يقول عليه الصلاة والسلام((لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوا بمعصية الله فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته))
أيها المسلمون: طلب الرزق غريزةٌ عند كل الأحياء، فما إن تَبدوَ بوادرُ الصباح حتى يستعد الفلاحون والتجار، وأصحاب الصنائع والحرف، وأرباب الوظائف والإدارات، يستعدون للدخول في كدحٍ طويلٍ كي يحرز كلُّ امرئٍ منهم قوته وقوت عياله.
وهذا الكدح الطويل والسعي الحثيث محكٌّ قاسٍ للأخلاق والمسالك، والثبات واليقين، والطمأنينة والرضى.
إن اللهف على تأمين العيش، واللهاث من أجل سدِّ أفواه الصغار والضعاف قد يلجئ بعض النفوس إلى الختل والتلون، والكذب والحيف، والتدليس والغش. وربما وُجد ضعاف يتملقون أقوياء، وأذلاء يذوبون في أعتاب كُبراء.
إن إلحاح الرغبة في طلب الكفاف أو طلب الثراء مع وعورة الطريق، وطول المراحل والمنازل في هذه الحياة، وشعور المرء بالحاجة إلى ناصرٍ ومؤنسٍ مع ما قد يلاقي من أعداء ومتربصين؛ كل ذلك قد يدفع إلى اللؤم والذلة وسلوك المسالك الملتوية.
ولكن دين الإسلام يأبى ثم يأبى أن يكون الكدح وراء الرزق مزلقةً لهذه الآثام كلِّها، وينهى ويكره أن يلجأ المسلم أبداً إلى غشٍ أو ذلٍَ أو ضيم ليجتلب به ما يشاء من حطامٍ.
وفي سدِّ هذا الطريق يقول عليه الصلاة والسلام((لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوا بمعصية الله فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته))([1]).
إذن ما هو المخرج؟ وما هو الحل من هذه المعضلة التي يعيشها فئامٌ من الناس على ظهر هذه البسيطة؟ يتهارشون ويأكل بعضهم بعضاً، ويظلم بعضهم بعضاً؟؟ وفي عصرنا شاهدٌ كبيرٌ وأنموذج ماثلٌ على هذه الصورة المزرية!!.
اسمعوا إلى هذا الحديث من نبيكم محمد؛ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً))([2]).
وابن مسعود رضي الله عنه يقول: إن من ضعف اليقين أن ترضيَ الناس بسخط الله وأن تحمدهم على رزق الله، لا يجرُّه حرصُ حريصٍ ولا ترده كراهية كاره، وإن الله بقسطه وعدله جعل الرَّوْحَ والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهمَّ والحزن في الشك والسخط.
أيها الإخوة: إنه التوكل على الله. التوكل شعورٌ ويقينٌ بعظمة الله وربوبيته وهيمنته على الحياة والوجود والأفلاك والأكوان. فكل ذلك محكومٌ بحوله وقوته سبحانه.
التوكل قطع القلب عن العلائق، ورفض التعلق بالخلائق، وإعلان الافتقار إلى محوِّل الأحوال ومقدِّر الأقدار لا إله إلا هو. إنه صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار ولا ينفع ذا الجد منه الجد.
التوكل صدقٌ وإيمانٌ، وسكينةٌ واطمئنان، ثقةٌ بالله في الله، وأملٌ يصحب العمل، وعزيمةٌ لا ينطفئ وهجُها مهما ترادفت المتاعب. بالتوكل تُرفع كبوات البؤس، وتُزجر نزوات الطمع. لا يكبح شَرَهَ الأغنياء ولا يرفع ذل الفقراء سوى التوكل الصادق على الحي الذي لا يموت.
يقول سعيد بن جبير رحمه الله: التوكل على الله جماع الإيمان. المتوكل على الله ذو يقظةٍ فكريةٍ عاليةٍ ونفسٍ مؤمنةٍ موقنةٍ. قال بعض الصالحين: متى رضيت بالله وكيلاً وجدت إلى كل خير سبيلاً.
وقال بعض السلف: بحسبك من التوسل إليه أن يعلم من قلبك حسن توكلك عليه.
التوكل إيمان بالغيب بعد استنفاد الوسائل المشروعة في عالم الشهادة. تسليم لله بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من مطلوباتٍ وواجباتٍ.
أيها الإخوة: وأول بواعث التوكل ومصادره توحيد الله وإفراده بالعبادة؛ فالرب المعبود سبحانه: له الأسماء الحسنى والصفات العلى: الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السموات والأرض . . [الزمر:62-63]. وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده [الفرقان:85]. وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم [الشعراء:217-220].
التوكل أجمع أنواع العبادات، وأعلى مقامات التوحيد، وأعظمها وأجلها. وما ذلك إلا لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة، والرضى العميق، واليقين الثابت.
ولقد جاء الأمر به في كتاب الله في أوجه مختلفة، وسياقات متعددة، ومناسبات متكاثرة. بل لقد جعله شرطاً للإسلام والإيمان فقال سبحانه: إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين [يونس:84]. وقال سبحانه: وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين [المائدة:23]. قال أهل العلم: فدل ذلك على انتفاء الإسلام والإيمان بانتفائه.
وقال عن أنبيائه ورسله: وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا [إبراهيم:12]. وقال لنبيه محمد: فتوكل على الله إنك على الحق المبين [النمل:79]. وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً [الأحزاب:3]. قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون [التوبة:51]. رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً [المزمل:9].
وقال عن أصحاب نبيه محمد : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل [آل عمران:173].
وقال عن أوليائه: ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير [الممتحنة:4].
وقال في صفات المؤمنين: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون [الأنفال:2].
وقال في جزاء المتوكلين: ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً [الطلاق:3]. وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون [الشورى:36].
أيها الإخوة: هذا هو التوكل في حقيقته، وأثره، وجزائه، وصفات أهله لكنه ما كان تواكلاً ولا اتكالية، وما كان ضياعاً ولا إهمالاً للسنن والأسباب.
إن تحقيق التوكل لا ينافي السعي والأخذ بالأسباب البتة. إن السعي في الأسباب بالجوارح طاعة لله، والتوكل على الله بالغيب إيمانٌ بالله.
إن المتوكلين في كتاب الله هم العاملون: نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون [العنكبوت:58-59].
وإمام المتوكلين نبينا محمد ، وسيرته جلية محفوظة؛ فقد اختفى في الغار عن الكفار، وظاهَرَ في بعض غزواته بين درعين([3])، وتعاطى الدواء، وقال ((من يحرسنا الليلة))([4])، وأمر بغلق الباب وإطفاء النار عند المبيت([5]) وقال لصاحب الناقة ((أعقلها وتوكل))([6]).
وقال سبحانه لنبيه لوط عليه السلام: فأسر بأهلك بقطع من الليل [هود:81]. وأوحى إلى نبيه موسى: أن أسر بعبادي إنكم متبعون [الشعراء:52]. ونادى أهل الإيمان يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم [النساء:71].
فليس التوكل بإهمال العواقب واطِّراح التحفظ، بل ذلك عند العقلاء والعلماء عجزٌ وتفريطٌ يستحق صاحبه التوبيخ والاستهجان.
ولم يأمر الله بالتوكل إلا بعد التحرز واستفراغ الوسع فقال عز شأنه: وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله [آل عمران:159].
إن العبد المؤمن ليجمع بين فعل الأسباب والاعتصام بالتوكل، فلا يجعل عجزه توكلاً، ولا توكله عجزاً. إن تعسر عليه شيء فبتقدير الله وإن تيسر له شيء فبتيسير الله.
يقول سهل التستري: من طعن في الحركة والسعي فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان. فالتوكل حال النبي ، والكسب سنته فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته.
والمسلم المتوكل يخرج من بيته متوجهاً إلى عمله ومهنته، تزدلف قدمه من عتبة بابه وهو يقول((باسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أَزِلَّ أو أُزل، أو أَضل أو, أُضل، أو أَظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يُجهل علي))([7]).
وقد كان من ذكر رسول الله ((اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون))([8]).
ومن قال: باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال له حينئذٍ كُفيت ووقيت وهُديت، وتنحى عنه الشيطان([9]). وهو يقول لشيطان آخر: ما تريد من عبد قد هُدي وكُفي وحُفظ؟ ؟. وفي التنزيل العزيز: إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون [النحل:99].
أيها الإخوة: وثمة موطن من مواطن العمل لا يكون على وجهه، ولا تتحقق غايته والحق الذي يحمل عبأه أنبياء الله عليهم السلام ومن اقتفى أثرهم من أهل العلم والإيمان والصلاح والإصلاح. إن كل أولئك يتعرضون لمخاوف مزعجة، لا يثبتون لعي الروع والغبن إلا لأملهم في الله واستنادهم إليه، لا يثبتون إلا بالتوكل الذي ينير أمامهم ظلمات حاضرهم، ويعينهم على مواجهة الأخطار بعزم وثقة واطمئنان.
وما يلاقيه الأنبياء شيءٌ عظيمٌ يجسده قول موسى وأخيه عليهما السلام وقد أمرهما ربهما أن يذهبا إلى فرعون فقالا: ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى [طه:45]. فجاءهما الدواء البلسم لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [طه:46].
إنه الشعور الكبير والعميق بمعية الله وعنايته، ذلكم هو المؤنس في الموحشات، والمشجع في الرهبات. وهذا هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: نظرتُ أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلتُ يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا؛ فقال عليه الصلاة والسلام ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما))([10]). والله عز وجل يقول في محكم كتابه: لا تحزن إن الله معنا [التوبة:40].
وحينما وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا [إبراهيم:13].
جاء الجواب على لسان خطيب الأنبياء شعيب عليه وعلى نبينا وعلى جميع أنبياء الله الصلاة والسلام قد افترينا على لله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علماً على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين [الأعراف:89].
إنه المجد الشامخ لا يخطه إلا نفرٌ من المؤمنين المتوكلين قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين [الملك:29].
========
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
مشكور اخوي