القاهرة: محمد جمال عرفة
موضوع الغلاف مجلة المجتمع العدد 1727
اعتاد العديد من الأسر العربية أن يخرج في الأعياد إلى المراكز التجارية ووسط المدينة، حيث المحال التجارية وأماكن الترفيه ولكن ما حدث في مصر في ثاني أيام عيد الفطر المبارك الأخير كان أمراً مستغرباً ومقلقاً، أثار أكثر من علامة استفهام، ولكنه أضاء إشارات حمراء تدعونا للتوقف والتفكر فيما حدث، خصوصاً أن الأمر تكرر في أكثر من دولة عربية، وأصبح ظاهرة خبيثة تأكل ما تبقى من أخلاق أمتنا الإسلامية. حيث قامت مجموعات كبيرة من الشباب، من مختلف الأعمار، بالتحرش بالفتيات جنسياً في شوارع وسط القاهرة.
ولم يقتصر على التصاق الشباب بالفتاة بحجة الزحام، بل إيقاع الفتيات أرضاً ولمس مواطن العفة في أجسادهن، وتشكيل حلقات حول كل فتاة تقع على الأرض ومنعها من الهرب ومحاولة نزع بعض ملابسها أو تمزيقها أو الركض وراءها كأن “المسعورين” وجدوا فريسة يتعطشون للنيل منها!
الأفلام الهابطة والبطالة
وقد ذكر عدد كبير من الشهود ومن الفتيات اللاتي تعرضن للانتهاكات ويقدرهن البعض بقرابة عشر فتيات عدداً من الأسباب التي تفسر هذا السلوك الفاضح من قبل المراهقين، أبرزها أن بعض أفلام العيد (الهابطة) التي كان الشباب خارجين لتوهم من مشاهدتها، كانت تحمل مشاهد مبتذلة وعرياً وإسفافاً، أثار هؤلاء الشباب.
وقد اشتكى العديد من أصحاب المحال من أن ظاهرة التحرش تتكرر باستمرار في المناطق المزدحمة والمراكز التجارية والسينمات، وأن من يقوم بها غالباً هم شباب مراهقون أو عاطلون يجوبون الشوارع طوال الليل، هائمين على وجوههم لا يعرفون لأنفسهم هدفاً أو رسالة في الحياة.
وسبق أن حذرت أكثر من دراسة اجتماعية من أن تفشي البطالة بين الشباب العربي والتي بلغت بين الشباب المصري11% من التعداد الكلي للسكان، حسب إحصائيات البنك الدولي، هي المسؤول الأول عن العديد من الجرائم وحتى حالات الانتحار بين هؤلاء الشباب.
وتضخمت الظاهرة واستفحلت لدرجة إعلان “المركز المصري للحد من البطالة والدفاع عن حقوق الإنسان”، عن تأسيس أول رابطة “للعاطلين” في مصر في أكتوبر 2006م، حيث تشير إحصاءات رسمية مصرية إلى أن نسبة البطالة في مصر تصل إلى حوالي 9.9% من أصل اليد العاملة الفعلية بحسب تقديرات رسمية، وأن عدد العاطلين يقترب من مليوني شخص، بيد أن جهات اقتصادية أخرى تقدر عدد العاطلين بنحو 4.5 ملايين عاطل، وتقدرهم جهات أخرى ب 6 ملايين، وتقول إن المشكلة مرشحة أكثر للتزايد؛ حيث إن طالبي العمل يتزايدون سنوياً، والجامعات المصرية تخرج نحو 160 ألفاً كل عام، وتصل أعداد خريجي الشهادات فوق المتوسطة إلى 600 ألف، غير 350 ألفاً متسربون من التعليم يتوقع دخولهم إلى سوق العمل سنوياً، و150 ألف عاطل بدرجة “دكتوراه”!
وأعادت هذه الحوادث فتح باب المناقشات مرة أخرى بين السياسيين والباحثين، حول اهتمام الحكومات بالأمن السياسي، ومطاردة معارضي الأنظمة الحاكمة في العالم العربي عموماً، على حساب الأمن الجنائي، ما أنتج خللاً كبيراً.
التحرش في المجتمعات العربية
والغريب في الأمر أن ظاهرة التحرش بالفتيات أو النساء عموماً والتي امتدت للأسف في بعض الدول العربية للتحرش بالأطفال الصغار ليست جديدة، وأنه في كل مرة تثار قضية تحرش في أي دولة عربية نفاجأ بوجود مئات القضايا التي سبقتها، وفي كل مرة يزداد التحرش توحشاً وفجوراً.
ولم يعد التحرش مقتصراً على التلفظ بكلمات خارجة أو حتى الملاحقة، ولكنه أخذ أشكالاً أكثر حمقاً وتهورً، مع انتشار تقنيات البلوتوث في الهواتف المحمولة والتي استخدمها بعض الشباب أكثر من مرة في تبادل الصور الفيديو، حيث أصبح كثير من الشباب العاطل يستخدم التكنولوجيا الحديثة في التحرش!
وقد اعترف مدير منظمة العمل العربية “إبراهيم قويدر” بأن منظمة العمل العربية لاحظت انتشار الظاهرة في الوطن العربي بشكل مخيف، من خلال ارتفاع حالات شكاوى النساء الإدارية ضد مرؤوسيهن تحت مسميات مختلفة، تخفي غالبيتها خلفيات تحرش.
الفساد المالي والإداري
وهناك دراسات تربط بين التحرش الجنسي وانتشار الفساد، وغياب الرقابة في العالم العربي، فالفساد المالي والإداري في
المؤسسات العربية يؤدي بصورة ما إلى الفساد الأخلاقي؛ خاصة وأن الكثير من حالات التحرش الجنسي ضد النساء العاملات تكون من رؤسائهن الرجال؛ لما يتمتعون به من سلطة ونفوذ.
فنصف الذين يقومون بالتحرش، هم من زملاء العمل، و27% منهم من رؤساء العمل و23% من العملاء، كما تشير هذه الدراسات لأمور أخرى يغفل عنها الجميع وهي الأمراض النفسية التي تصيب غالبية هؤلاء السيدات العاملات اللاتي جرى التحرش بهن، مثل القلق والسهر واللامبالاة والخوف والتعرض للكوابيس.
أرقام مفزعة
وتشير بعض الأرقام والوقائع البسيطة التي رصدتها المجتمع إلى أن الظاهرة باتت ظاهرة مفزعة للغاية ولم تعد مجرد أمر شاذ تقوم به قلة منحرفة.
ففي مصر: أكدت دراسة د.فادية أبوشهبة أستاذ القانون الجنائي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة أن 20 ألف حالة اغتصاب وتحرش جنسي ترتكب في مصر سنويًّا، أي أن هناك حالتي اغتصاب تتم كل ساعة تقريبًا، وأن 90% من جملة القائمين بعمليات الاغتصاب عاطلون.
ويقول د. أحمد عبد الله الخبير النفسي، في دراسة قام بها حول انتشار التحرش الجنسي والاغتصاب إن 60% من الفتيات والنساء في مصر يتعرضن للتحرش الجنسي في الطفولة، سواء كان تحرشاً لفظياً في صورة كلام أو صور، أو تحرشاً باللمس عن طريق مس أجزاء من جسد الأنثى، أو أقصى درجات التحرش وهو الاغتصاب.
وفي تونس: قالت جمعية “رابطة النساء صاحبات المهن القانونية” إنها استقبلت عام 2003م ثمانمائة امرأة، تعرضن للتحرش، ولم تتقدم بالشكوى منهن سوى حالتين؛ إذ تكتفي المتضررات عادة بالشكوى اللفظية، ويرفضن اللجوء للقضاء، ونظمت “جمعية النساء الديمقراطيات” حملة كشفت فيها عن انتهاكات خطيرة تتعلق بالتحرش الجنسي ضدّ النساء العاملات، خاصة من قبل رؤسائهن في العمل.
والأغرب أن هناك تحرشاً من نوع آخر تقوم به السلطات الرسمية نفسها ضد المحجبات يصل لحد الاعتداء اللفظي والجسدي كما تقول منظمات حقوقية على النساء المحجبات حتى إن كلاًّ من وزير “التربية” ووزير التعليم العالي أصدرا أوامرهما بمنع المحجبات من دخول المعاهد والكليات، وسجلت “جمعية نساء ضد التعذيب” حملة واسعة تتعرض لها المرتديات للزي الإسلامي في المعاهد، حيث تم منعهن من الدخول، كما منعت طالبات الجامعة من التسجيل، وأُمرن بنزع غطاء الرأس، في ظل سكوت مريب لبعض المنظمات النسائية التونسية وتواطؤ وصل إلى حد تحريض السلطة على التنكيل بالنساء الملتزمات بالزي الإسلامي!
وفي الأردن: شهد عام 2005م تسجيل 437 حالة تحرش جنسي.
وفي المغرب: تعاني الكثير من الفتيات والسيدات المغربيات من ظاهرة “التحرش الجنسي” المتفشية في كثير من مؤسسات القطاع الخاص في المغرب، ويتبع بعض أرباب ورؤساء العمل طرقاً شتى من التحرش للإيقاع بضحاياهم، مستغلين في معظم الأحيان سطوتهم وحاجة تلك النساء للعمل.
وتشير منتديات الإنترنت في عدة دول أخرى مثل الكويت وسورية والأردن ولبنان وغيرها إلى انتشار هذه الظاهرة بشكل مقلق.
كما زاد هذا التحرش في العراق أضعاف أضعاف الأعداد السابقة، عقب الغزو الأمريكي للعراق والفوضى التي تضرب البلاد.
فراغ فكري وأخلاقي
وحول أسباب الظاهرة أرجعت د.نسرين البغدادي أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ذلك لحالة الفراغ الفكري والوقتي التي يعيش فيها الشباب، مع غياب دور المؤسسات التربوية كالمدرسة التي تناست أو تجاوزت هذا الدور إلى الدور التلقيني فقط، فضلاً عن غياب دور الأسرة بانشغال الأم والأب من الأولاد، وترك أمر تربيتهم للشارع ولرفاقهم وأصدقائهم.
وتؤكد أن الطلاب باتوا لا يشعرون بأن للمؤسسة التعليمية دوراً تربوياً، لدرجة أنها حينما تحاول ضبط سلوك أحد الطلاب أثناء إلقاء المحاضرات، تجدهم يستغربون لذلك ويستهجنون رأيها وكأنها دخلت إليهم فقط لإلقاء المحاضرة كأمر تقني فقط لا علاقة له بالتربية!
وهنا أيضا تشير الدكتورة سامية خضر أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس إلى أن الاغتصاب جريمة تنتج عن حالة من الخلل تصيب المجتمع بشكل عام والأسرة بشكل خاص، وتحولها من أسرة مترابطة إلى مفككة، وتوضح أن هذا الوضع خلق مناخًا من السخط الاجتماعي والإحساس بالإحباط وغياب العدالة بين طبقات الشباب، هذا المناخ يمثل البيئة النموذجية للجرائم بأنواعها، ومنها جرائم الاغتصاب الجنسي، بالإضافة إلى انتشار الإدمان وتعاطي المخدرات وهي أمور تقود إلى ارتكاب جرائم.
ويضيف د.أحمد المجدوب أستاذ علم الاجتماع سبباً آخر لهذه الانحرافات الأخلاقية التي تؤدي بالشباب للتحرش الجنسي، وهو ما يذاع في المحطات الفضائية والمحطات الأرضية الحكومية أيضاً، من “كليبات” عارية وأفلام فاضحة وأغانٍ تثير الغرائز، بل إن ما تبثه الفضائيات والمحطات الأرضية من أعمال درامية ترسخ الاستهتار واختلال القيم وحتى التفرقة في التربية بين الابن والبنت، كما في مسلسل نور الشريف الأخير (حضرة المتهم أبي)، حيث يسمح الأب للابن بأن يحضر له صديقته إلى المنزل وتجلس معه في غرفة النوم!
السعار الجنسي
ويؤكد المجدوب أنه إذا تلاقى الشكل المثير مع الميول العدوانية لدى هؤلاء الشباب خصوصاً نتيجة تعاطي مخدر البانجو الذي يزيد من نسبة الأدرينالين في الدم وهو المحفز للعدوانية يحدث التحرش، ويزيده عدم انضباط الشارع؛ نتيجة الغياب الأمني وغياب القدوة الحسنة، فلا يجد الشباب أمامه إلا تقليد الفنانين، ويعتبر الشباب أن تجرؤهم هذا “انضباط”.
فيما يركز الدكتور علي ليلة أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس على العامل نفسه، المتعلق بدور الإعلام وانهيار الأخلاق، قائلاً: إن العامل الأول في ذلك هو انتشار الفضائيات العربية في السنوات الأخيرة، الذي أحدث “اغتراب ثقافياً نتج عنه ظهور قيم وصور ثقافية واجتماعية غير التي اعتدنا عليها في الماضي، إلى جانب ضخ حجم كبير من المشاعر والسلوكيات الجنسية، مما جعلنا في النهاية أمام مجتمع ضعيف يجري وراء إشباع غرائزه”!
غياب دور الدولة
ويفسر د.عمرو أبو خليل رئيس مركز الاستشارات النفسية بالإسكندرية (شمال مصر) التحرش بأنه “”هروب جماعي” يسلكه الشباب بمختلف مستوياتهم الاجتماعية في مواجهة واقع مضطرب يغيب فيه دور الدولة، سواء الاجتماعي أو السياسي.
ويحلل أسباب لجوء المتحرشين هذه المرة في حادث القاهرة الأخير لاستهداف محجبات بالقول إن الأعياد موسم لتناول المخدرات، وهناك احتمال أن يكون هؤلاء الشباب تحت تأثير مخدر، ويقول: “التحرش الجنسي سابقاً كان يمارس معظم الأحيان ضد المبالغات في التبرج، وتمثل غالبًا في محاولات تلامس يبدو عفويًّا في وسائل المواصلات، لكن الاعتداءات الحالية شملت محجبات ومنتقبات، مما يدل على أن هؤلاء الشباب لم يكونوا واعين”.
ويقول: إن الشباب يشعرون بحالة من “الضياع التام”، وبالتالي يحاولون الاعتراض والتمرد، مثلما حدث في الغرب خلال فترة الستينيات في القرن العشرين مع جماعات “الهيبيز” التي تمردت على أوضاع مجتمعها بطرق شاذة.
وأرجع أبو خليل هذه الحوادث إلى عاملين هما غياب “الأمن السياسي” و”التدعيم الاجتماعي” مؤكداً أن: “سهولة الوصول إلى المخدرات وتعاطي الشباب لها بهذه الأعداد الغفيرة، ونزولهم وهم تحت تأثيرها ليعيثوا فسادًا في الشارع لعدة أيام متتالية، فضلاً عن ضعف التمثيل الأمني يدل بالتأكيد على غياب دور الدولة”.
كما أن غياب “التدعيم الاجتماعي” بمعنى مساندة المجتمع للضحية والتي تمثل في قلة عدد المدافعين عن الفتيات، يرجع إلى أن جزءًا من ثبات الإنسان على المبادئ كالشهامة والعزة والكرامة ينبع من شكر المحيطين به على شهامته ودعمه في مواقفه.. والآن معظم الأفراد لا يتحلون بالشجاعة في مثل هذه المواقف، خوفًا من عدم تلقي المساعدة إذا ما تعرضوا لاعتداء بسلاح مثلاً، إضافة إلى انتشار السلبية واللامبالاة والأنانية، ناهيك عن استخفاف الناس بمن يتبنّون تلك المواقف”.
أين الرادع؟
ويشير د. أحمد عبد الله الخبير النفسي بجامعة المنصورة إلى أن أهم أسباب هذه الظواهر ، انعدام أو ضعف الرادع في المجتمع، سواء كان الضمير أو الكابح الاجتماعي أو القانوني، واقتران الرغبات الجنسية لدى الشباب بمغزى وسائل الإعلام، مقابل عدم وجود قناة شرعية تفرغ فيها هذه الشهوة، فضلاً عن دوافع للتمرد على النظام القائم الذي لا يلبي حاجة الشباب، ولا يوفر له فرصة عمل أو زوجة أو أبناء أو يسمح له بالتعبير عن رأيه، فتكون النتيجة خروج هذه الطاقة من الغضب والتمرد بشكل عشوائي ودون نظام.
ترى هل تدرك الحكومات والأسر أخطار هذه الظاهرة وتتصدى لها بإعلان حقيقتها وتطبيق عقوبات غليظة بحق المعتدين وردع المنحرفين، أم أن انشغال الحكومات بأمنها السياسي وانتشار الفساد الإداري والمالي، وانهيار البناء الخلقي بجانب الدور الهدام لبعض الفضائيات في بث ونشر الفساد الأخلاق، يعرقل هذا الأمر ويجعلنا ندور في دوائر مفرغة في ظل الغياب الكامل لدور الدولة والأسرة والانشغال بملذات ومشاغل الحياة!