال والأعراض. والأحكام المتعلقة بالحقوق،
روى البخاري عن عبيدالله بن عدي بن خيار أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور، فقال: إنك إمام عامة ونزل بك ما نرى ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج، فقال: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم. وروى البخاري – أيضاً – عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً جاءه فقال: يا أبا عبدالرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) إلى آخر الآية فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال: يا ابن أخي أغتر بهذه الآية ولا أقاتل، أحب إلي من أن أغتر بهذه الآية التي يقول الله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً) إلى آخرها
.
سابعاً: حسم مادة التأويل؛ ذلك أن كثيراً من الفتن إنما تقع بالتأويل الفاسد الذي ينميه البغي والحسد.

ثامناً: قطع علائق حظوظ النفس في الفتن؛ ذلك أن بعض الناس إذا حصلت فتنة يحاول أن يكون هو المستثمر الأكبر فيها والمستفيد الأول منها؛ ولهذا يقع منه الحسد، والبغي، والظلم، والتلون.

تاسعاً: التجرد للحق، وعرض أعمال الناس على الكتاب والسنّة، فإن مدعي الحق والإصلاح كثير، والحق ما وافق الحق، وليس ما جرى على يد مدعيه ولو كان صالحاً.

عاشراً: تقييد الغيرة على حرمات الله بقيودها الشرعية، فإن الغيرة إذا لم تكن مقيدة بالشرع كانت وبالاً على صاحبها وعلى غيره، مهما بلغ حسن القصد؛ لأن ما لم يكن مقيداً بالشرع فهو الهوى، والهوى كما قال الله: (فلا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).
والقلب إذا أشرب الهوى صار يرى المذموم ممدوحاً، والباطل حقاً، والناصح عدواً، والعدو حميماً.
أحد عشر: رد الأمور إلى أهلها على حد، وترك الخوض فيما لا يعني، على حد قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).
وروى أبوداود والنسائي وأحمد وصححه الحاكم عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: بينما نحن حول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ ذكر الفتنة فقال: (إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا). وشبَّك بين أصابعه، قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: «الزم بيتك، وأملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة). ويشبهه ما رُوي عن طائفة من الصحابة في قوله تعالى: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، قالوا: لم يأت تأويلها بعد، إنما تأويلها في آخر الزمان
،
الثاني عشر: من أعظم ما تتقى به الفتن مما أرشد إليه الكتاب العزيز والسنّة المطهرة: دعاء الله والضراعة إليه، ومنه الاستعاذة من الفتن، كما ذكر الله عن الخليل وأتباعه أنهم قالوا: (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم) وذكر تعالى عن موسى وأتباعه أنهم قالوا: «على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين).
وروى مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن).

الثالث عشر: كثرة العبادة؛ فإن كثرتها يثبت على الدين، وفي صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهرج كهجرة إلى).

الرابع عشر: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ففي الصحيحين لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفتن قال حذيفة: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم). فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)،
وفي رواية: قال حذيفة: قلت: يا رسول الله إنا كنا بشرا فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: (نعم)! قلت: هل من وراء ذلك الشر خير؟ قال: (نعم)! قلت: فهل من وراء ذلك الخير شر؟ قال: (نعم)! قلت: كيف؟ قال: (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس)، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: (تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع). فإن كان ثمت إمام وجب القيام معه،
يدل على هذا ما رواه البخاري عن نافع قال: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله، ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه. وفي صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر).

فهذه جملة متعلقة بالمنهج الشرعي في الفتن، فعلى المؤمنين أن يتقوا الله ويعتصموا بحبله، ويسيروا على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة؛

فإن النجاة أيها المؤمن من الفتن في ذلك، وإن خالف هواك، وقلاك الناس، أو رأيت في ذلك غضاضة عليك؛ فإن العاقبة للتقوى وأهلها. وإياك والانحراف عن هذا المنهج القويم إلى أهواء الذين لا يعلمون، والتشبه بالذين لا يؤمنون، وإن وافق ما في النفس، فإن النفوس لابد من أطرها على الحق، وإلزامها بالشرع وإن أبت. والأمر جلل، والفتن عدوى، والاستعانة بالله وحده، والحق فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم ألهمنا رشدنا، واحفظ بلادنا وبلاد المسلمين، واجعلنا هداة مهتدين. وصلى الله وسلم على النبي الأمي الأمين وآله وصحبه أجمعي


عن Albrins3007

شاهد أيضاً

•·.·`¯°·.·• ( لا تصدقي عبارة أن الطيب لا يعيش في هذا الزمان) •·.·°¯`·.·•

..السلام عليكم ورحمه اللهـ ..كيفكم صبايا؟..ان شاء بصحه . و عآفيه.. / / / عيشي …