عودة الحياة الى دبي

عبد الخالق عبد الله: أعاد إعلان تسوية أزمة ديون مجموعة «دبي العالمية» إلى دبي بعضاً من عافيتها ونضارتها التي تأثرت كثيراً بسبب أزمتها المالية الصعبة. وجاءت هذه التسوية لترد بقوة على مقولات فقاعة دبي، وأطروحات انهيار نموذج دبي التي كانت متداولة بشكل واسع عربياً وعالمياً. لكن خبر تسوية الديون ومستحقاتها لم يكن الحدث الوحيد المهم الذي يشير إلى عودة الروح، وإن ببطء، إلى دبي التي أعلنت في الأسبوع الماضي سلسلة من البيانات المثيرة وشهدت مجموعة من الفعاليات المدهشة.

فقد حققت شركة ألمونيوم دبي «دوبال»، التي تأتي ضمن قائمة عشر أكبر مصاهر الألمونيوم في العالم، أرباحاً تزيد على مليار درهم في .2009 وسجّل مطار دبي، الذي يحتل المركز 15 على الصعيد العالمي، زيادة في حركة المسافرين بنسبة 19.7% في الربع الأول من العام .2010 وذكرت هيئة كهرباء ومياه دبي، أهم مؤشر لقياس الأداء الاقتصادي في المدينة عن زيادة في إجمالي الطلب على خدماتها بنسبة 6.3%. كذلك أعلنت موانئ دبي العالمية، ثاني أكبر شركة تدير الموانئ والحاويات في العالم أن صافي أرباحها من عملياتها العام 2009 يفوق 333 مليون دولار. وجاءت المفاجأة الكبرى عندما أعلن مركز الإحصاء في دبي أن إجمالي عدد السكان في الإمارة لم يتناقص كما كان متوقعاً بسبب الأزمة المالية العاصفة وإنما ازداد بنسبة 7.6% ليصل إلى 1.77 مليون نسمة حالياً.

جميع هذه الأرقام والبيانات التي يصعب استيعابها وتصديقها مهمة، لكن الخبر الذي استأثر بأكبر قدر من الاهتمام الإعلامي هو تسوية أزمة ديون مجموعة دبي العالمية المكونة من 1011 شركة منتشرة في شرق وغرب وشمال وجنوب الكرة الأرضية. دبي العالمية ليست بشركة عادية، بل هي إمبراطورية استثمارية عابرة للقارات، لكنها مثقلة بديون تقدر بنحو 60 مليار دولار.

كانت أزمة ديون شركتي نخيل و«لميتلس» العقاريتين التابعتين لمجموعة دبي العالمية والبالغة 26 مليار دولار هي القشة التي كسرت ظهر البعير. لذلك استأثر خبر تسوية ديون هاتين الشركتين بالاهتمام ليس لكونها تسوية سخية كل السخاء فحسب، وإنما لجهة اتخاذ قرار بتحويل ديون تجارية إلى ديون سيادية، حيث التزمت حكومة دبي بتوفير سيولة مالية تقدر بنحو 15 مليار درهم من مواردها الذاتية.

كيف تمكنت دبي الغارقة في الديون من تدبير هذا المبلغ؟ وما الذي تقوله البيانات والتطورات الأخيرة عن حال مدينة دبي؟ هل تجاوزت المدينة متاعبها المالية وأزماتها الاقتصادية وأصبحت على وشك أن تستعيد عافيتها بأسرع مما كان متوقعاً؟

ليس بالضرورة، وليس بهذه السرعة ولا بهذه البساطة. فدبي لاتزال مثقلة بالديون، والأزمة المالية صعبة، وتداعياتها ستبقى لفترة طويلة مقبلة. رغم ذلك، فإن البيانات والفعاليات المكثفة في الأسبوع الماضي، كافتتاح مركز تسوق «مردف سيتي سنتر» في مدينة مكتظة أصلاً بمراكز التسوق وفي هذا الوقت بالذات، ثم افتتاح مضمار الميدان لسباق الخيول وهو الأحدث والأضخم في العالم والذي يجسد روح دبي، وافتتاح معرض «آرت دبي» الذي شهد إقبال أكثر من 18 ألف زائر، كل هذه النشاطات تحمل دلالات مهمة على أن الحياة في دبي تتراجع أحياناً وتتقدم أحياناً أخرى، لكنها لا تتوقف أبداً. فالمدينة تمر بأزمة مالية، ولا يمكن الادعاء بغير ذلك، لكنها قادرة على تجاوز كبوتها واستعادة صدقيتها. والواضح أن دبي تخضع حالياً إلى مراجعات صعبة وشاقة ومكثفة من قبل فريق إداري ومالي جديد أخذ يعيد النظر بعمق في السياسات التنموية السابقة، ويبحث في السؤال لماذا تأثرت دبي بالأزمة المالية العالمية أكثر من غيرها؟ وكيف تراكم على المدينة أكثر من 100 مليار دولار من الديون السيادية وشبه السيادية والتجارية؟ هل هو خطأ في الحسابات أم في الاستراتيجيات، وهل ارتكب هذا الخطأ في لحظة غفلة أم في لحظة نشوة؟

لقد اعتمدت المدينة تاريخياً على الديون من أجل تأسيس مشروعاتها الاستثمارية، بما في ذلك شركة طيران الإمارات، أكبر قصص النجاح في دبي وسابع أكبر شركة طيران في العالم. لكن الديون التي تراكمت على دبي أخيراً مختلفة كمًّا ونوعًا عن ديونها السابقة.

كان حجم الديون في السابق معقولاً ومقبولاً، أما الديون الحالية فهي ثقيلة كل الثقل وتحمّل المدينة أعباءً غير مسبوقة. كذلك استُغلت الديون في السابق لتطوير البنية التحتية التي رسخت مكانة دبي مركزاً للخدمات، أما الديون الجديدة فذهبت إلى تمويل مشروعات تجارية واستثمارية وعقارية وعمرانية غارقة في الطموح إلى درجة الشطط.

كما جرت العادة في دبي أن تذهب الديون إلى تمويل مشروعات في الداخل، أما الديون الحالية فقد استخدمت من أجل تمويل مشروعات سياحية وفندقية وعقارية في الخارج. وشتان ثم شتان بين الاستثمار المضمون في الداخل والاستثمار غير المضمون في الخارج. علاوة على ذلك كانت الديون في السابق طويلة الأجل، في حين أن الديون الراهنة قصيرة المدى ومستحقاتها عالية، وجاءت الأزمة المالية العالمية لتكشف عن العبث الشنيع بالمال العام، وسوء إدارة الديون التي أرهقت المدينة وزجّت بها في متاهات معقدة كل التعقيد.

الديون ضخمة وقصيرة الأجل وذهبت إلى تمويل مشروعات عقارية في الخارج وفي لحظة اللحظة لم تتمكن دبي من دفع مستحقات هذه الديون، وهو أمر لم يحدث في أي وقت آخر، والمدينة تدفع حالياً ثمن هذا الخطأ الجوهري في التقدير. ومن المهم في مرحلة المراجعة الاعتراف بالخطأ، وتحديد من ارتكب هذا الخطأ الجسيم بحق دبي وحمّلها هذا العبء الثقيل الذي أضرّ بسمعتها وصدقيتها.

والحقيقة أنه لولا مساندة حكومة أبوظبي، ووقفة الحكومة الاتحادية ممثلة في المصرف المركزي الاتحادي لكانت تداعيات أزمة الديون أكثر حدة وبما لا يمكن تحمله أو تخيله. وتأتي البيانات والتطورات الأخيرة عن مجمل الأداء الاقتصادي لتؤكد كم كانت وقفة أبوظبي والحكومة الاتحادية بمثابة طوق النجاة الذي انتشل دبي من الغرق الوشيك.

عودة الحياة إلى دبي مؤكدة، لكنها مشروطة بالخروج من نفق الديون. والخروج من فخ الديون مرتبط بتوثيق العلاقة مع أبوظبي وتقوية مؤسسات الدولة الاتحادية. لقد تأكد أن الاتحاد هو الحصن الحصين الذي لا ينبغي العبث به، أو إضعافه في أي وقت من الأوقات، ولأي سبب من الأسباب، ومن قبل أي طرف من الأطراف. دبي وأبوظبي معنيتان بتقوية الاتحاد وليس إضعافه، وتتحملان أكثر من غيرهما مسؤولية الحفاظ على المؤسسات الاتحادية قوية وراسخة كما أرادها الأب المؤسس زايد.

المقال نشر في جريدة الوقت البحرينية بتاريخ 3 مارس 2010.

ارباب

8 thoughts on “عودة الحياة الى دبي

  1. ياسلام عليك يا عبدالخالق عبدالله

    كلام يوزن بالذهب

    اقتبس منه هذه الجُمل التي يجب أن نضع تحتها الف خط وندرسها بعناية

    بارك الله فيك اخي ارباب على النقل


    أما الديون الجديدة فذهبت إلى تمويل مشروعات تجارية واستثمارية وعقارية وعمرانية غارقة في الطموح إلى درجة الشطط.

    وشتان ثم شتان بين الاستثمار المضمون في الداخل والاستثمار غير المضمون في الخارج.

    لقد تأكد أن الاتحاد هو الحصن الحصين الذي لا ينبغي العبث به، أو إضعافه في أي وقت من الأوقات، ولأي سبب من الأسباب، ومن قبل أي طرف من الأطراف

Comments are closed.