عادل خالد الفلوجي ـ اندونيسيا

كانت مدينة (الحيرة) القريبة من (النجف) والتي تقع على نهر الفرات، مقر (امارة المناذرة) التي كانت تابعة للامبراطورية الساسانية الايرانية. اسم (الحيرة) من الآرامي ويعني ( المدينة و الحارة).. ويبدو انها اخذت تقوم بنفس الدور السياسي العسكري لـ (دولة الحضر) السابقة القريبة من الموصل، والمتمثل بحماية الحدود العراقية التابعة للامبراطورية من الغزوات البدوية القادمة من الجنوب والغرب. فمجرد إن انتهت (الحضر) في القرن الرابع حتى قامت (امارة الحيرة) في نفس القرن. وبما ان (الحيرة) قريبة على (بابل) القديمة، فانها حملت الكثير من روحها الحضارية المندثرة. فسكان (الحيرة) هم من العراقيين الاوائل الذين كانوا قد اعتنقوا المسيحية النسطورية، لهذا كان يطلق عليهم لقب (عباد)، وتعني بالآرامي(المؤمنين)، وكانت لغتهم السائدة هي الآرامية. وفيهم قال الشاعر: يسقيـكما من بني العباد رشا / منتسـب عبـده إلى الأحـد


اما بالنسبة لوجود العرب في المدينة فهو يتمثل اساسا بقبيلة (اللخميين) الحاكمة، ومنهم (المناذرة) الذين شكلوا سلالة امراء الحيرة. علما بأنه حتى عرب الحيرة كانت الآرامية هي لغتهم.
وكان يسود مجتمع (الحيرة) مثل جميع المدن العراقية، نوع من التسامح الديني، بحيث انه كان هناك الكثير من الطوائف الدينية، بجانب الغالبية المسيحية النسطورية. فهناك بقايا الديانة العراقية القديمة باوثانهم التي تمثل آلهة الكواكب، وبالذات اتباع مذهب(عبادة القمر). وهناك ايضا اتباع لـ(المانوية العراقية)، بالاضافة الى اتباع المذهب المسيحي (اليعقوبي ـ المنفوزي)، كذلك اليهود والصابئة. أن معظم الملوك تأرجحوا بين الوثنية والمسيحية، فبسهولة كان (يعود بعض منهم إلى الوثنية من جديد، وهكذا تأرجح الدين المسيحي في البلاط الحيري، في حين أن معظم السكان انضموا إلى المسيحيين مع كثيرين من أهل البلاط والأشراف، وذلك منذ غروب القرن الرابع، وفي مطلع القرن الخامس، تظهر الديانة المسيحية منظمة تحت رئاسة أسقف). كانت الحيرة من المراكز المهمة في حركة التبشير بالنصرانية بين العرب. ومن (الحيرة) ذهب قسم من المبشرين العراقيين إلى اليمن والبحرين وعمان والأجزاء الأخرى من جزيرة العرب لنشر النسطورية العراقية. وفيها ايضا أنعقد مجمع (داد) يشوع في سنة 424(ميلادية) لتنظيم شؤون كنيسة النهرين النسطورية.


دير (مار متي)( القديس معطي) (مار ، وتعني أمروء، أي سيد، ومتي تعني معطي ) في الموصل..

ولمنـزلتها المسيحية أيضاً صارت الحيرة داراً لرفات عدد من الجثالقة( الجثليق، هو المرجع الاكبر للكنيسة النسطورية في العراق والعالم)، منذ القرن الخامس الميلادي وحتى بعد دخول العرب المسلمين إلى العراق بفترة طويلة، منهم: داد يشوع (456)، بابوي (484)، آقاق(496)، حزقيال (581)، ايشوعياب (595)، كوركيس(681) وإبراهيم (850). وأصبحت(الحيرة) ملجأً للجاثليق الذي كان مركزه المدائن غالباً، ففي الأزمات الطارئة بين المسيحية والملوك الساسانيين، يضطر إلى تركها، فحدث أن غادر (ايشوعياب الأول الأرزني) (582-595) إلى الحيرة، والاجتماع بالملك النعمان بن المنذر، وهو أبو قابوس، وكان المنذر قد تنصر حديثاً سنة 593، وصار يعد نفسه من حماة المذهب النسطوري، وأصبحت الحيرة، حاضرة ملكه، من معاقل هذا المذهب، وهناك وافت المنية الجاثليق، فتولت شؤون دفنه (هند الصغرى )أخت النعمان. وان المنذر الثالث، رغم وثنيته، سمح للراهب يوحنا الدلمي بالتبشير العلني، وبناء الأديرة والكنائس، وأن صاحبه الحجاج بن قيس الحيري (زود يوحنا بكتاب توصية إلى ولاة البلاد بمساعدته، وإسعاف طلبه، ولم يعارضه أحد حتى بلغ قرية باخديدا شرقي نينوى).
ومن الحيرة امتدت الصلات بين قريش والعراقيين، فانعكس ذلك فيما بعد على ما بين الإسلام والمسيحية، عبر الصلات التجارية، فكان بالحيرة (سراة نصارى اشتركوا مع سراة قريش في الأعمال التجارية، مثل كعب بن عدي التنوخي، وهو من سراة نصارى الحيرة، وكان أبوه أسقفاً على المدينة، وكان يتعاطى التجارة، وله شركة في التجارة في الجاهلية مع عمر بن الخطاب في تجارة البز،وكان عقيداً لهم). ومن (الحيرة) تعلم العرب (الكتابة) وتم اشتقاق الخط العربي من الخط السرياني.
وقد زار الخليفة هارون الرشيد الحيرة وشيد بها عددا من المباني. وفي عهد المقتدر تعرضت مدينة الحيرة كغيرها من بلاد السوادلغارات البدو، وظلت مدينة الحيرة متسعة الجنبات قليلة السكان إلى النصف الثاني منالقرن السادس الهجري – الثاني عشر الميلادي، ثم اضمحلت، حيث انتقل العمران والناس الى الكوفة، ثم بعدها الى النجف.. هكذا إذن تداول التاريخ جذور (بابل) الى (الحيرة) ثم الى (الكوفة) ثم الى ( النجف).. والحيرة الآن مراع فسيحة ليس فيها ما يذكر بماضيها إلاتلال وأكوام من أنقاض الأطلال.

الرواية الحقيقية لهند بنت النعمان
الاميرة الراهبة
انها (الهند بنت النعمان) وتكنى ايضا بـ ( هند الصغرى) تميزا عن (هند بنت الحارث). هي أميرة فصيحة من بيت إمارة، ولدت ونشأت في بيت الملك بالحيرة، ولما غضب (كسرى) على أبيها (النعمان) وحبسه ومات في حبسه، ترهبت ولبست المسوح وأقامت في دير بنته بين ( الحيرة) و(الكوفة) عرف بـ (دير هند الصغرى). وهو من اعظم ديارات (الحيرة)، التي غاب أثرها، وقيل أن هند، عاشت حتى زمن الحجاج بن يوسف الثقفي (95 هـ )، وقيل زارها سعد بن أبى وقاص عند دخوله الكوفة. وقال أبو فرج الأصفهاني : إن هند ترهبت ((لما حبس (كسرى) (النعمان الأصغر) أباها، ومات في حبسه، ترهبت ولبست المسوح، وأقامت في ديرها مترهبة، حتى ماتت ودفنت فيه)). وذكر الأصفهاني دير (هند الكبرى بنت الحارث الكندي) بالحيرة، وكان مكتوب في صدره ( بنت هذه البيعة هند بنت الحارث عمرو بن حجر الملك بنت الأملاك، وأم الملك عمرو بن المنذر، أمة المسيح، وأم عبده، وأمة عبده، في زمن ملك الأملاك (خسرو أنوشروان)، وفي زمن (آفرايم الأسقف)، فالإله الذي بنت له هذا البيت يغفر خطيئتها، ويترحم عليها وعلى ولدها، ويقبل بهما وبقومهما إلى إقامة الحق، ويكون الإله معها ومع ولدها الدهر الداهرين) (الديارات بتحقيق جليل العطية).
وقيل ايضا، انه بعد ان زال ملك اللخميين بالفتح الإسلامي ودخل (خالد بن الوليد) فزارها في الدير وعرض عليها الإسلام فاعتذرت بكبر سنها عن تغيير دينها وقال لها: سليني حاجة، فقالت: هؤلاء النصارى الذين في ذمتكم تحفظونهم، قال: هذا فرض علينا أوصانا به نبينا، قالت مالي حاجة غير هذا فإني ساكنة في هذا الدير الذي بنيته ملاصقا لهذه الأعظم البالية من أهلي ألحق بهم، فأمر لها خالد بمعونة ومال كسوة، قالت: أنا في غنى عنه، لي عبدان يزرعان مزرعة لي أتقوت بما يخرج منها بما يمسك الرمق فقال أخبريني بشيء أدركته، قالت: ما طلعت الشمس بين الخورنق والسدير إلا على ما تحت حكمنا، فما أمسى المساء حتى صرنا خولا (عبيدا) لغيرنا، ثم أنشأت تقول:
فبينـا نسـوس النـاس والأمـر أمرنا/ إذا نحــن فيهــم سـوقة نتنصـف
فتبـــا لدنيــا لا يــدوم نعيمهــا/ تقلــب تــارات بنــا وتصــرف
ثم قالت لخالد: اسمع مني دعاء كنا ندعو به لأملاكنا: شكرتك يد افتقرت بعد غنى، ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر، وأصاب الله بمعروفك مواضعه ولا أزال عن كريم نعمة إلا جعلك سببا لردها إليه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة.
ثم تركها خالد وخرج، فجاءها النصارى وقالوا: ما صنع بك الأمير؟ فقالت:
صـان لـي ذمتـي وأكـرم وجـهي/ إنمــا يكــرم الكــريم الكــريم

حكاية عن هند

هنالك حكاية طريفة، نعتقد ان الخيال العراقي قد قام بنسجها للانتقام من شخصية( الوالي الحجاج الثقفي) الذي آذاهم كثيرا. بطلة هذه الحكاية هي (هند بنت النعمان) والتي تتاقض تماما مع الرواية التاريخية المعروفة). وربما ان الحكاية لها اساس ما من الحقيقة من خلال وجود تشابه في الاسمين، ولكن الشخصيين مختلفتين تماما. فتقول الحكاية: ان (هند بنت النعمان)، كانت أحسن أهل زمانها فوصف للحجاج بن يوسف حسنها، فبعث إليها يخطبها وبذل لها مالاً جزيلاً، واشترطت عليه أن يكون مؤخر صداقها مأئتي ألف درهم ودخل بها، وكانت هند فصيحة أديبة، وأقام معها في المعرة _ بلد أبيها _ مدة طويلة، ثم أن الحجاج رحل بها إلى العراق، فأقامت معه هناك لبعض الوقت وفي أحد الأيام دخل عليها الحجاج دون أن تشعر به، فإذا هي تنظر في المرآة وتقول :
ما هندُ إلا مهرة عربيةً / سليلة أفراس تزوجها بغلُ فإن ولدت فحلاً فلله درها / وإن ولدت بغلاً فقد جاء به بغلُ !!
فانصرف الحجاج راجعاً، ثم أرسل إليها رئيس شرطته ومعه مائتي ألف درهم..!! وأمره أن يخبرها بأنه طلقها، وتقول الرواية أنها قالت : كنا والله معه فما حمدنا، وبنا منه فما ندمنا ! وهذه المائتين ألف التي جئت بها بشارة لك لخلاصي من كلب ثقيف..!
تقول الراوية : وبلغ الخليفة عبد الملك خبرها مع الحجاج فأرسل إليها يخطبها فكتبت إليه تقول : يا أمير المؤمنين إن الإناء ولغ فيه الكلب..! فرد عليها الخليفة ضاحكاً : إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب، فاغسلي الإناء يحل الاستعمال..! فوافقت بشرط أن يقود الحجاج محملها من المعرة إلى دمشق وهو ماشٍ في كامل حليته، فأمر عبد الملك الحجاج بذلك وهي في هودجها تتضاحك على الحجاج، ولما قاربت من دمشق رمت بدينار ونادت : يا جمّال قد سقط منا درهم فارفعه إلينا.. فلما رآه الحجاج قال لها : إنما هو دينار.. فقالت : الحمد لله الذي أبدلنا بالدرهم ديناراً !! فخجل الحجاج ولم يرد عليها، فقد علم ما أرادت..! ثم دخل بها الخليفة وحظيت عنده..!

من اقوال هند
سألها رجل أن تحدثه عن أمرها، فقالت‏:‏ أصبحنا ذا صباح، وما في العرب أحد إلا يرجونا، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا‏.‏
قالت ايضا : ‏ لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكًا، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ونحن أقل الناس، وأنه حق على الله ألا يملأ دارًا خيرة إلا ملأها عبرة‏.‏
وبكت أختها حرقة بنت النعمان يومًا، وهي في عزها،فقيل لها‏:‏ ما يبكيك، لعل أحدًا آذاك‏؟‏ قالت‏:‏ لا، ولكن رأيت غضارة في أهلي،وقلما امتلأت دار سرورًا إلا امتلأت حزنًا‏.‏
قال إسحاق بن طلحة‏:‏ دخلت عليها يومًا، فقلت لها‏:‏ كيف رأيت عبرات الملوك‏؟‏ فقالت‏:‏ ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه الأمس، إنا نجد في الكتب أنه ليس من أهل بيت يعيشون في خيرة إلا سيعقبون بعدها عبرة، وأن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه، ثم قالت‏:‏
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا / إذا نحـن فيهم سوقة نتنصف
فـــأف لدنيـــا لا يـدوم نـعـيـمهـا / تقلب تـارات بنـــاوتصـــرف

ـــــــــــــــــ
المصادر والمراجع :
ـ الطبري، أبو جعفر محمد بن حرير(224-310 هـ) تاريخ الرسل والملوك، أو تاريخ الطبري، تحقيق أبو الفضل ابراهيم. القاهرة دار المعارف 1979، أجزاء (ج1
ـ أبونا، الأب ألبير. تاريخ الكنيسة الشرقية. الموصل المطبعة اللعصرية 1973(
ـ الحديثي، نزار عبد اللطيف (لمحات تاريخية) في كتاب العراق 1988، الكتاب السنوي للجمهورية العراقية. بغداد دار المأمون، 1989
ـ قنواتي، الأب جورج شحادة. المسيحية والحضارة العربية. ط2 بيروت : المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1984(
ـ حبي، الأب يوسف. كنيسة المشرق. بغداد. د.ن. 1989

وينسب الى هند انها هي من اختارت الوان الراية التي توحدت تحتها قبائل العرب في معركة ذي قار التي جرت بين الفرس والعرب وكان النصر فيها حليف القبائل العربية رغم ضعفها. وكانت الوان الراية تلك تتالف من الابيض والاخضر والاحمر والاسود وهي نفس تلك الالوان التي تشكل معظم الاعلام العربية اليوم. ويقال انه لما بلغ خبر المعركة للنبي محمد في مكة قال:”ثأرت العرب لنفسها من فارس”.

مع تحياتي: الريم

والسموحة عالتقصير فأنا حالياً مريضة

39 thoughts on “بالصور قصة الأميرة المسلمة هند التي أصبحت راهبة في كنيسة

  1. كعــادتج …تتحفينـــا دائمــا بالقصــص التــاريخيـــه الجميلــــه ،،،،،،،

    والاجمــل انهــا مرفقـــه بالصــــور ،،،،،،،

    والحمــد لله ع الســلامه ..وما تشــوفيـــن شر ان شــاء اللـــه ،،،،،

    وننتظـــر المــزيــد ،،،،

  2. مشكورة يا ريم على هذه المواضيع الرائعة
    لكن في هذه القصة هناك عدة اراء في موضوعك وفيها بعض التضارب لا اعرف ان قمتي بنقل القصة من عدة مصادر ام من مصدر واحد فقط

    بصراحة تستحقين لقب [glint]مثقفة المنتدى [/glint]

Comments are closed.