التحول الكيفي الذي حدث في مجال تشكيل وبنية المجتمع العالمي وانتقاله من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات العالمي، لا يحتاج فقط إلى دراسة سياسية واقتصادية شاملة، ولكنه يتطلب تحليلاً ثقافياً عميقاً.
ويمكن القول إن ناعومي كلاين بكتابها المثير No Logo، الذي حاولت فيه أن تشرح الرأسمالية المعلوماتية المعاصرة من خلال تشخيص طبيعة العلامات التجارية والماركات العالمية الشهيرة، قد فتحت الباب لمتابعة النقاش الذي دار منذ عصر الحداثة حول مجتمع الاستهلاك، وحول “الاستهلاكية” Consumerism باعتبارها أيديولوجية رأسمالية، من شأنها دفع عجلة الإنتاج إلى ما لا نهاية، إشباعاً لحاجات الناس الأساسية، لكن بالإضافة إلى ذلك لإشباع حاجاتهم الكمالية التي تصطنعها الشركات الكبرى اصطناعاً.
وهذه الشركات برعت في إجراء بحوث السوق، وفي تغيير اتجاهات الناس، وفي الإعلان، وفي خلق العلامات التجارية الجذابة التي لم تعد مجرد عنوان للمنتجات الجيدة بمختلف أنواعها، ولكنها أضحت أيضاً أسلوب حياة! وهي تستعين في ذلك بمشاهير نجوم الرياضة والسينما والفن عموماً، في إعلاناتها، مما يزيد عدد المستهلكين للسلع تقليداً لنجومهم المحبوبين وتشبهاً بهم.
ولو درسنا تاريخ إنشاء العلامات التجارية والماركات الشهيرة، لاكتشفنا أن هذا حدث مع الثورة الصناعية التي سمحت بإنشاء خطوط إنتاج كبيرة قادرة على إنتاج ملايين السلع المتشابهة، والتي توزع على نطاق واسع عن طريق تجار التجزئة. ونشأت العلامات التجارية كمجرد مؤشر على جودة السلع المصنعة. ومن هنا يمكن القول إن المسافة بين السلعة والعلامة التجارية لم تكن كبيرة.
غير أنه مع مرور الوقت وزيادة حجم الإنتاج الصناعي وتنوعه، وتأثير الثورة التكنولوجية على خطوط الإنتاج القادرة على إشباع الحاجات المتنوعة للمستهلكين في نفس الوقت، كانت هناك حاجة للتركيز على العلامة التجارية والماركة العالمية، بطريقة فاقت التركيز على صناعة السلعة ذاتها!
ومن هنا حدث التطور اللافت للنظر والذي سبق أن أشرنا إليه من قبل، وهو تحول الشركات الكبرى مثل “نايك” للأدوات الرياضية، من التصنيع إلى خلق العلامات الجذابة والماركات العالمية.
وهذا التطور أدى إلى أن بعض هذه الشركات باعت مصانعها في بلادها الأصلية واستغنت بالتالي عن عشرات الآلاف من العمال، ونقلت المصانع إلى بلاد العالم الثالث حيث أجور العمال متدنية، ومراقبة جودة الإنتاج متدنية أيضاً. وهكذا بعدت المسافة بين السلعة المصنعة والعلامة التجارية.
تحاول ناعومى كلاين من خلال تطبيق منهجية التحليل الثقافي أن تقدم تفسيراً لافتاً للنظر، لأنه يكشف عن أهمية العلاقات الوثيقة بين البيئة الاقتصادية والقيم الثقافية، وهي تقرر أن هذا التطور برز منذ الثمانينيات، حيث تبين للشركات الكبرى المنتجة أن مجرد التركيز على جودة السلع ليس كافياً بذاته، لأن الشركات المنافسة يمكن أن تنتج أيضاً سلعا جيدة.
وبزغ إحساس بأن الشركات الكبرى تحتاج إلى شيء آخر يتعلق بالقيمة المضافة بجانب جودة السلعة، وهي أن تكون للسلعة –بكل بساطة– هوية متميزة، أو بمعنى آخر فكرة جذابة تكمن وراء العلامة التجارية أو الماركة العالمية للسلعة.
وقد تبلور هذا الاتجاه التجاري مصاحباً لنمو شعور عام في المجتمع الغربي في الثمانينيات على وجه الخصوص، حيث أحست الجماهير أنها بحاجة إلى اكتشاف معاني جديدة لحياتها.
وهذه ملاحظة بالغة الأهمية. ويؤكد صدقها “المسح العالمي للقيم” الذي أجراه عالم السياسة الأميركي أنجلهارت الذي أثبت من خلال بحوث مقارنة أجريت في أكثر من أربعين دولة ومن خلال الاعتماد على عينات قومية، أن التركيز الذي تبلور في سنوات الستينيات “على نوعية الحياة”، تحول ليصبح اهتماماً بمعنى الحياة.
والواقع أن النموذج الحضاري الذي قام على أساس مسلمات نظرية التنمية التي تبلورت بعد الحرب العالمية الثانية، وركزت أساساً على رفع معدلات الدخل القومي كمؤشر للتقدم، ثم اكتشفت من بعد أهمية “نوعية الحياة” كهدف من أهداف التنمية، هذا النموذج تغير من خلال طرح السؤال الوجودي الخطير وهو ما معنى الحياة؟ وتفاوتت الإجابات على هذا السؤال بحسب المصادر التي لجأ إليها الإنسان المعاصر. هناك من لجؤوا إلى الدين، مما أدى إلى عملية إحياء ديني واسعة المدى في الأديان السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام.
وهناك من لجؤوا إلى الأخلاق، على أساس أهمية صياغة مدونات أخلاقية جديدة قادرة على التعامل مع عصر العولمة بإشكالياته المتعددة.
وهناك أخيراً من حاولوا تجديد الحياة اليومية في المجتمع من خلال توسيع “الفضاءات” Spaces التي يتحركون فيها، وتدعيم قيم الانتماء إلى المجتمعات المحلية التي يعيشون فيها.
وقد دخلت الشركات الكبرى من هذا المدخل، ونعني حاجة الناس إلى التجديد في حياتهم هروباً من الملل والرتابة، وذلك بتصنيع سلع جذابة، يمكن المشاركة في اقتنائها والتمتع بها، من خلال التأثير على جماهير الشباب بوجه خاص.
وتضرب “ناعومي كلاين” مثلاً بشركة “ديزني” التي أحست بحاجة الناس إلى مجال عام يتجولون فيه بحرية وهدوء، ومن هنا أنشأت لهم مدينة “ديزني لاند” والتي تحتوي على نماذج من المدن الأميركية التقليدية التي انتهى أوانها، والتي كانت تضم ميداناً عاماً تجتمع فيه الجماهير. وفي مدينة “ديزني” يمكن للأسرة كلها أن ترفه عن نفسها، وللأولاد أن يتجولوا بحرية في مناخ آمن.
وقد بدأت شركة “ديزني” بعرض نماذج للحياة في أفلامها الشهيرة، ثم سرعان ما تحولت لبناء مدن ملاه شهيرة تحت علامة ديزني، وانتقلت لبناء سفن سياحية تقوم بجولات تسودها روح “ديزني” لقضاء العطل والإجازات.
وإذا انتقلنا بعد ذلك إلى الأسئلة الأخرى التي تطرحها “ناعومي كلاين” في تحليلها الثقافي لاكتشفنا أن هناك من يربطون بين المجتمع الاستهلاكي وزيادة معدلات الممارسة الديمقراطية. بعبارة أخرى هناك رأي يذهب إلى أن المجتمع الاستهلاكي بإتاحته السلع لملايين المستهلكين، إنما يقضي على طبقية المجتمع التقليدي الذي كان لا يتيح اقتناء السلع الجذابة إلا للأغنياء. أما الآن فإنه نتيجة للثورة التكنولوجية، وتأسيس خطوط إنتاج هائلة تنتج ملايين السلع، فإن طبقات اجتماعية متعددة أصبحت قادرة على الاستهلاك الوفير.
غير أن هذا الرأي يخضع لانتقادات متعددة من قبل المثقفين اليساريين الذين يرون أن التوسع في الاستهلاك الذي تقوده الرأسمالية المعاصرة، قد أدى إلى خلل جسيم في الممارسات والعلاقات الاجتماعية، لأنه ليست كل الطبقات الاجتماعية على قدم المساواة في القدرة الشرائية والانخراط في المجتمع الاستهلاكي.
ويصدق هذا خاصة في أقطار العالم النامي، حيث تزيد الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء وبالتالي يصبح اقتناء السلع الجذابة قاصراً على أعضاء الطبقات العليا في المجتمع.
بل وأخطر من ذلك يمكن أن تتحول الطاقة الإنتاجية للمجتمع إلى إنتاج هذه السلع الجذابة، على حساب إنتاج السلع الضرورية للجماهير العريضة.
وهكذا يمكن القول إن المجتمع الاستهلاكي يثير من الأسئلة أكثر مما يقدم من الأجوبة!
Al Ittihad طھط*ظ„ظٹظ„ ط«ظ‚ط§ظپظٹ ظ„ظ„ظ…ط¬طھظ…ط¹ ط§ظ„ط§ط³طھظ‡ظ„ط§ظƒظٹ – ط¬ط±ظٹط¯ط© ط§ظ„ط§طھط*ط§ط¯
نجح الغرب وبقوة في استقطاب المستهلكين نحو علاماتهم التجارية “لوجو” كرمز للجودة والحداثة مستغلين ضعف ثقافة المستهلك. والكثير من المستهلكين اصبحوا يتنافسون في اقتناء علامات تجارية معينة حتى وان كانت هناك بدائل منافسة وبنفس الجودة لكن اقتناها لمجر اقتناء يكسبهم شعور بالراحة النفسية. واصبح ارتباطهم بهذه العلامات قوية جدا حتى وان تطلب دفع عشرات اضعاف قيمة تكلفة المنتج لمجرد انه محدود. واغلب الاسعار اصبحت مرتبطة بالعلامة التجارية وليس تكلفة المنتج. واشهر الشركات الناجحة في بيع علاماتها التجارية هي شركات عالم الموضة والسيارات.
أما اكثر المجتمعات استهلاكا لمنتجات علاماتها التجارية مشهورة، هي دول الخليج وخاصة النساء لدرجة ان المنتجات التي تباع باسعار ثابتة في الخارج اصبحت تباع عندنا باضعاف، والرجال مرتبطون بالسيارات والتي تباع باسعار غير عن باقي دول العالم، والسيارات معروفة بثبات اسعارها عالميا. ولكن لغياب الثقافة الاستهلاكية في مجتمعاتنا خلقت حالة لا مثيل لها في الاستهلاك الزائد.
لطالما بقيت المجتمعات الاستهلاكية غير منتجة، ستبقى في عداد الدول النامية او ما يسمى بالمتخلفة.
شكرا Graceful على هذا النقل الطيب.