الجزيرة السعودية الثلاثاء 30 مارس 2010 9:31 ص
فضل بن سعد البوعينين
«التجفيف» مصطلح مضاربي شاع استخدامه في سوق الأسهم السعودية إبان ارتفاعاتها القياسية التي أوصلتها إلى مشارف الـ21000 نقطة؛ ويعني في ثقافة المضاربين جمع السهم المستهدف و(تجفيفه) من السوق بهدف السيطرة عليه ورفع سعره من خلال الاحتكار المُحرم. مصطلح «التجفيف» عاد للظهور من جديد في سوق الحديد التي شهدت في الآونة الأخيرة تجفيفا متعمدا بهدف توجيه الأسعار.
يُرجِع بعض التجار أزمة الحديد الحالية إلى وجود سعرين مختلفين لمنتج الحديد في السوق السعودية وهو ما يدفع (بالمخالفين) إلى تخزينه، وربما تهريبه!؛ ويعتقد آخرون أن فرض وزارة التجارة والصناعة سعر محدد لبيع الحديد، بمعزل عن المتغيرات العالمية، «يخلق عادة سوقا سوداء للسلع، ويخل في نظرية العرض والطلب، إضافة إلى تفشي ظاهرة التهريب». بعض كبار التجار والموزعين يتهمون سابك صراحة بتسببها في نشوب الأزمة الحالية نتيجة بيعها الحديد بأسعار تقل عن أسعار المصانع الأخرى، والمنتج المستورد!!، وهو اتهام تكتيكي يُقصد منه رفع الضغط عن التجار، وتحقيق هدف رفع أسعار منتجات سابك التي ستضمن لهم تحقيق أرباح إضافية على الكميات المخزنة، وهامش ربح أعلى للمنتجات المحلية، وستساعد أيضا على بيع منتج الحديد المستورد الأقل جودة بسهولة. تنافسية سابك مكنتها من تحقيق الجودة بأسعار منافسة، وتحقيق الربح للمساهمين، وهو أمر يفترض أن تتبناه المصانع الوطنية الأخرى عوضا عن تبنيها رفع الأسعار والإضرار بالمستهلكين. قد لا تتمكن المصانع المحلية، بوضعها الحالي، من تحقيق هدف التنافسية ما يجعلها أكثر حاجة للاندماج فيما بينها لتقليل تكلفة الإنتاج، أو زيادة استثماراتها بهدف الإحاطة بمراحل الإنتاج الثلاث التي تضمن تحقيق التنافسية مستقبلا.
للمستهلكين رأي آخر في أسباب الأزمة؛ فهم يعتقدون أن توقف التجار عن بيع الحديد، وتحويله إلى مخازنهم طمعا في الكسب الإضافي، أدى إلى إحداث خلل في حركة البيع ما ساعد على رفع الأسعار ونشوب الأزمة الحالية. الصحف السعودية واصلت تتبعها أزمة الحديد وكشفت من خلال تحقيقات موسعة، مدعمة بالصور، وآراء خبراء، ومسؤولين، عن مخالفات على أرض الواقع. بعض المستثمرين ذكروا «أن مستودعات الحديد الكبرى تم إفراغها على مدى الأسابيع الماضية وتحويلها للمستودعات الرئيسة، وأخرى سرية خارج مدينة الرياض». السيد صالح الخليل، الوكيل المساعد لشؤون المستهلك في وزارة التجارة والصناعة، ذكر في تصريحات صحفية أنه تم «ضبط عدد من المحال امتنع عن بيع الحديد، وبعض منها باع بسعر أعلى من الأسعار المعلنة على موقع الوزارة الإلكتروني، فيما ضبطت محال أخرى تمارس عمليات تخزين كميات من الحديد».
لجنة الغش التجاري في وزارة التجارة عثرت، يوم أمس الأول، في مدينة سكاكا على مستودع حديد يعود لإحدى الشركات المتخصصة ببيع الحديد يحوي كميات كبيرة من الحديد المكدس الذي تمتنع الشركة عن بيعها، وقامت بإغلاقه وفتح تحقيق حوله.
أجد نفسي مطمئنا لإجراءات وتصريحات الجهات الرسمية المعنية بمراقبة السوق، المؤكدة لظاهرة «التجفيف» وأجزم بصحة ما يعتقده المستهلكون، في الوقت الذي أتحفظ فيه على تبريرات بعض التجار (وكلاء التوزيع) وإن اتصف بعضها بالوجاهة، من الناحية التحليلية الصرفة.
تُشير الأرقام المُعلنة إلى أن حجم الاستهلاك السنوي للحديد يقرب من 6.2 مليون طن، فيما تبلغ الطاقة الإنتاجية الإجمالية للمصانع المحلية نحو 6.5 مليون طن، وإذا ما أضفنا إلى ذلك الحديد المستورد فيفترض أن يكون هناك فائضا كبيرا في معروض الحديد. إيقاف بعض المصانع المحلية؛ باستثناء مصنع حديد الذي يعمل بطاقته القصوى؛ لجزء من خطوط إنتاجها لأسباب تشغيلية ربحية ربما خفض من حجم الإنتاج الحقيقي مقارنة بالقدرة الكلية، وهو خفض لا يرقى إلى إحداث التأثير الكبير الذي تشهده السوق في الوقت الحالي!. الذي حدث ببساطة هو إخلال متعمد بقوانين العرض والطلب من خلال تخزين الحديد ووقف بيعه تحسبا لارتفاع السعر ومن ثم تحقيق أرباح أكبر للموزعين والتجار، وهو ما أدى إلى إرباك السوق والمستهلكين وظهور الأزمة الطارئة التي ستتحول إلى أزمة حقيقية، تقود لأزمات تموينية أخرى وفق قانون (المحاكاة). أي إخلال متعمد في موازين العرض قد يربك انسيابية البيع، وإن توفرت الكميات، ما يؤدي إلى حدوث أزمة تموينية في ظل توفر الإمداد.
أزمة الحديد، والأزمات الأخرى، كشفت عن تدني مستوى التخطيط الإستراتيجي المرتبط بحاجة الوطن الآنية والمستقبلية من المواد والسلع، وضعف في ضبط السوق، الرقابة، الوعي الاستهلاكي العام، تطبيق أنظمة مكافحة الاحتكار، ومحاسبة المتسببين في ظهور الأزمات لأسباب احتكارية صرفة. وكشفت أيضا عن حاجتنا للتنمية الصناعية، وزيادة المشروعات الإنتاجية لسد حاجة السوق المحلية، وتصدير الفائض منها للأسواق العالمية.
وزارة التخطيط والاقتصاد هي المعنية برسم الإستراتيجية المستقبلية للاقتصاد، وحاجاته الأساسية، الإنتاجية منها على وجه الخصوص، في الوقت الذي يفترض أن تقوم فيه وزارة التجارة والصناعة بدعم إنشاء المشروعات الصناعية، وتحفيز رجال الأعمال لتبني المشروعات الإستراتيجية المهمة. ويمكن للدولة أن تدعم إنشاء المشروعات الضخمة من خلال رجال المال والأعمال، وبمساهمة الصناديق الحكومية، إضافة إلى توفير الحماية (القانونية) للمنتجات الوطنية، المتوافقة مع أنظمة التجارة العالمية، كاستغلال نظام الكوتا، المواصفات السعودية، وأنظمة الإغراق على سبيل المثال لا الحصر، وتطبيق الشفافية المطلقة بكل ما له علاقة بالأنظمة، القوانين، تسعير الخدمات المرتبطة بقطاع الصناعة. التوسع في بناء المشروعات الإنتاجية كفيل بالقضاء على الأزمات المفتعلة، وقادر على تحقيق الكفاءة الإنتاجية، التنافسية العالمية، خفض الأسعار، والتنمية المستدامة، إضافة إلى ما يحققه من دعم للاقتصاد الوطني، تنويع مصادر الدخل، وخلق وظائف متنوعة للسعوديين.