تحليل اقتصادي – «الرأسمالية المالية» المسؤولة
ميشال مرقص الحياة – 06/10/08//
دخلت الرأسمالية المالية، قفص الاتهام. تحوّلت الأصابع نحوها. نهشتها آراء السياسيين. لا بد من ضحية. لا بد من مسؤول. فكانت هي. الرئيس الروسي والمستشارة الألمانية حضّا على البحث عن نظامٍ اقتصاديٍّ جديد. استنفرت القمة الرباعية الأوروبية (فرنسا، إيطاليا، ألمانيا وبريطانيا) جهودها لعقد قمةٍ دولية في «أسرع وقتٍ»، لإعادة النظر في قواعد هذه الرأسمالية. لكن هل تكون الرأسمالية مسؤولةً عن نهش الاقتصاد العالمي، ونخر جذوره لتتهاوى أصولها المتمادية في المجتمعات منذ عقود؟ أو تكون الشيوعية المالية أو الاشتراكية في المقابل، نظاماً فاسداً أيضاً حيث فشلت في بلدانٍ اعتمدتها وكثرت فيها التجاوزات؟
الأنظمة المالية قد لا تكون فاسدة، بل المتهم أنظمة سياسية تتآمر مع المؤسسات والأفراد لتحوّل نظمها المالية إلى ميادين للإثراء غير المشروع. التوسّع في عمليات الإثراء يقودُ حتماً إلى عدم عدالة توزيع الثروة. والأنظمة «الانفلاشية» ترقى إلى المغامرة، ومن ثمّ إلى الانتحار، فالانهيار والإفلاس. سلسلة إفلاسات المصارف الكبرى في الولايات المتحدة أو في أوروبا، ليست سوى إفلاسٍ للنظام السياسي، ليس إلى الرأسمالية المالية. لا يمكن لنظامٍ انفلاشي أن يستمر. يستطيع الأثرياء الكبار، «حيتان المال»، أن يلتهموا «السمك» الصغير. ينافسون الآخرين في حروب مالٍ طاحنة، ثم يقعون، يخسرون، ويخافون على ثرواتهم التي صيّرتها صناديق الاستثمار، أدواتٍ عاجزة عن أن تلعب دوراً في أسواق المال، وترفد الاقتصاد بالنشاط.
الأرباح من دون إنتاج، تشبه إلى حدٍّ بعيد الأموال المحققة على طاولات «الميسر». تتبخر. تترصّد «الطرائد». يقع ضحيتها في الغالب صغار المستثمرين. وحدها تتغذّى بفعل المنافسة. قيمُ سندات المال، أسهم الشركات، لم تعد تخضع لإنتاجية المؤسسات وأرباحها، بل يثمّنها العرض والطلب، كسلعةٍ أساسية غير مرتبطة بالمؤسسة المصدّرة لها. ويمكن أن تخسر المؤسسة رأس مالها بانهيار أسهمها في البورصات، من دون أن يرتبط الأمر بتدني إنتاجيتها، بل بإفلاس أصولها.
تجاوز القوانين هذا، والخضوع إلى مشيئة المستثمر «الفارس»، دفعا المصارف الكبرى إلى المغامرة. من يشرف على استغلال مئات بلايين الدولارات، لا تجبهه قوانين أو تردعه أنظمة. يحظى برعاية سياسية غافلة أو تتغافل، بل قد تشاركه أنصبة الأرباح. ويقضي «بروتوكول» المغامرة بتعويم حجم الاقتراض. في الولايات المتحدة احتفظت المصارف بدولارٍ واحد ضمانة لقاء 35 دولاراً قروضاً. توسّعت في المغامرة، تخطت حدود الأنظمة. هذه ليست «رأسمالية مالية»، بل جريمة مالية. وحدها دولٌ قليلة، منها لبنان، تضعُ ضوابط على الإقراض. (في لبنان 60 سنتاً مقابل كل دولار وديعة، وأحياناً أقل). هذا الانفلاش المدمّر قضى على 5.5 تريليون دولار من قيمة الأسهم في الولايات المتحدة، ونحو 1.3 تريليون دولار خسائر مصرفية بحسب تقديرات صندوق النقد. أكثر من ذلك، جفّفت النمو العالمي بثلاث نقاط من معدله السنوي. يعني في السنة بين 1.6 و2.3 تريليون دولار. ربما أكثر عام 2009 وبعده.
النظام الرأسمالي المالي، على رغم حريّة الاقتصاد، أتاح للدولة أن تتدخل. أمّنت إلى المواطنين رعاية اجتماعية. دعمت مؤسسات الصحة والتعليم وسمحت في بلدانٍ دعم سلعٍ استهلاكية. لم يسمح النظام الرأسمالي المالي بحرية الانفلاش، والنهب المتعمّد للثروات. ضبط الأصول المالية، وفوّض المصارف المركزية، حق المراقبة والتدقيق في الأوضاع، وسمّاها «سلطات النقد». تدخّل النظام الرأسمالي المالي في أوضاع المؤسسات. أممّ الفاشلة. خصّص المؤهلة لأن تلعب دوراً في رعاية القطاع الخاص. وحيث كانت عين الرقابة ساهرة لم تسقط مؤسسات المال.
أزمة المال الحالية، دفعت الولايات المتحدة، قائدة النظام الرأسمالي، إلى تأميم مؤسسات مصرفية. ساعدت أيضاً على دمجها. الأسوأ أنها تؤمم أصولاً وسندات «هالكة». وحفاظاً على النظام الرأسمالي المالي، أعلن الرئيس الأميركي أن تدخل الدولة سيكون استثنائياً. لم تطرح خطة إدارته الإنقاذية عقوباتٍ للمسؤولين عن الانهيارات والإفلاسات. الشعب الأميركي بدا غاضباً من أجور كبار الموظفين في شارع المصارف والمال والبورصات «وول ستريت». الدول الأوروبية الأربع التزمت «معاقبة المسؤولين الذين أفلست مؤسساتهم». ولو خضع هؤلاء إلى أنظمة رقابية خلال أدائهم لمهامهم، لما حصلت أزمة الائتمان العقاري، ولا انهارت أسواق المال.
الخطة الأميركية علاجٌ لمالية عالمية مريضة بتماديها في انفلاشها. فتحت باب الخروج من الأزمة المالية. لكنَّ تجاوبَ الأسواق بدا حذراً. فنهاية الأزمة لا يحددها قانون!