مع بداية الستينيات كان الخطر العظيم الذي يهدد أبوظبي هو الضيق والتذمر الذي عم سكانها
يمثل كتاب (بقوة الاتحاد ـ صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـ رحمه الله ـ القائد والدولة) نقلة نوعية في تناول أدوار الزعماء والقادة الذين صنعوا أحداث التاريخ لجهة التأكيد على الخصوصية بمختلف أبعادها ( التاريخية والدينية والثقافية والمجتمعية إضافة إلى القبلية) ضمن رؤية علمية غير غارقة في التبجيل ولا التعظيم ،ولكنها في الوقت ذاته معترفة ومشاركة ومقدرة عبر عمل بحثي علمي موثق لأفعال ومواقف المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان ”رحمه الله”، خصوصا عمله الوحدوي المتعلق بقيام دولة الإمارات وبمشاركة واعية من إخوانه حكام الإمارات.
لقد بدأ هذا الكتاب فكرة ثم تحول إلى مشروع وهو بين أيدينا اليوم مرجع ـ لاغنى عنه ـ للباحثين والمؤرخين والسياسيين والكتاب، بل لكل القراء والمحبين للقائد الراحل الذي شكل علامة دالة ومميزة في تاريخنا المحلي والخليجي والعربي والإسلامي والعالمي أيضا ، ومن هنا جاءت طبعته الأنجليزية حتى لا يظل الكتاب حكرا على القارئ العربي ، لأن الشيخ زايد قائد عالمي، وهذا نجده موثقا وباعتراف واضح من زعماء العالم ومؤرخيه ، لذلك فهو لا يكتفي بالحديث عن الماضي والحاضر،إنما يتجه صوب المستقبل، وهذا يدفعني إلى اعتباره ”كتاب الأجيال” ·
من ناحية أخرى فإن أهمية الكتاب جاءت واضحة في تقديم ” الفريق سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي” إذ أبدى سموه تحمسا لفكرة الكتاب حين عرضها عليه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، حيث كتب : ”تحمست للموضوع كثيرا ، ويعود ذلك لعدة أسباب أولها: إن الرؤية التي طرحت علي كانت رؤية جديدة تتبنى منهجا علميا موضوعيا وجادا في كتابة سيرة حياة الوالد القائد، مما سيميز هذا الكتاب عن غيره من السير الذاتية الأكثر شيوعا، كما سيعتمد المعايير الأكاديمية الموضوعية والمنهجية العلمية من أجل تقديم رصد موثوق لحياة الشيخ” زايد” وإنجازاته، ذلك القائد الذي امتزج تاريخه بوطنه الذي يعود إليه الفضل بعد الله تعالى في انتقاله من مجرد فكرة إلى حقيقة واقعة ننعم بها جميعا”··
كما أضاف في التقديم نفسه : ”يمثل هذا الكتاب بحق مساهمة تأتي أهميتها من واقع تركيزها على قضية الوحدة التي طالما شغلت المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد – رحمه الله- كما يبين الكتاب التفكير السياسي عند الشيخ زايد ، وما يتصف به من حذق ووضوح ، وهو الأمر الذي يستشف من كلماته وحديثه ، وكذلك في كلمات معاصريه الذين عبروا عن رأيهم فيه حينئذ لتبقى آراؤهم حبيسة الأرشيف سنوات عديدة” ،وأحسب أن هذا الكتاب قد تميز بالفعل عن الكتب السابقة عنه بالمعلومات الموثقة، وباتباع المنهج العلمي والتحليل ، وبذلك ثبت صدق رؤية ”الفريق سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي”
يقع الكتاب الذي بين أيدينا في ثلاثة أبواب حمل الأول عنوان ” التراث ” وفيه جاء الحديث ـ ضمن ثلاثة فصول ـ عن القبيلـــة العربيــة و”عصر عاصف” وممثل حاكم العين، في حين حمل الباب الثاني عنوان ”التحول ”، واشتمل على ثلاثة فصول أيضا وهي حتمية التغيير ومبايعة حاكم جديد وبناء أبوظبي جديدة ، أما الباب الثالث والأخير فقد حمل عنوان ”الاتحاد”، واشتمل على أربعة فصول هي : مولد دولة ،وبناء الدولة، والدفاع عن الدولة والمحافظة على منجزاتها ، و” بقوة الاتحاد” ، وللعلم فإن الكتاب من إصدارات مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، المعروف بدراساته وبحوثه المتميزة ·
يأتي عرض” بقوة الاتحاد ” على صفحات جريدة ”الاتحاد” في حلقات وفقا لطريقتها الخاصة في عرض الكتب ، معتمدة على التركيز مع الإيجاز، وتقتضي الأمانة قبل بدء العرض توضيح ثلاث مسائل أساسية، أولها: إن هذا العرض لن يكون بديلا بأي حال من الأحوال عن قراءة الكتاب كاملا، وثانيها: تبعا للقضية الأولى فإن العرض تم بتصرف مراعيا في ذلك المساحة المتاحة ومتطلبات قارئ الجريدة، ما يعني ضرورة العودة إلى الكتاب، يضاف إلى ذلك أنه لم يتم عرض الوثائق والهوامش وهي من الأهمية بمكان ، وهذا بسبب خضوع العرض لمتطلبات النشر في الجريدة ، وثالثها: إن ما يقدم في هذه الحلقات هو مجرد اختصار ـ مبرر ـ للأفكار الكبرى التي يحتويها هذا الكتاب، وبما انه كتاب أجيال -ـ كما ذكرت في البداية ـ فمن الضروري تداوله ووجوده في كل المكتبات العامة والخاصة، بعد أن تبين لنا ـ وسيدرك القارىء الكريم بالعودة إليه ـ أنه يكشف عن كثير من القضايا والمواقف الخاصة بالقائد الراحل·
والكتاب يجيب عن كثير من التساؤلات المطروحة على مختلف الصعد التاريخية والسياسية والقبلية والحضارية، وفي ذلك فليسع كل منا إلى الحكمة عله يحصل عليها، ومن فعل ذلك فقد أوتي خيرا كثيرا، خير للأجيال الراهنة والمستقبلية، وفي ذلك تأكيد وتفعيل واستمرارية وتذكير بأفعـــال المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد (رحمه الله).
لقد حظي الشيخ زايد باحترام القبائل حتى في الحالات التي اضطر فيها إلى اتخاذ إجراءات ضدها، وقد كان لهذا التقدير والاحترام دور أساسي في تجاوز أصعب اختبار تعرض له الشيخ زايد عندما كان ممثلاً للحاكم في العين، فحسب أحكام القانون الدولي يعد ولاء السكان الذين يقطنون منطقة ما هو المرجع الذي يتم الاستناد إليه في تعيين الحدود إذا لم تكن هناك حدود مرسومة على الخريطة· وقد أعلنت قبائل الظفرة ولاءها لأبوظبي، غير أن الحكومة السعودية سعت آنذاك إلى الالتفاف على هذه الحقيقة السياسية، وهنا ظهر الهدف واضحاً من الجهود الحثيثة التي بذلت على مدى أعوام ”لجباية الإتاوة”؛ فقد اعتبرت الحكومة السعودية أن القبائل التي قبلت فيما سبق دفع الإتاوة التي ادعوا أنها ”الزكاة” تقر بالسيادة السعودية عليها، وهو الأمر الذي لم يكن له أساس من الصحة· وعلى الرغم من هذا الواقع فقد تكررت المحاولات على مدى عشرين عاماً لتعزيز المطالبة بتبعية هذه المناطق للمملكة العربية السعودية.
البداية من العين…
لقد تمثل الشيخ زايد دور جده الشهير الشيخ زايد الكبير ومهامه، جده الذي ظلت ذكراه الخالدة حية في أوساط القبائل· وكان الحفيد الشيخ زايد بن سلطان معروفاً لدى القبائل، فقد خالطها وعاش في كنفها، ورحب برجالها في مجلسه، وسعى إلى حل خلافاتها، وكان حكماً عادلاً بينها، ولم يكن موضع إعجاب من جانب حلفاء بني ياس فحسب بل من جانب القبائل الأخرى أيضاً· لقد كان يعرف زعماء القبائل جميعهم وعدداً كبيراً من أتباعهم، وكان يعرف من هو أهل للثقة ومن هو غير جدير بها· وبصفته بدوياً ينتمي إلى الصحراء فقد دأب الشيخ زايد في متابعة حركة القادمين إلى واحته والمغادرين لها، وكان يتبادل الأحاديث المطولة مع ضيوفه في مجلسه، وطبقاً للأعراف المعتادة بين أهل الصحراء كان الشيخ زايد دائم الحرص على تقصي الأخبار من أي مسافر عابر للواحة·
وعلى الرغم من كون الشيخ زايد قد اكتسب تأييداً كبيراً بين أهل العين، فمن المؤكد أنه كان يحمل ولاء مطلقاً لشقيقه حاكم أبوظبي، ولكنه لم يتردد إطلاقاً كما هو العرف المتبع بين القبائل في التعبير عن معارضته لأمر بعينه حين تقتضي الضرورة ذلك· وكان الشيخ شخبوط من جانبه سعيداً بأن ينسب إليه الفضل في إصدار قراره الحكيم بتعيين شقيقه ممثلاً للحاكم في العين عام ،1946 حيث أصبح نفوذ أبوظبي في منطقة العين في غضون ثلاثة أعوام فقط أفضل مما كان عليه على امتداد عقود مضت·
ولكن ظلت هناك نقاط خلاف بين حاكم أبوظبي وأخيه الشيخ زايد، كانت إحداها على وجه التحديد حول أسلوب توزيع دخل الإمارة؛ ففي النظام التقليدي كان الحاكم يأخذ نسبةً من أرباح تجارة اللؤلؤ ويصدر تراخيص ممارسة الأنشطة الأخرى مثل صيد الأسماك· ومنذ الثلاثينيات بدأت شركات النفط تدفع للإمارة وبشكل متزايد مبالغ نظير حقوق الامتياز الممنوحة لها للتنقيب عن النفط واستخراجه· وعلى الرغم من أن النفط لم يكن قد اكتشف بعد فإن الإيرادات التي كانت تدفعها تلك الشركات قد استمرت على نحو منتظم·
وبينما كان الشيخ زايد حينها مقتنعاً بأن دخل الإمارة يجب أن يتم إنفاقه فيما يعود بالنفع على أهلها، كان شقيقه الشيخ شخبوط يرى ضرورة زيادة الاحتياطيات النقدية للإمارة، ربما تحسباً من كساد عالمي محتمل مماثل للكساد الاقتصادي في حقبة الثلاثينيات والذي كانت له آثار مدمرة· ولم تكن أي من وجهتي النظر خاطئة، غير أنهما تعكسان التباين في وجهات النظر بين الجيلين؛ فالشيخ شخبوط الذي حكم خلال سنوات الكساد العالمي، مثله في ذلك مثل الكثير من معاصريه في أنحاء العالم، أضحى حريصاً إلى أقصى حد في الإنفاق، كما أنه كان يعتبر الركون إلى العديد من التطورات التي تجري خارج منطقة الخليج العربي نتيجة لمرحلة الانتعاش الاقتصادي الذي شهدته فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مغامرةً خطيرةً وغير مقبولة لديه· أما الشيخ زايد فكان أصغر سناً خلال سنوات الكساد العالمي، وعلى الرغم من أنه قد عانى الحرمان خلال تلك الفترة في أبوظبي، فقد كان مفعماً بروح التفاؤل والأمل في مستقبل أفضل، كما أن الشيخ زايد لم يكن يتخوف من مفاهيم التطور والتغيير·
رغم الدور المهم للأوضاع السياسية المضطربة التي تمكنت الإشارة لها من قبل في عملية التغيير، فإن الدوافع القوية والمؤثرة كانت اقتصادية في معظمها· ولابد من الإشارة إلى أن الموارد المالية لأبوظبي كانت كبيرةً بالفعل حتى قبل تدفق عوائد النفط في الستينيات، فمنذ عام 1940 كان الحاكم يتلقى دفعةً سنويةً مقدارها 100 ألف روبية مقابل حقوق التنقيب عن النفط· وفي ديسمبر 1950 نصت اتفاقية مبرمة مع شركة نفط ”سوبريور أويل” Superior Oil Company على دفع مقدم مقداره 1,5 مليون روبية، وتسديد مبلغ سنوي محدد قدره مليون روبية هندية، إلى أن يتم اكتشاف النفط·وبذلك كانت خزينة الحاكم في بداية الخمسينيات مليئة بالأموال التي تفوق ما كان يدخلها عندما بلغت تجارة اللؤلؤ أوج ازدهارها قبل الحرب العالمية الأولى·ومع ذلك فإن دولة يتوقع أن تمتلك ثروة ضخمة سيكون لها دورٌ ومكانة يختلفان عن دولة تعيش على الكفاف· ولقد سبقت توقعات وجود النفط عملية اكتشافه الفعلي بفترة طويلة، وأدت احتمالات اكتشافه إلى تغيير شكل العلاقات التي تربط بين أبوظبي وأقرب جيرانها· وقد توالت الإحباطات خلال الأعوام الطويلة من عمليات الاستكشاف التي لم تثمر شيئاً، إلى أن تم اكتشاف النفط بكميات كبيرة في أواخر الخمسينيات· وكان حجم الاكتشافات النفطية الأولى التي ستمر بمرحلة المعالجة عبر منشآت جديدة على جزيرة داس أكبر بكثير مما كان متوقعاً في بداية الأمر· ونتيجةً لذلك كان الدخل الجديد كافياً لتقديم موارد ضخمة لدعم التنمية على نطاق واسع في المنطقة بأكملها· ومقارنةً بالدخل المتحقق من التراخيص فإن الاكتشافات الجديدة كانت تعني توافر أموال طائلة يمكن استخدامها لتحقيق التنمية في أبوظبي، وفي نهاية المطاف شكل اكتشاف النفط بداية عصر جديد، ليس في أبوظبي فحسب بل في المنطقة كلها·
بدأت الثروة النفطية الواعدة تغير من نظرة الشيخ شخبوط إلى الأمور، إذ كان حذراً بطبيعته، كما كان حريصاً في الإنفاق بعد التجربة الصعبة التي مر بها خلال فترة الكساد العالمي الكبير، معتقداً أن الثروة الكبيرة مصيرها إلى زوال· وكان ينظر إلى التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي تحدث من حوله ويصعب صدها بتوجس متزايد.
دور الشيخ زايد في حقبة التغيير…
في أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات كان هناك توجهان متناقضان في أبوظبي؛ أولهما السلبية التي أبداها الشيخ شخبوط، وثانيهما الفاعلية التي كانت السمة المميزة للشيخ زايد· لقد كان الشيخ شخبوط الرجل المناسب لتهدئة الأوضاع السياسية المضطربة التي سادت إبان عشرينيات القرن العشرين، وفي الأعوام القليلة الأولى من حكمه هدأت توترات الماضي القريب· غير أن تحديات وقضايا جديدة قد بدأت في الظهور منذ منتصف ثلاثينيات القرن نفسه، وخاصةً الضغوط من قبل المملكة العربية السعودية، والتي لم تتوافر حلول سهلة لتسويتها· وعلاوةً على ذلك كانت هذه التحديات الجديدة مرتبطةً فيما بينها ارتباطاً وثيقاً، فقد كان التحدي الخاص بالمحافظة على وحدة الأراضي يقتضي من حاكم أبوظبي ضمان تأييد ودعم شعبه له، ومن سبل تحقيق ذلك البدء في عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية·
ولو أن الشقيقين الشيخ شخبوط والشيخ زايد كانا يقيمان معاً في أبوظبي لكان من الممكن أن يؤدي التباين الواضح بين شخصيتيهما إلى حدوث خلاف بينهما، غير أن بعد المسافة بينهما – بوجود الشيخ شخبوط في أبوظبي والشيخ زايد في العين – قد حجب لسنوات طويلة ذلك التباين بين الأسلوب السلبي وأسلوب المبادرة الإيجابية في ممارسة الحكم· وعلى الرغم من أن الخلاف السياسي بين الاثنين لم يكن ظاهراً، فإنه كان يتشكل شيئاً فشيئاً تحت سطح الأحداث الجارية· ولقد كان الشيخ زايد في العين منشغلاً بصورة متزايدة بالتأثير الذي سيتركه تعطيل الإصلاحات وبطء التنمية في إمارة أبوظبي بأسرها؛ وعلى سبيل المثال كان هناك تباين واضح بين سيطرته الفاعلة على الأراضي الداخلية في العين والوضع القائم في ليوا، حيث نفوذ أبوظبي أضعف كثيراً·
القائد ·· وعلاج التذمر…
كان الشيخ زايد مقتنعاً تمام الاقتناع من واقع تجربته الشخصية في العين بأن أعظم قوة للدولة هي مساندة شعبها وولاؤه، وكان يدرك أن الشعب ينتظر في مقابل ذلك وفاءً مماثلاً من حكامه، وأن ذلك يستوجب توفير الاحتياجات المعيشية والمالية لهم· وكان الشيخ زايد قد أنفق كل موارده المتاحة لتوفير سبل الحياة المستقرة لأبناء شعبه في العين، ولم يتبق لديه ما ينفقه ويدعم به أهالي ليوا والمناطق الأخرى في أبوظبي· غير أنه سعى منذ وقت مبكر إلى تسخير الموارد المتاحة لخدمة شعبه، وبذلك فإنه قد جمع في نظرته هذه بين الإيثار والحس السياسي المتقد· لقد كان النظام السياسي التقليدي في أبوظبي قائماً على المصلحة المشتركة بين الحاكم والشعب، وكان أي اختلال يصيب هذه المعادلة الجوهرية ينذر بعواقب وخيمة على الإمارة·ومع بداية الستينيات كان الخطر العظيم الذي يتهدد أبوظبي هو الضيق والتذمر الذي عم سكانها· وكان من المعلوم أن الإمارات الأخرى في المنطقة تقدم لسكانها أكثر مما تقدمه أبوظبي في مجال تحسين مستوى المعيشة، ومع كون الحاكم قد عاش حياةً متواضعة، فإنه كان يتردد في استثمار دخل الإمارة في تمويل المشروعات التنموية الأساسية·كما أن النزعة الانفصالية في المجتمع القبلي، والتي تدفع القبائل إلى الرحيل عن مضاربها والارتباط بشيخ آخر، قد بدأت تظهر مرةً أخرى· يضاف إلى ذلك أن التماسك الذي استطاع الشيخ زايد أن يحافظ عليه في العين، والذي جعل الناس جميعاً يتَّحدون ويرفضون الانفصال نظير عروض بتوفير الطعام والمال لهم، قد بدأ يتصدع في أبوظبي نفسها وفي ليــوا وفي مناطق أخرى بعيــدة عن نفوذ الشيـخ زايد، وأضحت أبوظبي فجأة مهددةً بحالة من عدم الاستقرار·
واتسعت الهوة بين حجم التوقعات الشعبية وواقع الحال في آليات إدارة شؤون الإمارة، ووصل ذلك بأبوظبي إلى مرحلة حرجة؛ ونتيجةً لذلك فإن كل الجماعات الرئيسية في الإمارة ـ أعيان الأسرة الحاكمة، والمستشارون البريطانيون، وحتى الشركات التي لها مصالح تجارية في تطوير أبوظبي ـ أجمعت على حتمية التغيير والتطوير من أجل تحقيق التنمية الشاملة·وفي فترة الخمسينيات كانت هناك مؤشرات حول حدوث تحول في بنية السلطة في الإمارة، كما تنامى الإحساس العام بالمسؤولية الجماعية فيها؛ ففي أول اتفاقية تم إبرامها مع إحدى شركات النفط كان الحاكم هو الموقِّع بمفرده عن الإمارة؛ بيد أن اتفاقية منح حقوق الامتياز النفطي الموقعة عام 1950 قد نصت على أن تمثّل الحاكم ”لجنة ثلاثية تتألف من هزاع بن سلطان، وخالد بن سلطان، وزايد بن سلطان·وقد كان ذلك مؤشراً إلى تحول محتمل في بنية الحكم في أبوظبي، حيث أظهر الحاكم استعداداً لتفويض بعض صلاحياته إلى إخوته· وفي الحقيقة فإنه عندما حان وقت التنفيذ تردد الحاكم في تطبيق الاتفاق الخاص بالامتياز الذي سبق أن وافق على منحه من حيث المبدأ، غير أن مشاركة إخوته في إدارة شؤون الإمارة قد تنامت خلال الخمسينيات.
التحديات ·· والواقع…
في ذلك الوقت كان ميزان القوى في أبوظبي قد تحول تماماً، كما أن شعبية الشيخ زايد قد فاقت بكثير شعبية شقيقه الحاكم، وكان معظم الناس ينظرون إلى الشيخ زايد على أنه البطل الذي أنقذ أبوظبي بمقاومته الحازمة للغزو السعودي في العين· ورغم أن أبوظبي في تلك الأيام لم تكن تعرف الهاتف، ولم يكن فيها غير عدد محدود من أجهزة المذياع، فإن تناقل الأخبار مشافهةً كما هي تقاليد الصحراء كان أسلوباً فاعلاً للتواصل، وكان أهل الساحل يعرفون ما يحدث في العين، والعكس صحيح· أما الحكومة البريطانية التي كان لها مصالح اقتصادية واستراتيجية مرتبطة بتطور أبوظبي فقد أدركت بعد تدخلها عسكرياً في ”حماسة” أن الشيخ زايد هو الأمل الوحيد لمستقبل أبوظبي· وفي حين أظهر المسؤولون البريطانيون في فترة ما قبل عام 1947 نزعةً نحو التدخل المستبد في شؤون الإمارة، فإن الجيل الجديد من المسؤولين البريطانيين القادمين إلى أبوظبي كان أقل ميلاً إلى التدخل، فقد أدركوا أن في وسعهم أن يستفيدوا من تجربة الشيخ زايد في توجيه الأمور، وأن يحذوا حذوه وهم على اطمئنان تام إلى سلامة توجهاته، وكانوا تواقين إلى أن يتولى الشيخ زايد موقعاً أهم من موقعه الحالي، ولكن لم يكن في وسعهم أن يفعلوا شيئاً حاسماً لإنهاء حكم الشيخ شخبوط، فالدافع نحو التغيير يجب أن يأتي من الشيخ زايد وحده، لذا كان تردده في التدخل لحسم الأمر محبطاً للبريطانيين أحياناً·
في مايو ،1962 وأمام هذه الضغوط الهائلة واحتمالات المواجهة مع أكثر من جهة قرر الشيخ شخبوط في بداية الأمر أن يقبل تقديم التنازلات المطلوبة منه؛ وهي تخصيص ميزانية مناسبة للتنمية، والموافقة على تنفيذ خطط تنموية· ولكن ما إن مرت فترة وجيزة على قبوله تلك المطالب حتى تبدّل رأيه مرة أخرى؛ وعلى سبيل المثال فقد وافق على تعيين معلمين من السودان، وبمجرد إبرام الاتفاقية مع حكومة السودان بدأ الشيخ شخبوط يتحدث عن عيوب في الترتيبات المتفق عليها· وكتب الكولونيل باوستد واصفاً إحدى زياراته للشيخ زايد، وكان قد أخفق في صباح يوم الزيارة نفسه في إقناع الحاكم بالعدول عن تراجعه فيما يتعلق بتلك الاتفاقية:
”أمضيت ساعة في المساء مع الشيخ زايد وأخبرته صراحةً أن حكومة السودان قد بذلت كل ما في وسعها، وأنها تريد من الحاكم أن يوقع على التعيينات··· قال الشيخ زايد إنه لابد من إحضار المعلمين بأي شكل كان، وإنه سيكون مسؤولاً عن ذلك ” بعد أسبوعين من اجتماعه مع باوستد بدأ الشيخ شخبوط يثير قضية تَنَحّيه عن الحكم، في أعقاب تبادل لوجهات النظر بين الحاكم وشقيقيه الشيخ زايد والشيخ خالد· ويصف لنا باوستد ما جرى طبقاً لرواية الشيخ زايد قائلاً: ”قال (الشيخ شخبوط) إنه قرر التنحي عن الحكم، وقال إن على زايد وخالد أن يديرا شؤون الإمارة· وأضاف أنه كان مخلصاً في إدارته لشؤون الإمارة لما فيه مصلحة أهلها، ثم شكا من أن أخويه إنما يستمتعان بالحياة (في العين) ويكتفيان بطلب الأموال منه، تاركين له معالجة كل شؤون الإمارة·
قرار الأسرة الحاكمة…
من الخطأ أن ننظر إلى العلاقة بين الشقيقين الشيخ شخبوط والشيخ زايد على اعتبار أنها علاقة تضاد بين طرفين، فقد كان معروفاً منذ مطلع الستينيات أن الشيخ زايد هو القوة الديناميكية المحركة للأمور في أبوظبي، ولكن ليس هناك من دليل يثبت أنه كان يطمح إلى تولي الحكم فيها، وكان غاية ما يطمح إليه الشيخ زايد هو أن يعمل مع شقيقه الأكبر لتطوير أبوظبي والدخول بها إلى العصر الحديث· ولو كان الشيخ زايد يرغب في تولي الحكم في أبوظبي لكان في وسعه أن يفعل ذلك في أي لحظة بعد عام ،1962 وقد كان إخوته وباقي أعضاء الأسرة الحاكمة وأهالي أبوظبي مستعدين لتأييده بمجرد أن يقرر ذلك·
إن العلاقة بين الشقيقين كانت قائمةً على الاحترام المتبادل والثقة الكاملة، على الرغم من اختلافاتهما المتواصلة بشأن السياسات العامة، وكانا يشتركان في صفات عديدة؛ مثل حبهما لحياة البادية التقليدية وتربية الصقور واقتنائها وممارسة الصيد ونظم الشعر النبطي والمشاركة في حوارات المجالس· كما يتشابه الشقيقان في عزوفهمـا عن الحيـاة المترفـة أو زخـرف الثـروة، وكانت بينهما ثقة عميقة، ونال الشيخ زايد مكانة خاصة للغاية لدى شقيقه الشيخ شخبوط لم يحظ بمثلها بقية أشقائه·
من ناحية أخرى كانت إمارة أبوظبي تضعف تدريجياً، وتزايدت مخاطر الامتناع عن القيام بعمل ما لتدارك الوضع، وغدا من الصعب الاعتراض على ما يرد في الصحف العربية والصحافة العالمية حول التباين بين إمكانيات أبوظبي والأوضاع المعيشية الصعبة لأهلها، وأن ذلك يعتبر شيئاً غير لائق· ولم يكن من الممكن إنهاء فترة الجمود هذه إلا من قبل أولئك الذين يمكنهم تغيير الحاكم حسب العرف المتبع· وكانت أسرة آل نهيان مسؤولة حسب التقليد المتبع عن ترشيح الحاكم الجديد من بين أفراد الأسرة الحاكمة، إذا ما اقتضت الأوضاع القائمة إحداث تغيير·
وكانت هناك سوابق تاريخية لهذه الخطوة في الماضي، وعلاوةً على ذلك كان هناك اتفاق الأسرة الحاكمة عام 1928 والذي ضمن السلامة الشخصية للحاكم، وهو الشرط الذي التزمت كل الأطراف المعنية بتنفيذه· وخلال صيف عام 1966 بدا واضحاً أن الأسرة الحاكمة قد توصلت إلى قرار بتنحية الشيخ شخبوط، وأن المرشح الذي أجمع الكل عليه ليتولى حكم الإمارة من بعده هو الشيخ زايد·أما التردد الوحيد الذي ارتبط بتلك الخطوة فقد جاء من قبل الشيخ زايد نفسه، فهو رجل يقدّر كلمة الشرف التي تعهد بها، وقد أقسم أن يدعم أخاه، وحافظ على هذا العهد نحو أربعين عاماً تقريباً· وكانت رغبته في إحداث التغيير العام معروفة لدى الجميع، وقد حظيت بالتقدير من كل الأطراف، لكن المأزق الذي واجهه في هذا الوضع هو الصراع التقليدي بين الرغبة الشخصية وتحقيق المصلحة العامة· وما من شك في أن آمال الشيخ زايد الشخصية كان يمكن أن تتحقق من خلال بناء مجتمع نموذجي لأبناء شعبه في العين، بالقرب من البادية المحببة إلى قلبه· ولم تكن السياسة والمسؤوليات الإدارية في أبوظبي تستهويه، كما لم يكن لديه أي أطماع شخصية· وكان الواجب وحده هو الذي دفعه خلال عدة أشهر إلى التغلب على تردده واستبعاد رغباته الشخصية والاستعداد لقبول منصب الحاكم·
ادعاءات كاذبة…
وكان مما أشيع في ذلك الوقت أن الدور الذي أدته الحكومة البريطانية في هذا السياق من وراء الستار هو تنسيق عملية إزاحة الشيخ شخبوط عن الحكم وخلافة الشيخ زايد له· ولكن المحفوظات والسجلات البريطانية لا تتضمن ذلك، إذ لم يرد فيها بشأن تلك الفترة ما يشير إلى مثل هذه التصورات، وفي الحقيقة فإن المحفوظات والسجلات البريطانية تظهر غير ذلك· فخيبة ظن بريطانيا في الشيخ شخبوط كان وراءها حسابات سياسية بحتة· وقد أعجب بشخصيته بعض الضباط البريطانيين أنفسهم، وكانوا يحترمونه إلى حد التعبير عن إعجابهم بدفاعه المتواصل والمستميت عن حقوقه وحقوق إمارته في مواجهة المصالح البريطانية· غير أن البريطانيين كانوا أيضاً قلقين من أن يصبح تردده في اتخاذ القرارات عبئاً ثقيلاً على أبوظبي، يؤدي إلى التشكيك في مصداقية الإمارة في عيون مجتمع رجال الأعمال والشركات في العالم· وليس هناك شك في أن البريطانيين كانوا يفضلون حاكماً أكثر وعياً وإدراكاً لما يجري في العالم الحديث، أما فكرة تنصيب حاكم لأبوظبي يكون ”سهل الانقياد” وطوع أيدي مستشاريه البريطانيين فلم يكن لها أساس من الصحة·
لا تشير أي من الوثائق البريطانية إلى أن الشيخ زايد كان سيرضخ للبريطانيين أو يلبي لهم رغباتهم، إلا إذا توافقت مع مصلحة شعبه في إمارة أبوظبي· وهناك تقارير عديدة حول شخصية الشيخ زايد في الأعوام السابقة لتوليه الحكم، غير أن أياً منها لم يشر إلى أنه كان يميل إلى الرضوخ لرغبات البريطانيين على وجه خاص· ويؤكد كل هذه التقارير تقريباً سرعة بديهته ومعرفته السياسية الواسعة بأهالي أبوظبي والمناطق المحيطة بها والتزامه بالتطور وتنمية المجتمع· أما ما يستشف من هذه التقارير أيضاً فهو الإحساس بالثقة في التعامل معه، إذ كان في وسع المسؤولين البريطانيين أن يتحدثوا إليه بكل صراحة، وأن يبادلهم الثقة في المقابل· وليس هناك شك في أن بريطانيا كانت مستعدة للترحيب بانتقال مقاليد الحكم إلى حاكم جديد في أبوظبي، كما لم يكن هناك أدنى شك في الفرحة الشعبية التي قوبل بها تولي الشيخ زايد مقاليد الحكم في أبوظبي عام 1966.
أما على نطاق الأسرة الحاكمة فقد ساد الاعتقاد بأن الشيخ زايد سيقبل في نهاية المطاف قدره بكل الرضا باعتبار أن تلك هي إرادة الله ورغبة الشعب، ولم يشكَّ أحد في أنه سيضمن أن تتم معاملة الحاكم السابق بكل الاحترام والتقدير ويمنحه أموالاً كافيةً ويضمن سلامة شخصه وممتلكاته· ورغم الإحباط الذي أصاب الشيخ زايد من جراء السياسات التي انتهجها شقيقه الشيخ شخبوط أثناء توليه الحكم، فقد كان واضحاً لدى الجميع أن ذلك لم يؤد إلى تقليل محبته الأخوية له بأي حال· وبالنسبة إلى الشيخ زايد فقد كان يعرف أن توليه مقاليد الحكم بدلاً من شقيقه هو الملاذ الأخير للجميع، ففي الواقع كان الكل في داخل الأسرة الحاكمة وخارجها يأملون أن ينفذ الشيخ شخبوط ما لـمَّح إليه من رغبته في الاستقالة عامي 1954 و1962 وأن يتيح لعملية خلافة الحكم أن تحدث وفقاً للتقليد المتعارف عليه، بَيد أن الشيخ شخبوط لم يفعل ذلك· وعندما أقدمت الأسرة الحاكمة على أداء دورها التقليدي، فقد وضعت نُصب عينيها مصلحة الأمة ورفاهيتها·
لو قريتي الكتاب بتعرفين امور وخصوصيات كثيره غايبه عن الاشخاص
الكتاب ممتع ومفيد بنفس الوقت
رحمه الله رحمة واسعه واسكنه الفردوس الاعلى باذن الله
مشكور اخوى
يـــســلـــمـــــوووووووو يــــا وســـــــــــووووم أتـــصـــدق فــــي مــعــلـــومـــــات
أنــــت كـــتـــبـــتــهــا أول مـــرة أقــــراهـــــــــــا الــلـــحــــيـــن ومـــــا قــــصـــــرت عــــلـــى الـــنـــقـــل….
اتمنى من جميع الاعضاء وابناء البلاد انهم يطلعون على الكتاب (بقوه الاتحاد) لانه يحكي قصة القائد ومسيرته في بناء وترسيخ الاتحاد
الكتاب صدر بنسختين الطبعه الفاخره والطبعه العاديه وصدرت وتوثق من قبل مركز البحوث والدراسات الاستراتيجيه ببوظبي….