إنه الاقتصاد .. يا غبي!
GMT 6:15:00 2006 الثلائاء 8 أغسطس
إلاقتصادية السعودي

د. عمار بكار
—————————————–

كان منظر العديد من الأطفال النائمين مع أمهاتهم على رصيف الكوبري في إحدى الدول العربية التي زرتها هذا الصيف مثيرا للكثير من الحرقة والألم لمأساة هؤلاء الفقراء الذين جاءوا للحياة وعاشوها وربما سيموتون دون أن يعرفوا معناها أو يذوقوا أيا من لذاتها.

ربما يتذكر المشاهد في تلك اللحظة قصة المليون لاجئ لبناني الذين “يسيحون” هذا الصيف خارج بيوتهم، أو قصة اللاجئين الفلسطينيين الذين ما زالوا كذلك منذ سنوات بعيدة جدا، وإذا كان هؤلاء يجدون أحيانا من يساعدهم بحكم أنهم في مركز الأحداث والاهتمام الإعلامي، فإن هؤلاء الفقراء على الرصيف لاجئون بالفطرة يولدون ويموتون دون أن يلتفت أحد لهم.

أينما خرجت من إطار دول الخليج تجد الفقر كالكابوس المرعب والشبح الكاسر الذي غطى بملاءته السوداء على كل الأنحاء في العالم العربي، وكسا الناس بجبروته القاسي، ولكن في المقابل الكثيرون من أبناء هذه الشعوب لا يعرفون أن الاقتصاد الناجح هو السبيل المميز لنهضتهم وليس عن طريق أي من الأيديولوجيات التي شغلتهم لسنوات طويلة دون فائدة.

وحتى لا يساء فهمي فأنا أؤمن طبعا بقيمة الفكر في نهضة الأمة، وأهمية وجود حوار أيديولوجي ذكي لتحديد مستقبلها، وأهمية العمل المكثف لتحقيق الأهداف التي تحددها الأيديولوجيا، ولكن هذا في رأيي يأتي كله بعد الاقتصاد، وبعد أن يحصل الفقراء على لقمة الطعام، ويصبح الشباب جزءا من القوة العاملة المنتجة في الدولة بدلا من أن يكونوا فقط بلا مهمة في الحياة سوى التسكع والبحث في إعلانات الوظائف والبحث عن فكرة عاطفية تعصف بهم أملا منهم في تحقيق وجودهم أو الهرب منه!

حتى على المستوى السياسي الدولي، لا يمكنك أبدا الدخول في صراع إذا كان اقتصادك مهلهلا. لقد كان الدرس الصهيوني في منتهى الذكاء، فقد اعتمدت الحركة الصهيونية في بداية القرن على الوصول لوضع اقتصادي عالمي مميز، ثم انطلقت تسعى لتحقيق أهدافها مستخدمة المال الذي يشتري السلاح، والنفوذ الدولي، والسمعة الحسنة، ويشتري حتى التاريخ والجغرافيا.

الدرس سهل جدا، بدون الاقتصاد المميز لا يمكن لأيديولوجيا أن تنجح في تحقيق أهدافها، ولا يمكن لوطن أن يناضل أو أن يحقق وجوده عالميا، والاقتصاد هنا لا يعني فقط الحصول على المال، بل القدرة على توظيفه بحيث يصبح قادرا بشكل ذاتي على النمو دون الحاجة للدفع الحكومي.

لقد أدرك بعض الأيديولوجيين العرب هذه الفكرة في السابق، ولكنه أخطأ الطريق فصار يطالب دول الخليج بأن تمول أحلامهم، وآمنت بعض الدول البترولية غير الخليجية بالفكرة نفسها فصارت تغدق المال على الثوريين الذين ضيعوا المال، وعاشت تلك الدول في فقر لا يختلف عن فقر جاراتها.

ما يحتاج الناس ليدركونه، أن نمو الاقتصاد واستمراره قويا هو الأساس الأهم الذي يجب حمايته لأنه الكفيل الوحيد لاستمرار الأمم في التقدم وتحقيق مكانتها وأهدافها وحماية ما تؤمن به من قيم ومثل عليا، وهذا الأمر تزداد أهميته في زمننا الحالي أولا لتطور النظم الاقتصادية من جهة، الأمر الذي يجعل بناء اقتصاد جيد لا يعني توافر المال فقط، بل توافر بنية تحتية وأطر قانونية متكاملة، وثانيا لتطور التقنيات العسكرية، الذي يشتريها المال فقط دون غيره.

لكن معظم الناس لم ولن يؤمنوا بما سأقول، وإلا لصار الناس لا يتغاضون عن انتشار الفساد الإداري في بلادهم بينما هم مشغولون بقضايا أقل أهمية، تثور ثائرتهم لها، وتكون هي محل نقاشاتهم بينما قطار التقدم متوقف وقد علاه الغبار وشبكات العناكب بسبب عدم توافر الإطار الاقتصادي الذي يدعمه، ولو آمن الناس بأهمية الاقتصاد لكان التهديد بتدمير البنية التحتية للبنان والذي يعلنه العدو الصهيوني بين الحين والآخر معنى آخر مختلفا تماما.

“إنه الاقتصاد يا غبي” كان شعارا أطلقه جيمس كارفيل، الذي أدار الحملة الانتخابية لبيل كلينتون في 1992م، وذهب مثلا يستخدم في كل مكان للدلالة على قيمة الاقتصاد المهمة في حياة أي أمة، وكارفيل عندما قال يا غبي، كان يقصد جورج بوش الأب الذي راح يتاجر بانتصاراته في حرب الخليج في حملته الانتخابية متناسيا أن الشعب الأمريكي يعيش في وضع اقتصادي متدهور، الأمر الذي جعله يخسر الانتخابات.

الاسرائيلي باراك استخدم الشعار نفسه في عام 1999م وقال هذه العبارة في وجه نتنياهو الذي وقع في الخطأ نفسه، وجاء من بعد كارفيل مئات الكتاب الذين وجهوا هذه العبارة في وجه كل قيادي أو زعيم يظن أن طريق المجد لا يمر عبر الاهتمام بحياة عموم الناس وتأمين احتياجاتهم !

“لو كان الفقر رجلا لقتلته” نص معروف، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلن غضبه على الفقر الذي يدمر الشعوب، وإيمانه بأن الإنسان يذهب إلى أقصى حد ممكن بما في ذلك القتل للتخلص من الفقر، لإدراكه صلى الله عليه وسلم حينها بقيمة الاقتصاد في تحقيق أهداف دعوته.
رحم الله اقتصاد لبنان..

13 thoughts on “إنه الاقتصاد .. يا غبي!

  1. من اجمل ما قرأت في ما يخص بناء الدول. عسا ان يفهم بعض المغامرين ماذا فعلوا.

    تلميح غير مقبول من شخص أشك فى أنه عربى بالأصل

  2. صدقت د. عمار بكار

    ما أدري شو إلي يمنع اي مسؤول او نظام فدوله من تطوير دولهم والإرتقاء بمستوى المعيشة
    مهما كانت الإمكانيات محدوده إذا إستغليته بالشكل السليم راح تقدر إطور إمكانياتك ويكون لك وجود على الخارطة الإقتصادية والسياسة …. وما اشوف اي متعه فالإحتفاظ بالثروات

    مشكور الختيار على النقل الحلو والمفيد

    نتريا يديك دوم

  3. شكرا على تجاوبكم الطيب وبالنسبه لرد ليون كنج صحيح هواللي ما لمح اليه الكاتب من دون يحدد كأنه يقول اصحوا! ولك تحياتي :

    اليكم الموضوع التالي له صله بالموضوع السابق
    وهو للكاتب: عبدالجليل النعيمي ، البحرين ،،،،،وقدأخذت منه قول الإمام علي رضي الله عنه :’الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة’’
    المقال:

    «خير البلاد ما حملك»
    عبدالجليل النعيمي

    ‘’من أين يبدأ الوطن؟ أمن رسمة في كتاب تهجيك الأول؟ أم من رفاقك الطيبين الأوفياء في الفناء المجاور؟ أو تراه يبدأ من أغنية الأم التي شنفت آذاننا في المهد؟ أم الوطن هو ذاك الذي لم ينتزعه منا أحد في كل المحن؟ من أين يبدأ الوطن؟’’ هذا من أغنية صدح بها المغني الشهير مارك بيرنيس في مطلع الستينات، ولاتزال يرددها الروس أجيال فأجيال. لكن.. ما هو الوطن؟ سؤال حاول الفلاسفة الإجابة عليه منذ القدم. ولعل أبلغ من قارب هذا المفهوم هو الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) الذي يجعلك تجد وطنك على خريطة العالم في قوله المأثور ‘’ليس ببلد أحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك’’. وبعد ألف عام ونيف يتناغم مع هذا القول قول مأثور آخر للعبقري كارل ماركس أن ‘’.. ليس للعمال وطن’’!
    حميد ابراهيم عواجي – عامل بلا وطن. قبل أشهر فارق أهله ورفاقه.. رحل من دنياه الضيقة بعد ستين عاما من المعاناة والفقر وهو يبحث عن وطن يحمله. وطنه الأصلي قذف به إلى الخارج من دون عدة من علم أو مال. وفي المنفى لم يجد بلدا يوفر له حياة كريمة تليق بإنسان شريف نذر نفسه لقضية سامية. ولفرط تعلقه بالبحرين ظل يعتقد بأنها ‘’وطنه’’ الذي ينتظره، فعاد إليها. وإلى أن يأس فاضت روحه ووارته الناس التراب داعية أن تكون الجنة مثواه ووطنه الأخير.
    آخرون غير حميد ماتوا في المنافي البعيدة والقريبة.. عزيز ما شاء الله في الدنمارك، علي مدان في بلجيكا، جمعة في سوريا، يوسف الشيخ ومحمد حسن في الإمارات.. وآخرون في بلدان أخرى ماتوا وعينوهم ترنو إلى ‘’وطن’’.
    عدد كبير ممن عادوا أحياء بقوا في ‘’وطنهم’’ شبه أحياء.. وجدوا فقط أسماءهم الحقيقية التي تركوها هنا يوم غادروا. لكنهم لم يجدوا وطنا حتى في قليل من أمتار مربعة عزيزة تأويهم وعائلاتهم. وكثير منهم لم يجد مكان عمل لائق يوفر له ولعائلته حياة كريمة. وبعض ممن بلغ بهم الكبر عتيا لا يعرف الضمان الاجتماعي طريقه إليهم ويعيش على ما تقدمه أشكال التكافل الاجتماعي المختلفة من موارد شحيحة.. وزارة التنمية الاجتماعية المشغولة كثيرا بمتابعة ما إذا كانت جمعية ما أو شخص ما فيها يمارس السياسية ربما تعتقد أن في الأوضاع الاجتماعية لهؤلاء رائحة سياسية تعفي الوزارة من أية التزامات تجاههم. وعلى هديها تسير وزارات وأجهزة أخرى.
    لجنة وزارية تابعت أمر كثير من العائدين الذين بقوا بلا سكن أو عمل أو ضمان أو كل ذلك معا. وبدا أن هذه اللجنة حققت تقدما في اللقاءات المشتركة مع لجنة العائدين إلى ‘’الوطن’’، وأكد مجلس الوزراء على ضرورة حل هذه المشكلات. لكن الوقت يمضي ليصدق المثل الشعبي القائل بأن يوم الحكومة بسنة. أما الواقع المر فيقول إن يوم انتظار العائد بدهر.
    الجمعيات السياسية جميعها أيدت مطالب لجنة العائدين، وأكدت جمعية ميثاق العمل الوطني، مشكورة، على اهتمامها أكثر من غيرها بملف العائدين. وتسابق النواب في البدء على إبداء الاهتمام بأمرهم، لكن الاستعداد للانتخابات المقبلة يبدو هذه الأيام أهم.
    السلطة السياسية، الحكومة وأجهزتها، القوى السياسية، مجلسا الشورى والنواب.. والعمارات الشاهقة والأراضي الواسعة والبيوت الفارهة.. كلها تمثل وطنا للجميع إلا لأولئك العائدين الذين تبقى قائمة الانتظار وطنهم المؤقت. يرون خلال سنوات وجودهم كيف توسعت البلاد في الجغرافيا طولا وعرضا، أفقيا وعموديا، بينما تضيق من تحت أرجلهم. وبدت لجنة العائدين أمام غالبية العائدين مغلوبة على أمرها بعد أن ‘’فشلت’’ في تحقيق ما نذرت نفسها من أجله. ودب اليأس في أوصالها حتى فكرت في ‘’الانتحار’’ في آخر اجتماع عام للعائدين بتقديم استقالتها الجماعية. تقدير العائدين لأعضاء اللجنة ولرئيسها أبي منصور ونائبه أبي سلمان، والصبر الذي تدربوا عليه طويلا في الغربة، والأمل بأنهم أو أولادهم على الأقل سيجدون وطنهم في نهاية المطاف دفعهم للإلحاح على اللجنة بالبقاء إلى جانب ما تبقى من أمل.
    ‘’عندما نموت’’ – تقول الشاعرة حمدة خميس – ‘’لا نحتاج لتراب الوطن’’. تطور الحضارة البشرية أيضا يقول اليوم إن الركون إلى العواطف الوطنية التقليدية لم يعد يخلق وطنا. ومن السهل اليوم ملاحظة أن المواطنة الحق والديمقراطية الحق والمنظومة الحديثة لحقوق الإنسان هي التي تجعل المواطن الأوربي، مثلا، يعتبر هذا البلد أو ذاك وطنه الذي يفضله على غيره. وعودا إلى الإمام علي (رضي الله عنه) ‘’الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة’’ و’’المقل في وطنه غريب’’، فلا تتركوا غربة العائدين إلى ‘’وطنهم’’ تتواصل فتغص عليهم حياتهم.

Comments are closed.