ذكريات مع المحامي محمد النيار آخر تحديث:الأربعاء ,17/12/2008

المستشار إبراهيم بوملحة

بالأمس القريب وبعيداً عن الأضواء والضجيج مات في مستشفى دبي المحامي محمد سعيد النيار رحمه الله رحمة واسعة وتغمده بفضله ورضوانه وأسكنه فسيح جناته بعد أن بلغ من العمر عتياً وأثقلته السنون الطويلة التي حملها على ظهره ولم يستطع جسده المعمر أن يقاوم أكثر مما مر عليه منها فتعب في آخر أيامه ، وعندما زرته يوماً في منزله الكائن بهور العنز وقد غاب عني فترة لم أره فيها فاشتقته وذهبت لزيارته في منزله الذي يسكنه وحيداً طيلة النهار وعند المغرب يذهب إلى منزل أخته في الراشدية التي يقيم معها فيه .. وجدته باشاً مرحباً بي ولكنني لمحت تدهوراً في صحته وتعباً يسري في أوصال جسده حتى أنه لما أصر على أن يودعني إلى باب المنزل كان يتكئ علي ليتمكن من المشي ولقد أثر ذلك في نفسي، ولم يكن وقتها يذهب إلى المحاكم لمتابعة قضاياه فقد انقطع عنها لهذه الظروف الصحية البالغة.

بعد فترة غير طويلة اتصل بي منصور أحد الملازمين له وأخبرني بأن النيار طريح الفراش لا يقدر أن ينهض منه وكل يوم تزداد حالته سوءاً ومن فوري اتصلت بالأخ الفاضل قاضي مروشد مدير عام هيئة الصحة جزاه الله خيراً والذي قام مشكوراً بتجهيز سيارة إسعاف وطبيب وغرفة خاصة في مستشفى دبي، وتم نقله إليها وأجريت له الإسعافات والعلاجات اللازمة لحالته وبقي في المستشفى ما يقارب عاما مضى وتحسنت حالته نوعاً ما عن ذي قبل، ولكن حكم العمر كان أقوى من كل علاج وعناية.

وكنت أتردد عليه بين فترة وأخرى لأجده في نهاية الأمر وقد ساءت حالته حتى أصبح ناحلاً إلى درجة بعيدة كهيكل عظمي يعبر عما في نفسه بنظرات عيونه لكنه لا يستطيع أن يقول لك شيئاً رغم محاولته الحديث وخرجت من عنده يلفني شيء كبير من الحزن.

وبالأمس القريب اتصل بي منصور وأنا في تركيا ليبلغني خبر وفاته رحمه الله فكان كمن غرس جارحاً في صدري والحمد لله على كل حال وهكذا هي الدنيا.

ومن منا يا ترى لا يعرف محمد النيار المحامي النشط الذي طالما صال وجال في أروقة المحاكم منذ بداية انتقال المحاكم إلى مبنى قلعة نايف عام 1957 ولا يزال كذلك منذ ذلك الوقت إلى أن أقعده المرض والكبر في آخر عمره، لا يكاد يراه الرائي إلا داخلاً إلى المحاكم أو خارجاً منها وقد عرف النيار بهذه المهنة واشتهر بها فقد عاصرها قضاءً ومحاماة فترة طويلة وألم بكثير من أخبارها وتفاصيلها حتى صار حديثه عنها تاريخاً وتوثيقاً.

ولقد ترافع النيار في كثير من القضايا التي يعد بعضها تاريخياً اليوم. وقد تخصص في مجال قضايا الأراضي والعقارات وقضايا الأحوال الشخصية فلا تكاد تجد في عصرنا من يحل محله في مثل هذه القضايا فقد كان ملماً بهذا الجانب من القضايا إلماماً واضحاً لمعرفته بشهود الأراضي في دبي في ذلك الوقت وكيفية استنطاق المعلومات منهم وكثيراً ما نجح في إثبات هذه الحقوق لأصحابها وكان سوقه رائجاً في هذه البضاعة المتخصص فيها.

لقد كان النيار من المحامين الأوائل في دبي الذين يؤرخ بهم لهذه المهنة وقت أن كانت مقصورة على المواطنين إذ لم يدخل غيرهم من المحامين إليها بعد وكان عددهم قليلاً لا يتجاوز أصابع اليدين حيث بذل معهم النيار جهداً ومعاناة في هذا الشأن وعلى أكتافهم قام صرح هذه المهنة.

وكم كان النيار متألقاً حين أسأله عن كثير من معلومات سيرته الذاتية التي هي لا شك جزء مهم من مسيرة القضاء في دبي. وكان النيار مع زملائه المحامين القدماء يستعيضون عن روب المحاماة بلبس العباءة (البشت) تمسكاً بعاداتهم وتقاليدهم الأصيلة والجميلة. وبموت النيار يختفي البشت من دنيا المحاماة ليبقى الروب وحده البارز.

ولا أكاد أقصر النيار على عمل المحاماة فقط وإنما هذا جانب مهم من حياته سجلت عنه كثيراً من أخباره ومعارفه والتي أفادتني في بحثي عن القضاء ولكن للنيار مواهب عديدة وهوايات أخرى ذات أهمية أيضاً فهو أحد الرواة المهمين لكثير من أحداث التاريخ والتراث المحلي وأخباره تجد عنده ضالتك لما يحويه وفاضه من هذه المعلومات فهو أحد الذين توثق بهم الروايات الشعبية وله في هذا الجانب معرفة واسعة ومعلومات دقيقة تنم عن فهم وذاكرة مليئة بالروايات والذكريات التي احتفظ بها طوال تلك السنين سواء من تلك التي عايشها أو سمع بها ممن هم أكبر منه سناً فقد كانت له ذاكرة قوية حافظة ولم يزده كبر السن إلا ذكاءً متقداً وسعة معرفية قلما تجدها عند غيره من كبار السن ولقد اعتمدت عليه في أجزاء من توثيقي لبعض مجالات التراث والتاريخ فوجدته خير مسعف ومعين.

ومما أذكره أنني أهديته كتاباً مطبوعاً أعددته مع رفيقي وأستاذي الراحل حمد بو شهاب عن الماجدي ابن ظاهر فقرأه وعاد لي ببعض الملاحظات المهمة خاصة على قصيدة بنت ابن ظاهر وأتحفني بشيء مفيد من سيرتها وسيرة والدها الشاعر وذلك ما يعطيني انطباعاً عن أهمية رواياته ومدى سعة معلوماته. فقد كان مرجعاً لي في كتابي عن الشاعرة هداية الساجوب وكتابي عن محمد بن دلموك وكتابي عن أحمد بن سليم. والجانب الذي ربما لا يعرفه الناس أن النيار راوية يحفظ كثيراً من الأشعار لمعاصريه من الشعراء ويعرف الكثير عن سيرهم كما أنه يحفظ كثيراً من القصائد التاريخية القديمة المرتبطة بأحداث وتراث المنطقة. ولقد استطعت أن أحصل منه على بعض من تلك القصائد مما أعتبره حصيلة مهمة لا تقدر بثمن. إذ إن من تلك القصائد ما يحفظ الناس منها بيتاً أو بيتين فقط مثل:

الوصل داري ومربايه

يا إلهي اتعودني فيها

هوب صري دار لولايه

دار زراع البصل فيها

ومثل :

لو يستوي ألف حشر

شروى حشر ما يستوون
لكن النيار يحفظ القصيدتين كاملتين ومناسبتهما واسم شاعر كل منهما إلى غير ذلك من القصائد القديمة مما يبين عن كونه من نوادر الرواة الحافظين لمثل هذه الأشعار المهمة. ولكم كانت لي معه جلسات من هذا النوع أكبرت فيها حافظة هذا الرجل.

ولقد نشأت بيننا صداقة أدبية متينة مكنتني من تسجيل كثير من رواياته أدبية وتراثية إضافة إلى كون النيار شاعراً قال الشعر في بداياته ثم توقف، وحين نشأت بيننا هذه الصداقة التي أشرت إليها تحركت شاعريته وكان كل يوم يأتيني بقصيدة حتى اكتمل من ذلك ديوان له أشرفت على مراجعته وطباعته وكتبت له مقدمة نالت إعجابه وتقديره وقد أرسل نسخاً من هذا الديوان إلى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه فتقبله وأرسل له مبلغاً من المال هدية له.

ولا تزال للنيار قصائد لم تنشر بعد لعلني أتمكن من الحصول عليها لتوثيقها، والنيار رجل لطيف لبق لا تكاد تشبع من مجالسته وصاحب نوادر ولطائف ونفس سخية ومظهر جميل ويهتم بهذا الجانب من شخصيته إذ يلبس أحسن الملابس وأفخر الثياب ولا يكاد يدخل المحاكم إلا وهو حامل عباءته التي عادة ما تتغير حسب ألوان كناديره ويركب سيارات فخمة مما يعني أن دخله من المحاماة مسخر لراحته ومظهره. وكان رحمه الله ينفق في الخير فإذا سمعني أتحدث عن عائلة فقيرة جاءني في الغد بمظروف فيه مال لتلك العائلة. وقد خبر النيار الحياة منذ صغره فقد توفي والده وهو صغير فنشأ يتيماً في رعاية والدته ولما اكتمل شبابه سافر إلى الكويت للعمل كشأن بقية زملائه من أبناء ذلك الجيل الكادح وبقي هناك فترة. وفي الأربعينات رجع إلى بلده وافتتح مقهى في بيت ابن سليم قريباً من سوق الذهب أطلق عليه اسم (روضة الوطن) يقدم فيه أنواع المرطبات والشاي والقهوة والأكل. وكان كثير من الناس يرتاد هذا المقهى من رجالات البلد ومثقفيه وشبابه. واستمر المقهى قائماً حتى منتصف الخمسينات حيث تركه النيار واشتراه منه المرحوم خادم سرور فكان الناس يعرفون المقهى (بقهوة النيار). ومن بعد المطعم انتقل كما ذكرت للعمل في المحاماة التي كان سبب عمله بها كما يذكر لي أنه حضر مرة وكيلاً عن أحد الأشخاص أمام القاضي السقاف، ولما سمع القاضي دفاعه وحسن منطقه ارتاح له واستدعاه بعد الجلسة وعرض عليه أن يستمر في هذا العمل فوافق النيار على ذلك.

ومن نوادر النيار أن أكثر مرتادي قهوته كانوا من شباب ذلك الوقت المتشبعين بمبادئ القومية والعروبة وكره الاستعمار البريطاني. وكان النيار أحد هؤلاء الشباب المتحمسين وقتها وقد أحضر من الكويت معه راديو ووضعه في المقهى وكان يرفع صوت الراديو بخطب الزعيم جمال عبد الناصر وبالأناشيد الوطنية. فمرة جاء الميجر إلى المقهى ومعه مترجم ( الميجر هو قائد الشرطة حسب ما كان يطلق عليه محلياً) وأبلغه باحتجاج الإنجليز على هذا التصرف المناهض لسياستهم لكونه يحمس الشباب ويجعل من قهوته مكاناً لبث خطب عبد الناصر. يقول النيار بعد أن سمعت ما قاله أخذت الميجر إلى باب القهوة وكان من الخشب وأدرت له جانباً منه ليشاهد عليه بعض العبارات الجارحة التي يكتبها الشباب في النيار ذاته. ولما فهم الميجر معناها من المترجم ضحك وانصرف.

كما كان النيار من محبي الرياضة فقد قام في بداية السبعينات بتأسيس فريق العربي في منطقة المنامة وكان يصرف عليه من جيبه حتى اندمج هذا النادي مع نادي دبي ليتأسس منهما نادي الشباب الحالي وكان النيار أحد أعضاء مجلس إدارته.

رحم الله النيار. لقد عرفته واستفدت منه وسجلت من رواياته الكثير في التراث والتاريخ والنسب والشعر النبطي. لقد مات في هدوء دون أن يعلم به إلا بعض القريبين منه وكأنه أراد أن يكون في آخر عمره بعيداً عن ضجيج المحاكم هادئاً في غرفة بمستشفى دبي إلى أن وافاه الأجل في صباح يوم الجمعة الموافق 12/12/2008.

5 thoughts on “ذكريات مع المحامي محمد النيار

Comments are closed.