أزمة “وول ستريت”… سقوط لأيديولوجية العولمة
في تصريحاتهما بشأن الانهيار المالي لوول ستريت مؤخراً، وصف المرشح الرئاسي “الديمقراطي” باراك أوباما ما حدث بأنه يعد أكبر أزمة مالية تتعرض لها أميركا منذ “الكساد العظيم”، بينما قال منافسه “الجمهوري” جون ماكين إن الاقتصاد القومي يواجه تهديداً الآن، إلا أنه لا يزال قوياً رغم ذلك. فأيهما أصاب التحليل والوصف يا ترى؟ في رأيي أن توصيف أوباما للأزمة هو الأقرب إلى الصواب. فصحيح أن في أميركا أفضل جامعات العالم، والكثير من المواهب والعقول المبدعة، فضلاً عن تمتعها بقطاع تكنولوجيا متطورة عملاق. إلا أن الأسواق المالية تظل تؤدي دوراً أساسياً في اقتصادها، إذ ساهمت في الأعوام القليلة الماضية بنسبة 30 في المائة من إجمالي الأرباح الاستثمارية. والملاحظ أن الذين يتولون إدارة هذه الأسواق برروا استيلاءهم على الأرباح المذكورة، بحجة مساعدتهم لها في إدارة المخاطر المالية والتخصيص الكفء لرؤوس الأموال. وبفضل هذه المساعدة فإنه يحق لهم الحصول على العائدات المالية الضخمة التي حظوا بها. غير أنه ثبت بطلان هذه العائدات والتبرير الذي استندت إليه. فحقائق الممارسة المالية تؤكد سوء إدارة هؤلاء المسؤولين للأسواق المالية في الواقع. بل إن الأزمة نفسها قد ارتدت إلى نحورهم هم، قبل أن تؤذي بقية القطاعات الاقتصادية الأخرى، بفعل بطء النمو الاقتصادي وتراجعه جراء الانهيار الائتماني الذي شهده نظامنا المالي. وكما نعلم فإنه ليس من اقتصاد قومي حديث، بقادر على العمل والازدهار كما ينبغي بدون قطاع مالي. وهذا ما يدعوني إلى وصف تشخيص باراك أوباما لحاجة قطاعنا المالي الماسة لإعادة الهيكلة بالصحة. وطالما صحت حاجة القطاع المالي إلى الهيكلة، فإن من المنطقي أن تمتد الحاجة نفسها لتشمل اقتصادنا القومي ككل. فهو بحاجة لإعادة الهيكلة أيضاً. وحتى إذا ما تركنا الحديث جانباً عن الأزمة المالية الحالية، ونظرنا إلى أزمة القطاع العقاري وإلى جانبها حجم الديون القومية والفيدرالية، فإننا لا محالة ندرك وجود معضلة اقتصادية عميقة في بلادنا. والشاهد أن معظم النمو الاقتصادي الذي حققناه خلال السنوات الخمس الماضية، كان قوامه الفقاعة العقارية التي انفجرت وافتضح زيفها الآن. غير أن الملاحظ أيضاً أن ثمار ذلك النمو لم يتم اقتسامها على نحو واسع أو عادل في الوقت نفسه. وبهذا أكون قد علقت ضمناً بنفي ما قاله السيناتور المرشح “الجمهوري” جون ماكين في وصفه لدعائم اقتصادنا القومي بالقوة. فهذا الوصف ليس صحيحاً على النحو الذي بيناه آنفاً.
وبعد، فكيف لنا أن نستجيب لأزمة وول ستريت هذه؟ هناك من ينادي بضرورة إعادة تنظيم نظامنا المالي. ومن جانبي أقول إن ذلك لم يعد كافياً، لأن المطلوب عملياً هو إعادة هيكلة شاملة لهذا النظام. يذكر أنه كانت قد توفرت للسيد آلان جرينسبان – الرئيس السابق للبنك الاحتياطي الفيدرالي- وهو نفسه الذي نمت في عهده فقاعة القطاعين العقاري والمالي- أدوات كثيرة ليستخدمها في درء الانفجار الكارثي للفقاعة، إلا أن تلك الأدوات فشلت جميعاً. وكان جرينسبان قد اختير لمنصبه الذكور من قبل الرئيس الأسبق رونالد ريجان، بسبب سلوكياته المناهضة للتنظيم المالي. وكان سلفه السابق، بول فولكر، الذي عرف بقدرته على كبح جماح التضخم والسيطرة عليه، قد أقيل من منصبه في رئاسة البنك، لعدم اقتناع إدارة ريجان بملاءمته لمهمة تحرير الاقتصاد من القيود والنظم التي تحد تحرره. وهكذا حلت باقتصادنا القومي الكارثة، بسبب اختيار الإدارة المذكورة رئيساً للبنك الاحتياطي الفيدرالي- الذي يفترض فيه أن ينظم اقتصادنا ويقيد حركته- لا يؤمن هو نفسه بالنظام ولا بالقيود!
ما أشد حاجتنا اليوم إلى إنشاء لجنة للرقابة على سلامة المنتجات المالية، على غرار تلك اللجان المعنية بالرقابة على سلامة المنتجات والسلع الاستهلاكية.
وعليه فإن الخطوة العلاجية الأولى المطلوبة لمواجهة الأزمة المالية الحالية، هي اختيار قادة سياسيين وصانعي سياسات يؤمنون بالنظام قبل كل شيء. تلي ذلك حاجتنا إلى ابتكار نظام جديد قادر على إدارة التوسع المالي وتوظيف أدوات مالية جديدة لها قدرات أفضل من المؤسسات المصرفية التقليدية القائمة حالياً. فعلى سبيل المثال نحن بحاجة ماسة إلى تنظيم الحوافز المالية، وإلى توزيع العلاوات على عدد من السنوات، وليس على أساس سنوي، لأن هذا السلوك الأخير هو الذي يحفز المدراء التنفيذيين ويشجعهم على المغامرة. إيجازاً يمكننا القول إن نظامنا المالي القائم، دأب على حفز السلوك الإداري السيئ، وها نحن نحصد الثمار المريرة لهذا السلوك الآن.
وبالقدر نفسه فنحن بحاجة ماسة إلى “مطبات اقتصادية” لكبح سرعة النمو الزائدة وإبطائها متى ما كان ذلك ضرورياً. ذلك أن من المعروف تاريخياً أن لكل أزمة مالية ارتباطاتها بالتوسع السريع والمفرط في مجال بعينه من الأصول الاقتصادية. وقد تتعدد هذه المجالات من التكنولوجيا وحتى القطاع العقاري. وفيما لو أقيمت هذه المطبات على طريق النمو الاقتصادي السريع المنفلت، فإنه يصبح ممكناً أن نسيطر على الفقاعات الاقتصادية والحد من تأثيرات انفجارها اللاحق. ما أعنيه هنا تحديداً أن العالم لن يختفي فيما لو حقق قطاعنا العقاري معدل نمو سنويا يقدر بنحو 10 في المائة بدلاً من نمو سنوي جامع سريع يبلغ 25 في المائة. وفوق ذلك كله، فما أشد حاجتنا اليوم إلى إنشاء لجنة للرقابة على سلامة المنتجات المالية، على غرار تلك اللجان المعنية بالرقابة على سلامة المنتجات والسلع الاستهلاكية -لجان حماية المستهلك-. والذي يدعوني إلى التشديد على أهمية إنشاء لجنة كهذه، هو علمي بأن هناك من الممولين، من يعمد إلى ابتكار منتجات وخدمات مالية بعينها، يقصد منها إنشاء المخاطر المالية، بدلاً من درئها وإدارتها كما يزعمون. فمن خلال هذه المخاطر المالية المفتعلة يجني هؤلاء أرباحهم الطائلة على حساب الجمهور والاقتصاد القومي بل العالمي كله!
وعلى رغم شدة إيماني بالشفافية، فإنني أدرك جيداً أن وفرة المعلومات حينما تتجاوز حدها، تتحول إلى أداة تجهيل ونفي للمعلومات نفسها. ولهذا فإن من رأيي الشخصي أّن المنادين بالمزيد من الشفافية وكشف المعلومات، يجهلون المعلومات ووظيفتها التجهيلية الخطيرة.
وختاماً فإن لي كلمة أخيرة حول مدى تأّثير انهيار وول ستريت على الاقتصاد العالمي وفكر العولمة إجمالاً. وألخص كلمتي في القول إن انهيار وول ستريت هو بمثابة انهيار مدو لأيديولوجيي اقتصاد السوق الحرة المتعصبين. وهو انهيار يشبه عندي كثيراً انهيار حائط برلين في العقيدة الشيوعية. والمثير للسخرية أن دعاة اقتصاد السوق الحر أنفسهم، هم من يهرعون إلى الحكومة الفيدرالية اليوم، لتنقذ اقتصادنا القومي- بل الاقتصاد العالمي كله– مما لحق به من دمار أيديولوجية العولمة والخصخصة الاقتصادية!
جوزيف ستجليتز .. حائز على جائزة نوبل للاقتصاد في عام 2001
منقول من جريدة الاتحاد
ينشر بترتيب خاص مع “تريبيون ميديا سيرفيز”
تكمن اهمية هذه المقالة من رجل اقتصادي حائز على جائزة نوبل للاقتصاد في عام 2001
باختصار، سقطت نظريات وأيديولوجيات كثيرة في الأزمة الأخيرة، والرأسمالية أصيبت في مقتل!!!