هنري توفيق عزام
تشهد دول المنطقة طفرة اقتصادية ومعدلات نمو مرتفعة غير مسبوقة فاقت القدرة الاستيعابية للاقتصاديات الخليجية، ومن الطبيعي أن تصاحبها زيادة في معدلات التضخم، يعود جزء منها إلى عوامل خارجية يصعب التحكم بها، وهي ظاهرة تأثرت بها معظم دول العالم مما يتطلب من مجتمعاتنا أن تتأقلم مع نسب تضخم أعلى مما اعتادت عليه سابقاً .
وفي الغالب تضع الحكومات سياسات تصحيحية نقدية ومالية تهدف إلى الحد من الغلاء، غير أن السياسة النقدية لدول المنطقة تعتبر حالياً شبه معطلة . فمن غير الممكن لهذه السياسة إلا أن تكون متوازية مع السياسة النقدية للولايات المتحدة بسبب ارتباط أسعار صرف العملات الخليجية بالدولار . فالاقتصاد الأمريكي الذي يشهد تراجعاً في معدلات النمو يتطلب سياسة نقدية توسعية يصاحبها تراجع في أسعار الفائدة على الدولار، في حين أن اقتصاديات الخليج بحاجة إلى سياسة نقدية متشددة وارتفاع في أسعار الفائدة المحلية . وفي غياب سياسة نقدية فعالة، سينصب التركيز على السياسات المالية والموازنات العامة لدول المنطقة فهي التي سيعول عليها للحد من تفاقم الضغوطات التضخمية .
وخلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي عندما كانت معدلات النمو الاقتصادي لدول المنطقة منخفضة بسبب ضعف أسعار النفط العالمية، وضعت الحكومات موضع التنفيذ سياسات مالية تصحيحية، صاحبها عجز متواصل في الميزانية . فهذه السياسات ساعدت على إعطاء دفعة قوية للنشاط الاقتصادي الداخلي لتعوض بعض الشيء من ضعف الدورة الاقتصادية التي كانت سائدة عندها . ونفس المبدأ يمكن تطبيقه خلال فترة الازدهار والنمو التي تشهدها المنطقة حالياً . فالسياسات المالية المتبعة يجب ألا تكون توسعية بالدرجة التي هي عليها الآن، بل من الأهمية بمكان لهذه السياسات أن تكون أكثر توازناً، فأي زيادة في الرواتب والأجور يجب أن تجاري الزيادة في الإنتاجية لكي لا تصبح تضخمية، في حين أن مشاريع البنية التحتية لا بد من تنفيذها ضمن إطار زمني أطول، كما يُطلب من الحكومات أيضاً تقديم الدعم المالي للشريحة السكانية الأكثر تضرراً من التضخم .
إن ظاهرة غلاء المعيشة وتوقعات المستهلكين بشأن التضخم يجب التنبه لها والتعامل معها بشكل مدروس، لأنه إذا تركت دون معالجة ستصبح أكثر تأصلاً، وهذا قد يهدد هيكل النظام الاقتصادي الخليجي وقد تكون له أيضاً آثار اقتصادية واجتماعية سلبية . فالتضخم هو نوع من الضريبة غير المعلنة التي تفرض بشكل غير مباشر على الجميع وتأثيرها يكون أكثر شدة في الفقراء وذوي الدخل المحدود منه في الأغنياء . ومع الوقت سيؤدي التضخم إلى زيادة الفجوة بين طبقات المجتمع وتآكل القوة الشرائية للرواتب والأجور مع ما يصاحب ذلك من عوامل عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي .
ويجب التنويه هنا إلى أن رفع كافة الأجور كسبيل لمكافحة التضخم سيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى ارتفاع مواز في الأسعار وسينعكس سلباً على القدرة التنافسية للسلع والخدمات المنتجة محلياً ويحمل في طياته خطر هبوط اقتصادي مستقبلاً . ومن أهم العوامل التي أدت إلى زيادة معدلات نمو الطلب الداخلي ارتفاع النفقات الحكومية والمدعومة بعوائد نفطية تفوق ما هو متوقع، وفائض كبير في السيولة المحلية ونمو في معدلات الكتلة النقدية بسبب زيادة حجم الإقراض من قبل البنوك، إضافة إلى قطاع خاص أكثر ثقة في المستقبل يعمل على تنفيذ استراتيجياته الطموحة في النمو والتوسع . وهناك أيضاً عوامل خارجية زادت من حدة التضخم أهمها ارتفاع أسعار السلع والمواد الخام ولوازم البناء والمواد الغذائية وغيرها من السلع والخدمات المستوردة بسبب زيادة الطلب العالمي عليها وضعف سعر صرف الدولار، أضف إلى ذلك ارتفاع أجور السكن لتعكس فائض الطلب في أسواق دول المنطقة العقارية، والاختناقات التي بدأت تظهر في العديد من مرافق البنية التحتية .
إن ربط العملات الخليجية بالدولار، والذي أصبح واضحاً إبان اختتام قمة دول مجلس التعاون الخليجي الأخيرة أنه سيبقى على حاله في المستقبل المنظور، سيقلص من فعالية السياسة النقدية لدول المنطقة . ففي عقد الثمانينات لم تستطع دول الخليج اتباع سياسة نقدية توسعية تقوم على خفض اسعار الفائدة لإعطاء دفعة للاقتصاد المحلي في الوقت الذي كانت فيه أسعار الفائدة العالمية على الدولار في الارتفاع وأسعار صرف الدولار تشهد زيادة مستمرة . وفي المقابل اليوم لا تستطيع دول المنطقة رفع أسعار الفائدة المحلية للحد من الاقتراض وتخفيف الضغوط التضخمية بينما أسعار الفائدة على الدولار في تراجع . فعلى سبيل المثال رأينا كيف أن الكويت التي فكت ارتباط عملتها بالدولار وتحولت إلى سلة عملات وأبقت على معدلات فائدة إقراض مرتفعة مقارنة بتلك التي على الدولار، لم تنجح في خفض معدلات التضخم لديها والتي أنهت عام 2007 عند حدود 3 .7% . وهناك وجهة نظر معاكسة لما يتوقعه غالبية المحللين تقول إن دورة انخفاض سعر صرف الدولار شارفت على الانتهاء ولا بد من أن تتبعها فترة ثبات ثم دورة ارتفاع قد تتحقق بالفعل هذه السنة . فالسياسات النقدية التوسعية وتخفيض تكلفة الإقراض سيساعدان الاقتصاد الأمريكي على الخروج من دورة الضعف والتراجع الحالية قبل أن يتحقق ذلك في أوروبا . وسيبدأ المستثمرون بالتركيز على قدرة الاقتصاد على تحقيق معدلات نمو طيبة مقارنة مع الاقتصاديات المنافسة، أكثر من تركيزهم على الفرق في أسعار الفائدة على عملات هذه الدول . فالدول التي تتمتع بمعدلات نمو أقوى ستشهد بدورها ارتفاعاً في قيمة عملاتها حتى ولو كانت أسعار الفائدة على هذه العملات منخفضة الآن .
إن دورة ارتفاع الأسعار في المنطقة هي ظاهرة مرحلية وليست هيكلية أو متأصلة، ولا بد للمسؤولين من وضع السياسات التصحيحية الملائمة لذلك والتي يمكن عكسها أو التخلي عنها عندما تعود الأوضاع الاقتصادية إلى طبيعتها . فعلى سبيل المثال يجب عدم فك الارتباط بين أسعار صرف العملات المحلية والدولار بعد 23 سنة من الربط مع العملة الأمريكية، حيث نجحت دول المنطقة في إسقاط أي مخاطر سعر صرف قد يأخذها في الاعتبار المستثمر الأجنبي أو المحلي . فالإذعان للمضاربين الآن إذا حصل سيشجع على المزيد من المضاربة في المستقبل، وسيغذي التكهنات بأن أسعار الصرف مقابل الدولار ستعود وتنخفض عندما ترتفع العملة الأمريكية .
ارتفعت معدلات التضخم في منظقة الخليج من أقل من 1% في عام 2001 لتصل إلى ما يقارب 3 .6% في عام ،2007 وتختلف هذه المعدلات بين دول مجلس التعاون الخليجي حيث وصلت في نهاية العام الماضي إلى نسبة 4% في البحرين و5 .6% في المملكة العربية السعودية و12% في الإمارات و7 .13% في قطر . ومع تراجع أسعار الفائدة المحلية لتجاري أسعار الفائدة على الدولار أصبحت معدلات التضخم في دول المجلس الست أعلى من معدلات الفائدة على العملات المحلية الأمر الذي أدى إلى زيادة كبيرة في الطلب على الاقتراض . فعلى سبيل المثال، زادت معدلات القروض الاستهلاكية في الإمارات بنسبة 40% العام الماضي، بينما تتراوح نسبة القروض إلى الودائع لدول المنطقة ما بين 82% في السعودية إلى 130% في قطر .
اتخذت حكومات دول المنطقة عدة خطوات في مسعى منها لمكافحة التضخم والحد من إثارة السلبية على المجتمع، وشملت هذه الإجراءات رفع الأجور بنسب تراوحت بين 5% في المملكة العربية السعودية والكويت، و15% في البحرين وعُمان وحتى 70% في الإمارات، ووضع سقف لمعدلات الزيادة السنوية في الإيجارات، والعمل على إدخال قوانين جديدة تسهل عملية التمويل العقاري، وخفض الرسوم وزيادة الدعم الحكومي للسلع والخدمات التي تعتبر ضرورية أو يعتبر الارتفاع في أسعارها عاملاً رئيسياً في تسريع التضخم .
ومع أن السياسة النقدية تبقى شبه معطلة بسبب ظروف الاقتصاد الأمريكي، وتراجع الفائدة العالمية على الدولار، إلا أن هناك بعض الأدوات النقدية التي تساعد على الحد من نمو السيولة المحلية والتي قامت حكومات دول المنطقة بتطبيقها، وهذه تشمل: رفع معدلات الاحتياطي الإلزامي للبنوك لإرغام المصارف على تقليص الإقراض، إصدار سندات وصكوك وشهادات إيداع من قبل الحكومات لامتصاص فائض السيولة في الأسواق المحلية، توسيع الهامش ما بين معدلات الإقراض ومعدلات الإيداع أي السماح للفوائد على الودائع بالعملات المحلية بالتراجع لتجاري مثيلاتها على الدولار في حين تبقى أسعار الفوائد على الإقراض مرتفعة .
وفي النهاية، فإنه من الواضح أن مشكلة التضخم ترتبط بشكل عضوي بوتيرة النمو السريع التي تنعم بها دول المنطقة، والتي ترجع إلى زيادة الإنفاق الحكومي، والنمو الكبير في حجم السيولة المحلية والنقص في العقارات والمساكن إضافة إلى التضخم المستورد الذي يصعب التحكم به . فالتضخم إذاً هو الثمن الذي لا بد من أن تدفعه الشركات والمستهلكون في ظروف الازدهار والرخاء الاقتصادي . والحل يكمن في اتباع سياسات مالية متوازية إن لم نقل متشددة، وتقبل ارتفاع الأسعار هذا لفترة مرحلية حتى تنتهي دورة الضعف الحالية للدولار وتجهز آلاف المنازل والشقق التي يتم بناؤها الآن .