تأليــف : سلطان عـلــي بـخــيـت العميمـــــــي
الموضوع طويل فالي ماعنده وقت اتمنى يرجع يقراه لانه فييه وايد اشياء حلوة
سالم الجمري العميمي
كانت دبي مع بداية القرن العشرين إمارة من إمارات ساحل عمان ، تعيش عصراً ومرحلة لا يختلفان كثيراً عن مثيلاتها من إمارات الساحل .. بدءا من ظروف الاستعمار البريطاني الذي يستكمل سلسلة إجراءاته وممارسته المختلفة على إمارات الساحل بغية إرساء دعائم سيطرته على المنطقة ، مروراً بظروف الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها سكان المنطقة .
فعلى الجانب السياسي كانت النزاعات بين الإمارات حلقة مستمرة من مسلسل النوايا البريطانية التي كان يهمها بث روح الفرقة والتشتيت بين الإمارات حتى يسهل عليها فرض سياستها وسيطرتها .
أما اقتصادياً فقد كانت دبي في أوائل القرن العشرين تضم مجتمعاً عريق الجذور في صناعتي التجارة وصيد اللؤلؤ ، وكان ميناء دبي يؤدي دوراً كبيراً في الحركة التجارية للإمارة التي ارتبطت تجارتها باللؤلؤ والذهب والأقمشة والعطور والبهارات والأغذية ، وغيرها من أتواع التجارة التي كانت سائدة في تلك الفترة وإن كان اللؤلؤ هو العمود الفقري لهذه التجارة وأحد المصادر الأساسية للنشاط الاقتصادي في المنطقة .
أما على الجانب الاجتماعي فقد كانت الحياة الشظفة والصراع من أجل البقاء هاجساً أرق أغلبية أبناء الخليج لفترة طويلة وكان البحر قبلة للأغلبية منهم فاتجهوا إليه وغاصوا في أعماقه لاستخراج اللؤلؤ مصارعين أمواجه وأهواله ورياحه وأعاصيره ولم يكن لهم مفر منه ولم يتوقعوا ملجأً غيره أو أن تنفصل حياتهم يوماً عنه .
ومع بداية القرن العشرين وتحديداً في العقد الأول منه شهدت دبي مولد شاعرنا سالم بن محمد بن سالم الجمري العميمي ، الذي ينتسب إلى آل بوعميم وهم قبيلة من حلف بني ياس .
ديرة … (1910) .
مع بدايات هذا القرن لم تكن شهادات الميلاد قد عرفت بين الناس في المنطقة وكان تاريخ ميلاد الشخص يربط بحادثة معينة في تلك الفترة ، أو يقدر بسنة أو فترة من الزمن ذات ذكرى معينة عند الناس ، والجمري كما يذكر دائماً في أحاديثه ومقابلاته – تقديراً لا تحديداً – أنه من مواليد 1905 وهي الفترة التي كان الشيخ مكتوم بن حشر بن مكتوم ( 1894-1906) حاكما لإمارة دبي .
لكن تاريخ ميلاده الحقيقي قد يكون بعد هذه السنة بخمس سنوات ، وتحديداً في ديسمبر 1910وهو التاريخ الأكثر دقة وقرباً إلى الواقع ، بدليل كلام الجمري نفسه ، الذي يقول ابنه الأصغر عجلان ، أقرب أبناء الجمري إليه في أثناء حياته : (( أخبرني والدي أنه ولد في ليلة الإنجليز )) .
وليلة الإنجليز أو حادث دبي تسمية أطلقها أهل دبي على الليلة التي ضربت فيها قوات إنجليزية بمساندة المدمرة البحرية ( Haycinth) هاينست ، بقيادة ملازم إنجليزي اسمه ( دوك ) ساحل ديرة وأطلقت نيران مدافعها على دبي لتصيب بعض المنازل ، بينما بدأت سرية مشاة نظامية من مائة جندي وضابط بالنزول على سواحل دبي .
وقصة تلك الحادثة أنه في بداية القرن العشرين ساد ساحل عمان الخليج استياء عام من البريطانيين بعدما أيقن العرب وأهل دبي خاصة أن منع بريطانيا تجارة السلاح في ميناء دبي ليس إلا سهماً موجهاً لهم ولمقاومتهم الاحتلال .
لذلك فقد تفنن سكان دبي في طرق إدخال الأسلحة التي كانت إحدى سبلهم لمقاومة الإنجليز ، وفي المقابل باءت المحاولات البريطانية المحاصرة محاولات إدخال الأسلحة إلى داخل دبي بالإخفاق ، وكان الإدخال يتم عن طريق الإبل والقوافل ، أو عن طريق السفن والموانئ ، أي براً وبحراً .
ولما انتهى إلى مسامع الإنجليز خبر وصول شحنة من الأسلحة ( 400 بندقية حديثة) ، إلى دبي عن طريق التهريب من إيران وقطر ، طلبوا من حاكم دبي في تلك الفترة الشيخ بطي بن سهيل بن مكتوم ( 1906-1912 ) السماح لهم بتفتيش بيوت عدد من المواطنين الذين يشتبه بمشاركتهم في عملية إدخال الأسلحة وتخزينها عندهم ، إلا أن الشيخ بطي بن سهيل بن مكتوم رفض ذلك ، مما حدا بالإنجليز إلى التدخل العسكري عن طريق ضرب ساحل دبي وإنزال سرية من الجنود على الساحل .
وعلى صوت انفجار القنابل داخل دبي خرج الأهالي لمقاومة الجنود الإنجليز لما لديهم من سلاح ، واستمر القتال بين الطرفين لتكون خسائر الطرفين كبيرة من القتلى والجرحى ، وقد اختلفت الروايات حول عددهم ، إلا أن الرواية الأقرب للدقة تقول : إن المحصلة كانت 10 قتلى من العرب وثلاثين من الإنجليز .
وهذه الحادثة وقعت في فجر 24/12/1910 ، وفي هذه الليلة التي سميت فيما بعد ليلة الإنجليز ولد سالم الجمري في عائلة أصبحت مكونة من ستة أفراد ، فإلى جانب والده ووالدته ، هناك أخوه أحمد الذي كان يكبره سناً وأختاه .
وفي رواية وحيدة حصلت عليها من لقاء الجمري في برنامج ( شاعر من بلادي ) وهي رواية لم أجد من يؤكدها من أقربائه أو أصدقاه يقول : (( إنه بعد ولادته بفترة قصيرة رحلت عائلته إلى إمارة الشارقة نظراً لظروف الحياة الصعبة ، ومكثت فيها ثلاث سنوات ، لكن الحنين عادهم مرة أخرى إلى دبي ، ليستقروا فيها من جديد )) .
وكبر الصبي سالم … ونشأ في كنف والده محمد الذي ألحقه بالكتاتيب كعادة العائلات في تلك الفترة ، حتى يتسنى لأبنائهم أن ينالوا قدراً من التعليم والإلمام بالقراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم والحديث والحساب البسيط .
وفي دبي كان هناك عدد من المطاوعة والكتاتيب المشهورين ، أمثال أحمد بن دلموك والسيد محمد الشنقيطي ، وعلى يد الأخير تتلمذ شاعرينا سالم الجمري ، فتعلم منه القراءة والكتابة والنحو وأصول الفقه ، أسوة بأخيه أحمد الذي نال حظه من التعليم أيضاً وأصبح رجل علم ودين فيما بعد ، كما حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد بن سوقات .
في تلك الفترة كان الأطفال يتحملون مسؤولية أسرهم مع أهليهم ، خاصة مع رب الأسرة الذي كان يعمل ويعود أبناءه العمل منذ صغرهم ، وكان الكثير من الآباء الغواصين يحملون معهم أطفالهم ممن هم دون سن العاشرة على ظهر السفينة وذلك من أجل تأهيلهم مبكراً للعمل ، وربطهم بوجه خاص بالبحر .
ومن هؤلاء كان الجمري الذي ارتبط بالبحر وهو طفل لم يتعد عشر السنوات / عندما اصطحبه والده الذي كان يمتهن حرفة الغوص مع أخيه أحمد ، ولما كانت سنه لا يسمح بالغوص ، فقد انحصر عمله في خدمة النوخذة والغواصين والمساعدة على فلق المحار الذي كان يجمعه الغواصون ، وهو ما يطلق عليه في عالم الغوص اسم (( الجلاس )) أو (( التباب )) أو (( الوليد )) .
وهكذا نجد أن أفراد عائلة الجمري ارتبطوا بالبحر والغوص ارتباطاً وثيقاً .
وتمر السنوات ، وينضج الفتى ليصبح بمقدوره الغوص كباقي رجال السفينة والغواصين للبحث عن اللؤلؤ ، وأصبح الجمري غيصاً في الخامسة عشرة من عمره ، وهي السن ذاتها التي بدأت فيها شمس الشعر تشرق على أرض مخيلته ، وكيف لا تشرق وجده وخاله كانا شاعرين معروفين .
كان لمجالسته كبار شعراء عصره منذ صغره دور كبير في صقل موهبته التي برزت في سنه تلك ، فتفتحت آذانه على قصائدهم ، إضافة إلى ولعه وإعجابه بقصائد شاعر الإمارات الكبير الماجدي بن ظاهر الذي يعده قمة الشعر الشعبي في الإمارات ، يقول : (( منذ كنت في الخامسة عشر من عمري كان معي شعراء كبار أجالسهم وأسمع لهم مثل : ابن زبيد ، أبوسنيدة ، ابن يدعوه )) .
ويستطرد الجمري .. (( الشعر الماجدي بن ظاهر ظاهرة لا تتكرر ، معلم هؤلاء الذين ذكرت ، وهو شاعري المفضل دون منازع ..)) .
ونجد في إحدى قصائده أبياتاً تدل على إعجابه وتأثره بقصائد الماجدي بن ظاهر فيقول :
أنا لقيت أوصاف ناس قبلنا أمثال بن ظاهر وقول الهاملي
ويذكر أحد أقاربه حادثة التقاء الجمري بالشاعر المعروف مبارك بن حمد العقيلي ( 1882-1954) عندما كان في بداياته الشعرية
والقصة أن الجمري كان ينتقل بواسطة العبرة بين ديرة وبر دبي ، كان يترنم بصوته أبياتاً من تأليفه وهو ما نطلق عليه اسم ((الشلة)) في اللهجة المحلية لأبناء الإمارات ، حيث يلحن الشخص القصيدة ويغنيها بصوته ، فسمعه أحمد مرافقيه في العبرة ، فلما انتهى من غنائه سأله :
-ابن من أنت ؟
قال :
-ابن الجمري .
فرد مرافقه :
سوف يكون لك مستقبل كبير في الشعر .
ولم يكن الجمري يعلم أن هذا الذي تنبأ له الشاعر مبارك بن حمد العقيلي .. هذا الشاعر الذي كان سمع عنه ويحفظ قصائده دون أن يعرفه شخصياً .
وكان حدث العقيلي صادقاً .
الخطيبي … بوعلي
استمر الشاعر الغيص سالم الجمري في علاقته بالبحر واللؤلؤ ردحاً من الزمن وفي منصف الثلاثينات توفي والده محمد بن سالم ، وليبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة في حياته ، اعتمد فيها على نفسه بشكل أكبر ، وهو يذكر عدد مرات ذهابه إلى الغوص فيقول (( إنها سبع عشرة مرة )) خلال حياته.
وفي إطار علاقته بالغوص وأهواله ، يؤرخ لنا في إحدى قصائده حادثة صديقه الخطيبي ( بوعلي ) مع البحر ، التي كانت سبباً في قصيدته الرثائية فيه .
واختلفت الروايات حول قصة الخطيبي ((بوعلي)) ، والحادثة الحقيقية لقصته ، وسأحاول فيما يأتي سرد الواقعة بما اتفق عليه أغلب الرواة لها .
تقول الرواية : إن علاقة وطيدة ربطت بين أفراد جماعة من الأشخاص تضم سالم الجمري ، ومحمد بن علي الخطيبي الملقب بالخيطبي ( بوعلي) ، والشاعر علي بن شمسة والشاعر علي بن قمبر ، وعلي بن بطي الظفري … يقول الجمري عن (( الخطيبي )) : (( كان ذا صوت شجي ، وفي كل يوم كنا نجتمع في أحد بيوت الأصدقاء ، وكانت تلك المجامع التي تجمعنا تسمى (( المرامس)) وقد كنا نؤلف أنا ومحمد بن علي الخطيبي ثنائياً جذاباً يحيي ليلي السامرين ، وكنت أقول الشعر وهو يلحنه ويغنيه في حينه )) .
ولم يكن ((الخطيبي)) شاعراً بل كان راوياً للشعر ، وذهب مرة إلى الغوص في أحد المواسم ، وحدث بينه وبين نوخذة السفينة التي يركبها خلاف دفعه إلى الخروج من السفينة ، كان له ما أراد إذ ترك السفينة ليلاً ، ونزل البحر بحثاً عن سفينة أخرى .
ولكنه لم يعرف له أثر منذ ذلك النزول ، وربما كان البحر قد ابتلعه .
وعند عودة السفينة التي كان ستقلها بخبر اختفائه ، عم الحزن الشديد أصدقاءه ، وبدأت بينهم سلسلة من المراثي الشعرية في صديقهم محمد بن علي الخطيبي .
ومن قليل ما وصلنا من هذه المراثي ، قصيدة الشاعر علي بن بطي الظفري الذي يقول في بدايتها :
سأل النظير وسألني من سالـيعما جرى لي ياملا في حالـي
افضيت له سد الكنين وبيحـتنفسي بخافيها وقلـت أمثالـي
وأميست أجاسي وسط نارتشتعللاهوبها بأقصى الحشا شعالـي
أما الجمري ، فقد كانت له مرثية مؤثرة ، صور فيها حالته النفسية فقد أحمد أعز أصدقائه ، ورد عليها بعد زميله الشاعر علي بن قمبر ، يقول فيها :
البارحة ماذال جفني يـا ((علـي))من زود لاهـوب يشـب ويشعلـي
بأقصى الضمير وطول ليلي ما خفتيليـن عاينـت الصبـاح المقبـلـي
وانـا علـى نـار الوقايـد كننـيلاتنطـفـي عـنـي ولاتتـبـدلـي
من هاجس بأقصى الضميـر وليعـةبين الأضالـع بالفـواد اتشـا علـي
منها صبـي العيـن هلـت عبرتـهوصف الصميل أوكالغياث الوابلـي
حتى نحـل حالـي وكاتـم علتـيواللي يرى حالي يظـن أنـي خلـي
رشد الكمال وضاع ، تمييزي زهـدمن عقب مانـا قبـل هـذا كاملـي
لي من ذكرت أيام دنيا كـد مضـتهاج الاسف وزهدت عصري الداخلي
بأسباب هذا خفـت خونـات الدهـروأيقنـت أن المستخـر كـالأولـى
لو هو تزخرف لك بلـذات الصفـاوأسقاك من صافي شراب السلسلي .
لابد ما يرويـك فـي تالـي الأمـرخبث ويدعـى صاحبـه متغربلـي
كم من عزيز عاش في طرق العـلاوارماه من بعد العلا فـي السافلـي
وبه الغرور اللي شمج بـه واجتهـدبه فاز طمـع مـادرى بالحاصلـي
وين الملوك أهل السخاوة والفخـر ؟واهـل العطايـا والقـروم النـفـي
وأهل المرا في زي غيـات الهـوىمحسن وغيلان .. وزيـد الجاهلـي
راحوا وباقي فـي الحكايـا ذكرهـمومن عرضهم صار الخطيبي بوعلي
أمسى غريقٍ فـي الجيـج مظلمـةوارماه ضيم الدهر يـوم أنـه بلـي
وآعز تالي .. والفقيـد .. والأسـفوآمشمعي .. هيهات مثله بحصلـي
ياواعزيز النفـس واراعـي السخـاياوانديمـي لـي عطيتـه قابـلـي
حزني عليه بحـزن يعقـوب علـىيوسف ودمعي من نظيـري سايلـي
لاربح الله مـن تسبـب لـه عسـىيعطى كتابـه عـن يمينـه مشملـي
والحر لـي مـن الحبايـل صادتـهملـه فكـاك ولامفـر ولاحـولـي
لـي مامعـه جنـد يدافـع بـه إذاضامه زمان ، أو ضد خصم الدولي
يبلـغ مـراده لـي تمنـى مطلبـهوإفيـبـرح كاليتـيـم الجـاهـلـي
هـذه حـيـاة مابـهـا إلا الشـقـاوالمرء لي طالت حياتـه يـر ذلـي
والأجـل محتـوم بيـوم وسـاعـةلايستخـر عنـهـا ولايستعجـلـي
وارى الحيـاة إلاطريـق مستـمـريقصاه قصـاد الميسيـر ويوصلـي
ولآشـوف ذي دنيـا تشابـه عبـرةًيعـلا بهـا هـذا وذلـك محولـي
كم غثبرت مـن خيريـن وهدمـتقصر علـي ، وساعـدت للأسفلـي
فيهـا السياسـة والخديعـة والحيـلياما طوت من شبـر سبـع طايلـي
ياماغـدرت سلمـى بنـاس قبلـنـامنهم مطيع وبعـض فيهـم مايلـي
هـذي وصاتـي للقلـوب الواعيـةواخذوا وصاتي لاترون إلى عملـي
أنـا لقيـت أوصـاف نـاس قبلنـاأمثال بـن ظاهـر وقـول الهاملـي
يتلونها بعـض الـرواة وقلـت مـاهـذا ، فقـال إلا كتـاب نـازلـي
هم قيسوا الأشيا وأنـا مـن بعدهـمأمثالهـم قبلـي ، وقولـي يتـلـي
الدانه
مع مرور الوقت واستمرار علاقة الجمري بالغوص ، تحسنت أحواله ، واستطاع أن يستأجر سفينة يكون هو نوخذتها ، يشق بها عباب البحر بحثاً عن اللؤلؤ مصدر الرزق الأول ، وفي إحدى رحلاته كانت له قصة مع الدانة .
هي رحلة من رحلات الغوص المعتادة التي تمتد عادة من شهر يونيو إلى شهر أكتوبر يبقى خلالها الغواصون فر عرض البحر أربعة أشهر متواصلة دون عودة إلى اليابسة ، وفي آخر أيام إحدى تلك الرحلات التي خاضها وكان نوخذة فيها وصاحب محمل ، لم يكن المحصول من اللؤلؤ المستخرج وافر كعادته ، بل كان قليلاً مقابل المصاريف الكثيرة التي تتطلبها الرحلة الواحدة .
ولم يكن أمامه سوى العودة بالمحصول ، لكنه وفي اليوم الأخير الذي سبق العودة ، وبينما كان الغاصة ومعهم النوخذة يفلقون حصيلتهم من المحار ، بقيت في يده محارة أخيرة لم يفلقها ، فاستعجله أحد الغاصة ليفلقها ، فرد عليه ، ولم الاستعجال ؟ لقد فلقنا معظم المحار وكان خالياً ، فهل سنغتني من وراء المحارة؟
ثم فلق الجمري المحارة ليجد في داخلها دانة كبيرة الحجم ، كنت تعد في حد ذاتها ثروة كبيرة آنذاك ، إذ كان سعر الدانة الكبيرة يصل إلى خمسين ألف روبية ، قد ينزل في أيام الكساد إلى ثمانية آلاف روبية .
وطلب من الغواصين التكتم على أمر الدانة حتى يتسنى له الحصول على أعلى سعر فيها بعد العودة ، ليسدد بثمنها مصاريف الرحلة من إيجار السفينة وأجور الغواصين ، لكن الخبر سرعان ما انتشر بمجرد العودة !
(( محمد بن أحمد دلموك )) … أحد أكبر تجار دبي في تلك الفترة ، والمشرف على مدرسة الأحمدية في دبي التي أسسها والده أحمد بن دلموك كان أول من علم بقصة الدانو ، فتوجه إلى الجمري ليلاً وطرق بابه ، ليفاجأ الأخير به واقفاً أمامه ، حينها تيقن في قرار نفسه أن الخبر قد تسرب وانتشر ، وأن ابن دلموك قد جاء من أجل شراء الدانة .
ولم يكن أمامه سوى دعوته للدخول ، ودل ابن دلموك بيت شاعرنا وسأله عن الدانة ، كما طلب منه رؤيتها ، بعد أن رآها سأله :
– كم تريد السعر فيها ؟
– عشرين ألف روبية .
– هي في نظري لا تساوي أكثر من عشرة آلاف روبية .
– وأنا لن أبيع بهذا السعر .
عندما أمسك ابن دلموك بالدانة التي كانت في يده ، وفتح يد الجمري ليضعها فيها ، ورد عليه قائلاً : وهي لا تساوي في نظري أكثر من ذلك .
ثم قام متوجهاً بالخروج ، وفي لحظة تحكه كان الجمري يتساءل في نفسه .. (( إذا كان ابن دلموك قد دفع عشرة آلاف روبية ، وهو من كبار التجارة في دبي ، فمن الذي يستطيع أن يزيد عليه ويدافع أكثر منه ؟)) .
وقام / ولحق بابن دلموك قبل أن يخرج باب بيته ، وقال له : بفتك بعشرة آلاف روبية )) .
عشرة آلاف روبية لم تكن مبلغاً بسيطاً آنذاك ، بل هي بداية جيدة لتجار مبتدئ في بيع اللؤلؤ ، وقد كانت هذه هي البداية الحقيقية بأن تحسن أحوال الجمري الاقتصادية فيما بعد .
واستمرت علاقة الجمري بالغوص سبع عشرة سنة ، عانى خلالها الكثير ، وأخذ البحر منه جهداً ووقتاً ، وأثر فيه تأثيراً كبيراً ، حتى إن ذكريات هذه المرحلة ظلت مطبوعة في ذاكرته إلى آخر أيام حياته ، لا تفارقه أبداً ، وقد وصف أيام تلك المرحلة في قصيدته التي قالها قبل وفاته :
وكم غصت بحر لجته دية انجوم اجني من اللولو رفيع المساما
ولاهمني بحر وبرد ولاغيوم لو كان غمق مثل غبة سلاما
ومع نهاية الثلاثينات ترك الجمري منطقة ديرة التي عاش فيها أغلب فترات حياته السابقة ، وانتقل إلى الشارقة ليستقر فيها ، ويتنقل بينها بينها وبين الحيرة وعجمان ، ومما استطعت الحصول عليه من معلومات عن تلك الفترة بعض المساجلات الشعرية بينه وبين زميله الشاعر علي بن بطي الظفري الذي كان يعيش في دبي ، وكانت هذه المساجلات أقرب إلى الدعابة بينهما ، إذ كان الجمري يمتدح الشارقة ويذكر سعة العيش فيها تقول :
في الشارقة أنا صرت ملاك والله عطاني جنـة الحـور
وانهار تسقينـي بالأفـلاك أقطف ثمر من لب لغـدور
أنا مسايه هـوب ممسـاك أنا مسايـه فـي أم خنـور
ويرد عليه صديقه علي الظفري ممتدحاً دبي:
خسران مصباحك وممساك لي عدت لا زاير ولا أزور
والا أنا في عـز مـولاك أصبح وأمسي زين لخصور
بوحاجبين وطـرف فتـاك من ورد خد وفـوع بلـور
واستمرت فترة بقائه في الشرقة سبع سنوات كاملة ، لكنه ما لبث أن عاد إلى دبي في عام 1946م .
وبعد عودته إلى دبي في تلك السنة تعرف إلى أحد أوائل رواد الأغنية الشعبية الإماراتية المطرب حارب حسن الذي عاش جزءاً كبيراً من حياته في دولة البحرين .
يقول حارب حسن ( تعرفت إلى الجمري في الأربعينات ، في أثناء الحرب العالمية الثانية ، كنت حينها مولعاً بالغناء ( السجع ) ، ولم أكن يومها قد تعلمت عزف العود ، وكان معنا من الأصدقاء زعل بن ذيب ، وكنا نجتمع نحن الثلاثة في منطقة سكة الخيل في دبي ، وتحديداً بعد صلاة العشاء ، حيث كان الجمري يسمعنا قصائده وكنا نلحنها بأصواتنا ، ونتسامر )) .
وحارب حسن سافر في السنة ذاتها إلى البحرين بحثاً عن مصدر للرزق وكان عمره حينها عشرين سنة ، فتعلم هناك عزف العود وهو ابن خمس وعشرون سنة كما عمل نجاراً بدائرة الأشغال في البحرين ، ورغم بعد المسافة بينهما فإن الاتصال ظل قائماً بينهما ، وكان الجمري بزور حارب بين الحين والآخر في البحرين .. (( كنا نتواصل فقد كان يزورني في البحرين أحياناً )) .
الجمري هو الآخر لم ينقطع خلال تلك الفترة عن البحر واللؤلؤ ، ولم يفضل تلك العلاقة سوى المرحلة الانتقالية التي شهدتها منطقة الخليج ، خاصة في الإمارات ومنطقة ساحل عمان .
كساد اللؤلؤ …
كان اللؤلؤ الصناعي قد اكتشف في العقد الثاني من القرن العشرين ، وبدأ اللؤلؤ الطبيعي يفقد قيمته السوقية شيئاً فشيئاً ، فبدأت أسعاره بالهبوط والانهيار حتى وصل إلى أقل أثمانه في أواخر الأربعينات من هذا لقرن ، ففقد الأغلبية من أبناء الخليج مصدر مصدر الرزق الأساسية ووجدت الكثير من الأيدي العاملة نفسها عاطلة فجأة بعد أن كانت تغوص على اللؤلؤ .
وكانت الحرب العالمية الثانية ( 1939-1945 ) وما ترتب عليها من آثار اقتصادية سبباً في حدوث أزمة اقتصادية عالمية وصلت في تأثيرها إلى المنطقة الخليجية ، فتوقفت الأسفار أو كادت ، وكسد اقتصاد المنطقة بأسرها ، وتوقف الاستيراد بمعناه الواسع ، لترتفع أسعار المواد والسلع الضرورية ارتفاعاً فاحشاً ، ويصبح توفرها بين الناس أمراً عسيراً .
وهكذا وجد العامة من الناس أنفسهم بين مطرقة وسندان ، كساد اللؤلؤ والبطالة ، أو تدهور أوضاع المعيشة والغلاء الفاحش وندرة الموارد الغذائية .
وكانت رحمة الله عليه حاضرة ، إذ جاء اكتشاف النفط في الخليج وتفقه بشكل تجاري كبير مع نهاية الأربعينات في الكويت ثم في البحرين والسعودية مصدراً جديداً للعمل والرزق ، وكان لابد للحياة أن تتغير مع هذه الإكتشافات .
وعندما كثر الطلب على الأيدي العاملة ، شد الأغلبية من أبناء الإمارات الرحيل نحو الكويت وقطر والسعودية رغبة في العمل ، تاركين خلفهم ابناءاً وأهلاً من أجل توفير لقمة عيش لهم ، ويمكن القول إن 80% ممن كانوا يعملون في اللؤلؤ والتجارة سابقاً هاجروا للعمل في الكويت والسعودية وقطر ، خاصة الكويت التي كانت البكر في اكتشاف النفط وتصديره ، واحتضنت المثير من أبناء الخليج ، وكانت مصدراً جيداً لرزقهم وتحسين أحوالهم المعيشية في بلادهم .
ولم يكن أمام الجمري سوى السفر أسوة بغيره من سكان الساحل ، فكانت الكويت وجهته الأولى ، فسافر إليها بحراً مع عدد من أصدقائه .
عمل الجمري في منطقة الأحمدي البترولية ، والمناطق التابعة لها مثل وارة وبرقان ، حيث كانت الأولى غنية بالنفط ومسرحاً لعمل عظم أبناء الخليج ، وواجهة الصناعات البترولية في الكويت ، أما عن عمله هناك فقد اختلفت الروايات حوله ، وهناك روايتان : الأولى تقول أنه عمل في النقل والبناء ، وهو أمر محتمل ، ودليل ذلك قوله في قصيدته المشهورة التي نظمها قبل خروجه من الكويت :
ما حيدني في دبي شليت بواردي ومربع امتـان
واليواردي والمربع هي الأعمدة الخشبية التي تستخدم عادة في البناء
كما يقول في قصيدة أخرى لم نحصل منها إلا على ثلاثة أبيات :
الأحمدي لي واره صبح وعصر طروق
راكب على السيـارة وآحمـل الطابـوق
والماء فـي مطـاره حلـو لذيـذ الـذوق
وهنا يشير إلى منطقتين عمل فيها ، هما الأحمدي ووارة ، كما يشير إلى الطابوق الذي يستخدم في البناء ، والمطارة التي يحملها العمال معهم للشرب .
ومن هذه الرواية وأبياتها يمكن الاستدلال على أنه عمل في مجال البناء ، أو حمل معدات البناء ونقلها ، مما أصابه الإرهاق وعجل بخروجه من الكويت .
أما الرواية الثانية حول عمله ، فتشير إلى أنه عمل في وظيفة إدارية ذات طابع كتابي ، نظراً لإلمامه بالقراءة والكتابة ، و هذه الرواية جاءت على لسان الشاعر سلطان بالغالية العامري ، الذي عمل في دولة الكويت في تلك الفترة .
وقد اقتصرت فترة عمل الجمري في الكويت على مدة لا تزيد على السنتين إذ لم يستطع الاستمرار فيها أكثر من ذلك ، فقرر الرحيل.
ولا يمكننا الجزم بسبب محدد لرحيله ، إلا أن الروايات تقول سبب رفضه البقاء يعود إلى سوء حالته النفسية نتيجة بعده عن أهله وبلده ، إذ كانت أول تجربة له في العمل خارج دبي ، كما يمكن القول إن طبيعة عمله البعيدة عن التجمعات المدنية كالتي اعتادها في دبي ربما كانت سبباً في ذلك ، وربما كان عمله في مجال البناء ومشاق هذه المهنة سبباً آخر يمكن إضافته للأسباب السابقة التي عجلت بخروجه .
ولهذه الأسباب ، وبرما لغيرها قرر مغادرة الكويت والبحث عن مكان آخر يعمل فيه .
وعندما غادرها خرج منها بقصيدته المشهورة التي يندب فيها حظه ويصف حالة فيقول :
لولي بخت ماسرت لكويت ولابعد غادرت الأوطـان .
أسميـك ياحظـي ترديـت إبعدتني عن ساحل عمـان
إبلا ة ليف القلـب تميـت مستوحش روحي وحيـران
إمن الحسايف قلـت يليـت الهم يسلب حـال الانسـان
إذا ذكرت الولـف ونيـت خرت دموعي فوق الاوجان
من بعد كيف وانس ومبيت ومنادمة مدعوج الاعيـان
اليوم حالـى فـى تشتيـت فى الاحمدى وواره وبرقان
من ذى الحياه أولى ليه ميت من دون خلانـي وندمـان
وقد رد عليه الشاعر ياقوت بن جمعه – الذي كان معه في الكويت حيث لم يعجبه ما قاله الجمري – بقصيدة دالع فيها عن العمل في الكويت ، قال فيها :
.
حـي يمقالـك والتبايـيـت نظـم مفـرد لـي بميـزان
أو عد ما تنعـت مناعيـت شرت يميلي شرع الأسفـان
أو عد مانبت وحصل شيـت من زود مبروكات الألـوان
واجب وافـي يـوم وافيـت كني محصل ملـك نجـران
عساك بالجمـري تعافيـت حتى إتحكى بصدق واذهـان
وإلا فأنـا مانـي إحتديـت ولابفنـي ظالـم إنـسـان
لو مقزر عتـادك وشديـت في دارنا بيصور لك شـان
إمن الفقر أولـى التشتيـت تصبح تقاسي هـم وأحـزان
واليـوم مسعـاك كـديـت وردت دشن غالـي أثمـان
ولافخـر فيـك وتخرفيـت والأكبـر وهيـام طهـيـان
لاتقـول ياحظـي ترديـت إتبع نصيبك ويـن ماكـان
عامت في دكـان وإثريـت وأفلست من كاسات وإمنـان
وأنـا شراتـك كـم مديـت ياما وصلت بيـك واسنـان
ولاشكيت الحال وأفضيـت وأدعي لحصة سبع الأجنـان
لوما الكويت إن كان وليـت في الوصل بايضربيك إعلان
أخطيت يالشاعـر وزليـت إقبض سنادك خـط ربـان
هذا وتـم القـول واكفيـت نهديك يالشاعـر بالإحسـان
صلاة رب العرش والبيـت على النبي الطاهر العدنان .
وما كان الجمري إلا أن دافع عن قصيدته بي قصيدة جديدة قال فيها :
عرضتنـي مـن دون تثبيـت ملـحـظ ومنـطـق لـسـان
وإلا بدرب الحـق مـا جيـت بينـك وبيـن الحـق شتـان
نلـت الأثـم بالعـز سويـت تكفى ولم تغلـب علـى شـان
عاتبتني مـن عتـب لكويـت بدون عرف وغيـر برهـان
عطني على فن المدح صيـت وإلا فأنا مـا شـوف ميـدان
لاكلـت قـوت ولاتعنـيـت أسميك فـي دنيـاك خسـران
عقـب التمـدن والزقـريـت توقـد علـى قـدرك بليحـان
لفـاك عيـد ةمـا تفهـويـت ما حيد حـد عطـاك فنجـان
دبـي فيهـا عشـت وأبهيـت إنته وأنا حتـى هـل الخـان
ماحيدنـي فـي دبـي شليـت يـوادري ومـربـع أمـتـان
مستانس من بيـت لـي بيـت أصبح وأماسي دعج الأعيـان
وأنته جحدت الزين وإنسيـت فضل الملوك للي لهـم شـان
ماتحيد ليـن البـدع زريـت ما بين خـود وروض بستـان
فيهم حسنت الظـن وأعطيـت غيرك يساوي خـري نيطـان
وإن كان عن ديـرة تعزيـت غيرك عليهـا صـار شفقـان
لاتلومني لي قلـت (م)إسليـت حسب الوطن من بعض الإيمان
واشـره عليـه كـان رديـت هـذا وتـم القـول يافـلان.
وغير هذه القصائد لم نجد أو نتوصل إلى قصائد أخرى قالها في أثناء عمله في الكويت لها علاقة بذلك .
المحطة الثانية
بعد مغادرة الجمري الكويت ، عاد إلى دبي ، ثم ذهب إلى السعودية عن طريق البحر مع جمع من أصحابه للبحث من جديد عن عمل له ، وكان ذلك في عام 1952م تقريباً .
وعند وصوله بدأ البحث عن عمل ، وبينما هو كذلك ، إذ شاهد عدداً من كتاب العرائض والشكاوى ، وه أشخاص مهنتهم كتابة طلبات الناس وشكاويهم في عرائض أوراق ترفق معها صورة الشخص صاحب العريضة ، ثم ترفع إلى المسؤولين للنظر فيها .. وفكر الجمري .. لم لا يجرب حظه في هذه المهنة ؟خاصة أنه يقرأ ويكتب ، وفلاً كان للجمري ما فكر فيه ، وتحقق له .
وأصبح شاعرنا كاتباً للعرائض والطلبات ، ثم تنبه بعد ذلك إلى التصوري ، وأهميته ، فقد كانت صورة الشخص صاحب العريضة ضرورية في العريضة ، لذلك سأل نفسه أيضاً : لم لا يتعلم التصوير ؟
توجه الجمري إلى أحد المصورين هناك ، فسأله عن كيفية التصوير ومستلزماته ، ولما عرف منه أراد سافر فوراً إلى البحرين ليتعلم فيها التصوير والتحميض ، ثم عاد منها بآلتي تصوير ، واستأجر محلاً للتصوير في الدمام ، احترف فيه مهنتي التصوير والكتابة ، وكان معه في الدمام صديقه المطرب الإمارتي محمد سهيل الذي كان يملك إلى جواره محل تسجيلات غنائية اسمه (( اسطوانات سهيل )) .
كان الجمري يجلب معدات التصوير من أفلام وأدوات تحميض من منطقة الخبر ، وخلال تردده إلى هناك تعرف إلى شعار منطقة الإحساء اسمه إبراهيم بن دعلوج ، وكان لإبن دعلوج محلاً في الخبر ، يتوقف عند الجمري ليجلس ويستمع منه لقصائد شعراء من شبه الجزيرة العربية .
ووجه الجمري بعد فترة من معرفته بإبن دعلوج قصيدة شكوى له من أبياتها :
منصاك بن دعلوج ياطيب الفال خصة سلامي عد نشر المكاتيب
ولم يرد عليه إبن دعلوج على قصيدة الجمري ، لكنه إرسل له قصيدة خاطبة فيها قائلاً :
بديت بمنزل القـدر ومنزل سورة الفجـر
وبالشفـع وبالوتـر وبالليـل إذ يسـري
أسآله صاحب القدرة إلهي كاشف الضـرِ
يروف بحال من حاله نحيل الهوى مبـري
إلى أن قال :
أنا بشكي على من لي مودٍ دايـمٍ الدهـري
صديقي شَِهم بومحمد نديمي سالمِ الجمري
ورد عليه الجمري بقصيدة بدأها بقوله :
نديبي قرب المبريِ وقرب طرس مع حبري
بخط أبيات الأشعاري سريع ساقهن فكـري
إلى أن يقول :
إبن دعلوج يشكي لـي ويعزي سالم الجمـري
ويشرح صد مضنونـه ويعني العطف والهجري
وهذه القصائد هي التي تم ذكرها وتدوينها مما قاله الجمري في أثناء وجوده في المملكة العربية السعودية ، وإضافة إلى قصيدته التي قالها رثاءً في زوجته التي توفيت في دبي وهو بعيد عنها ، لم نجد أو نتوقف عند أية قصيدة أخرى قالها في أثناء وجود هناك .
وفاة زوجته
من أشد ما قد يواجه المرء وهو بعيد عن أهله ووطنه ، فقدانه لعزيز ينتظر عدوته ، وكان قدر الجمري أن توفيت أولى زوجاته قماشة ، دون أن يكون قريباً منها في ديرة .
ويكفي أن يعلم المرء مدى الحزن الذي أصابه عندما بلغه خبر وفاتها وهو هناك ، حين يقرأ القصيدة التي رثاها بها ، يصف حالته بين اللوعة والحون .. يقول :
لعى الجمري على فرقا ضنينه كما تلعي زليخـة ع الغـلام
ثلاث سنين ماوقـف ونينـه ولازاد البكـا غيـر الهيـام
حبيب الروح ياخلانه وينـه؟ سقاه البين كاسـات الحمـام
وفرق يا مـلا بينـي وبينـه وخلاني كمـا طفـل هيـام
يلومنـي ونفسـي مستهينـة حزين القلب زايد بي غرامي
على من وسدوا راسه يمينـه وأنا ما عاد ودعتـه سلامـي
حبيبي مثل عين الريم عينـه وحبيبي فوق خدينـه وشـام
وحبيبي من حسن لونه وزينه شعاع الخد برق فـي ظـلام
وأنا لجله فوادي حان حينـه وعلى قلبي هوى غيره حرام
وبعث بالقصيدة إلى صديقه حارب حسن في البحرين ، الذي غنى القصيدة ، وكانت أو أغنية يغنيها من كلمات الجمري ، وقد سجلها على أسطوانات بيعت الواحدة منها بعشرة روبيات ، وهو مبلغ كبير تلك الفترة لأسطوانة واحدة .
استمر الجمري بمهنته السابقة منتقلاً في أرجاء المملكة ، فزار الملك عبد العزيز بن سعود مؤسس المملكة العربية السعودية وجلس في ضيافته ثلاثة أيام ، وتنقل أيضاً بين الدوحة والظهران والخبر كثيراً .
وكان للفترة التي قضاها في المملكة أثر كبير في إطلاعه على الأدب والشعر فيها ، خاصة أنه كان يقرأ ويكتب ، فاطلع على شعر عدد كبير من أشهر شعراء تلك الفترة وتأثر بهم ، أمثال : حمد المغلوث ، ومبارك بن حمد العقيلي ومحمد القاضي ومحمد بن لعبون .
حادث الظهران
كعادة المصورين الذي يقومون بالبحث عن مستلزمات مهنتهم واحتياجاتهم كان الجمري يجلب معدات التصوير من أفلام ومواد تحميض من مدينة الخبر في الظهران ، وبينما هو عائد ذات مرة مستقلاً سيارة أجرة ، وقع حادث اصطدام بين سيارة الأجرة التي كان يستقلها وسيارة نقل أخرى ، توفي على أثره ثلاثة أشخاص كانوا يستقلون السيارة معه ، بينما كتب الله له النجاة ، لكنه بقي في غيبوبة من جراء الحادث استمرت أسبوعين كان يعوده خلالها صديقه خليفة بن ماجد بن ثاني الذي كان موجوداً في المملكة العربية السعودية ، وكان يتابع حالته مع الأطباء ، إلى أن استعاد وعيه وعافيته ، وقرر العودة بعدها نهائياً إلى دبي .
لقاء الجمري – بالروغة
كان حادث الظهران وعودة الجمري إلى دبي بعد سنتين قضاها في الكويت ، وثلاثة سنوات في السعودية ، مثابة مرحلة جديدة في حياته .
وقد تعددت الروايات حول الفترة التي قضاها شاعرنا في السعودية ، فبعضهم يقول إنه مكث فيها لسنة واحدة ، وبعضهم ثلاث سنوات ، وبعضهم أرباعاً ، إلا أننا نستطيع الاستدلال والحكم ، قياساً على فترة بقائه في الكويت ثم السعودية وإجمالي المدة التي بقي فيها خارج دبي ، على أن فترة وجوده وعمله في السعودية امتدت إلى ثلاثة السنوات ، وكانت معظم الروايات قد أجمعت على أن المجموع الكلي لفترة بقائه في الخارج خمس سنوات ، وكان قد ذكرنا مسبقاً أن فترة عمله في الكويت لم تزد على السنتين .
وبعد عودته من السعودية لم نس اصطحاب مهنة التصوير معه ، فافتتح له محلاً في سوق السبخة ظل يمارس فيه هذه المهنة ثلاثة سنوات ، ثم ترك التصوير واتجه إلى التجارة ، فسافر إلى الهند ، وتاجر بالذهب والبهارات والأقمشة والعطور متنقلاً بين دبي والهند وساحل عمان .. كما وصل إلى (( سيرلانكا)) وزنجبار واليمن وإيران للغرض ذاته .
وفي بداية الستينات تعرف إلى صاحب أحد محلات التسجيلات الصوتية في دبي ، ويدعى محمد علي العماني صاحب تسجيلات ((هدى فون)) التي كانت من أشهر محلات دبي في تلك الفترة ، وصدرت منها معظم الأشرطة الغنائية التي جمعت لاحقاً بين الجمري وبالروغة ، ومن هذا المحل تحديداً بدأت علاقته بالمطرب الشعبي علي بالروغة الذي يعد أحمد رواد الأغنية الشعبية في الإمارات .
ولم يكن هذا المحل هو الوحيد في دبي حينها ، فقد كان لمحمد بن كدفور المهيري محل تسجيلات في شارع سكة الخيل واسمه ((نهضة الخليج العربي)) وهو من أوائل من استعانت بهم إذاعة صوت الساحل في الشارقة لإمدادها بالأشرطة الغنائية .
وكان إبن كدفور أيضاً مصدر توزيع وإمداد لعدد من محلات التسجيلات ، مثل زينل فون ، كما أيضاً لمحمد بن سهيل المطرب الإماراتي الراحل محل تسجيلات اسمه ((صوت الخليج)) ، افتتحه بعد عودته من السعودية .
يقول محمد بن كدفور التي أسسها مع بداية الخمسينات : إن محله كان مركزاً لتسجيل الأغاني في تلك الفترة ، وكان يقوم بإرسال التسجيلات التي ينتجها محله إلى اليونان عن طريق البريد ، ليتم تسجيلها في اليونان على اسطوانات ، ثم ترسل نسخة منها مرة أخرى إلى المحل لتجربتها والحكم عليها ، ثم إبداء الرأي في طلب كمية معينة من الأسطوانات ، وكانت الكمية تتراوح عادة بين ألفين وثلاثة آلاف أسطوانة ، قيمة الواحدة عشرة ريالات إذا بيعت بالمفرق ، وخمسة ريالات بالجملة .
أما عن قصة التقاء الجمري بعلي بالروغة فيقول الأول : (( كان بالروغة ولداً صغيراً يضرب على العود ولهجته لهجة أهل الجزيرة الحمراء ، وكان ذلك زمان في دبي في محلات هدى فون ، قلت له : هل تحفظ شيئاً من القصيدة ؟ قال : نعم .. أحفظ قصيدة سعودية تقول :
بسري بليل أغماسي قصدي أزور الحبيب
وبعد أن غنى فإذا صوته جميل ، فقلت له أنت ستنجح في الخليج ، لكن عليك باللهجة البدوية ، وأعطيته أشعاري ، وكلما غنى أغنية جاءت أحسن من التي سبقتها )) .
تلك كانت قصة أل لقاء بين الجمري وبالروغة كما رواها على لسانه ، وبعد ه>ا اللقاء بدأت سلسلة من اللقاءات الغنائية بين الاثنين من تاريخ الأغنية الشعبية في الإمارات .
كانت قصيدة (( يا علي اعزف بصوت وغن لي)) هي أول قصيدة تغنى بها علي بالروغة للشاعر الجمري ، وتقول كلماتها :
ياعلي إعزف بصوت وغني لي وأنس فوادي ترانـي مستهـن
كود همي من فـوادي ينجلـي أطرب لصوتك وعزفك والحنين
ياعلي لي من عودك رن لـي قلبي تذكر وهيضـت الكنيـن
بي ولـه حـب خـل عدملـي أدعج العينين وضـاح الجبيـن
على أن هناك روايات مختلفة حول أول أغنية غناها بالروغة ، فالكثير من عشاقه يؤكدون أن أول تعاون بينهما كان في أغنية ((حارب الجمري منامه )) ودليل ذلك قدم تسجيل هذه الأغنية وصوت بالروغة نفسه في الأغنية ال1ي بدا غير متمكن ، مما يؤكد أن هذه الأغنية كانت هي البداية .
وهذه الرواية تحتمل الصحة كثيراً ، ولكن نظراً لعدم وجود تسجيل رسمي يثبت تاريخ هذه الأغنية يبقى البت في دقة التحديد لأول أغنية أمراً صعباً ، أما كلمات أغنية(( حارب الجمري منامه)) فتقول :
حارب الجمري منامه بات يلعـي والندامـه
ويل من قلبـه متيـم بين سلمى مع سلامه
إسلني مـن غواهـن واشذفني في هواهـن
ليت من عايش معاهن في مساحة وفي مدامه
ومن الواضح جداً أن الجمري كتب أبيات هذه القصيدة من أجل غنائها لا أكثر ، وربما كتبها لبالروغة خصوصاً ، وهذه القصيدة ليست الوحيدة التي نظمت لتغنى ، بل هناك الكثير من الأغاني التي كتبها ويغلب عليها الطابع الغنائي ، وهذا ما يثبت لنا أنه نجح في كتابة الأغنية أيضاً ، ومثال ذلك عدد من قصائده في هذا المجل ، مما تغني بالروغة لأبياته التي يقول فيها :
تريد الهوى لك على ماتباه وقلبك تريده يحصل منهـا
وخل توده تريد عطـوف صدوق يعاهدك عهد الوفاه
فلا شفت مغرم فواد مريح ولاريت خود هواها صحيح
فكم من متيم دعنه طريـح جفنه وقالن نحـن مانبـاه
كما يقول في قصيدة أخرى تغنى بها بالروغة :
ليش هـذا التجنـي ؟ليـش بتصـد عنـي؟
ليش تنسى عهـودك ؟ يابوجـديـل مثـنـي
راع العهـود القديمـة واترك أصحاب النميمة
الإنسان يذكـر نديمـه بأيام عصـر التهنـي
ونعود لنقول إن أغنية (( يا علي اعزف بصوت وغن لي)) تبقى الأولى ((رسمياً)) في تاريخ التعاون بين الاثنين ، استناداً إلى لقاء الجمري في جريدة الإتحاد.
وظل بالروغة يغني من كلمات الجمري، وإشتهر الثنائي على نظاق واسع ، حتى إن شهرة الاثنين تعدت الحدود ووصلت على دول الخليج ، يقول الجمري : (( مرة طلبنا خالد فون من قطر أنا وبالروغة ، وطلب منا تسجيل عشرة أغان في جلسة واحدة ، فطلبت منه أن يمهلنا حتى الصباح .. وعملت في تلك الليلة عشر قصائد لم يأخذ تلحينها وغناؤها أكثر من خمس ساعات ، وفي الصباح غنى المطرب بالروغة بهن كلهن)) ومن أسماء القصائد التي تغنى بها في ذلك الشريط :
العصر لاقيت ثنتين ولايف .
يا شعاع يا بدر البدور .
وبلغ مجموع ما تغنى به المطرب على بالروغة له خلال مشواره الغنائي ما يقارب مئة قصيدة ، بينما بلغ مجموع ما تغنى به بالروغة من أغنة خلال مشواره لمختلف الشعراء أكثر من ثلاثمائة وخمسين أغنية .
وعندما سأل المطرب علي بالروغة ذات مرة عن أحب أغانيه إليه أجاب : هناك أغنية أعتز بها كثيراً وهي من كلمات الشاعر الكبير سالم بن محمد الجمري ، تقول كلماتها :
من ضميري دار دولاب المثل شفت ظبي ياملا ماله مثيـل
هوخشف لوسلولعي والا وعلل ودماني فز من عقب المجيل
هو شعاع الشمس لو بدركمل لو ضيا جنديل ومسوى شعيل
ويعد بالروغة هذه الأغنية نقله فنية في مشواره الغنائي
ومن أشهر الأغنيات التي غناها من كلمات الجمري : يا حبيب الروح خبرني ، مشكور راعي الهدية ، ومن ضميري دار دولاب المثل ، هاض مابي والخلايق ذاهلين ، لي زارني عشوية ، ناح الحمام وشجاني ، هاض ما بي تعذابي ، لي حل بي ما حل بإنسان ، هاض ما بي والجفن زاد إحتراق ، ياطير سلم ع الحبيب ، تيمني ياعلي خود لفني ، ياونتي من ليعتي ، اسعفوني قبل لا ولي ، رفرف فوادي على المضنون رف ، من غرامي زايد هيامي ، آه يا من عوق فواده ، إذا هب الصبا مير الشراتي ، انصخي إنته ونظر عيني ، سافرت من بر ديره ، هلا بحبيبي المضنا ، ورق لعي باصواته ، ياطرفة هيجتيني ، ياعلي قوم انتبه عجل قوم ، شط الحشا من شط به ، على حساب سلمى قمت اجر النوح ، ياحياة الروح ياروحي ، هالليالي حل بي حالي ، علي بانوح نوحات الحمايم ، دار دولاب المثايل والشعر،كل ماقلت الهوى عنه يتوب ، يانسيم هب زفزافي ، هب نسناس النسايم ، يقول الشاعر المغرم ، مرحبا بمورد الخد اللبيب ، مرحبا بألفاظ صب مستجير ، حارب الجمري منامه ، يقول الشاعر الجمري معنا ، زرعت الموت واسقيته ، ضناني الحب يالمضنا ، يقول الجمري المعروف ، الألفية ، في شارع العين صادفت الظبا ، عصير الموز في كاسه ، عدي بشوفك من سنيات مضت ، أهلاً وسهلاً وحي ، طال ليلي من جفنا جفني السهر ، حمام يغني على راس فني ، آه ياقلب غدا به من غدا به ، خذت الخبر من عند صوت الساحل ، أيا عذال لوتدرن مابي ، علي ياخوي قلبي لاتلومه ، عذبتني ياوليفي حلو الصبا ، البارحة مازال جفني ياعلي ، على سبحان من صور ، بسك بسك كم بفداك ، آه ياقلب غدوا به هل الفلي ، ياعلي اعزف بصوت وغن لي ، ياطير سلم علي ، الأصحاب والخلان ، هب النسيم اليماني ، يازين صافي النحر ، إذا هبيت ياشرتا المغيبي ، ليش هذا التجني ، مرحبا بالخل بوخد عفر ، يقول الشاعر الجمري مثايل ، علي لو شفت ريم شايفنه ، نادم الدليه الخالي ، يانسيم جدد أحظاني ، البارحة قلت المثل ، هاض الكنين بخافيات انشادي ، حبيبي شافني نوره ، تريد الهوى لك على ماتباه ، مالوم نفسي في الهوى متعللة ، عزي لقلب من تصاوب الولع ، العصر لاقيت ثنتين ولايف ، طال ليلي من تعليلي ، من غرامي زايد هيامي ، مرحبا ثم مرحبا عد النجوم ، تعبنا في هواكم وامتحنا ، رعبوب نوره كما لون القمر وانوره ، مرحبا ثم مرحبا حي بنباك ، شرط المحبة علينا ، ثريا على تب الحشا تبت يدب ، ياطير سلم ((ع)) الحبيب ، هاض مضنون الكنيني ، آه من هجر الحبايب ، قال من قلبه تولع ، زارني غض الصبا سيد الأنام ، في دعايا الشوق تعذيب وملاما ، أعلا بنسيم هب من صوب عربي ، عدي بشوفك من سنيات مضت ، مرحبا ثم مرحبا أهلا وحيا ، يا هلا بروح روحي ، آه من ظبيٍ لقيته ، آه ياقلب تسقى بحسراته .
وبشكل عام فهذا التعاون الكبير الذي نشأ بين الاثنين بهذا الكم الكبير من القصائد المغناة يؤكد الانسجام الواضح بينهما ونجاحهما ثنائياً وهو ما لم يكن للجمري مع مطرب آخر ، أو لبالروغة مع شاعر آخر .
وبالنسبة للجمري فتبدو قوة العلاقة والرابطة بينه وبين بالروغة واضحة عندما نقرأ قصائده التي يخاطبه فيها طالباً منه الغناء أو باثاً شكواه إليه ، ومن هذه القصائد التي يزيد عددها على قوله
يا علي لو شفت ريـم شايفنـه فوق مشـراف زمانـه معتلـي
كان ذبت وزدت فوق النوح ونه واتليت وصرت من عقلك خلي
كما يقول في أخرى :
علي ياخوي لاتعزف تذكرنـي بخلانـي
وقلبي دايم يرجـف وكثر الحب شقانـي
الجمري والأغنية الشعبية
ولم يقتصر الجمري على تعاونه مع المطرب علي بالروغة فقط ، بل كانت له أكثر من تجربة مع أكثر من مطرب ، بالمطرب حارب حسن هو أول من تغنى بقصائده ، وكان تعاونه الأول معه في قصيدته في رثاء زوجته ، وبلغ ما تغنى به حارب حسن من قصائده له ?
تصفّح المقالات
7 thoughts on “~`كتاب : سالم الجمري حياته وقراءة في قصائده`~”
Comment navigation
Comment navigation
Comments are closed.
مشكوورك على المروور
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .