محمد بن راشد آل مكتوم
إلى والدي وقائدي ومعلمي

ما تصورت نفسي يوماً تنعى سيدي ووالدي ومعلمي وقائدي.ما تصورت نفسي تنعى من ملأها بحضوره الساطع حتى تمازجت به وتماهت فباتت بعضا منه وبات كنهها وصيرورتها.والله لو كان الموت الحق يفتدى لافتديت الشيخ زايد بروحي. ولو كانت السنون تعطى لوهبته سنوات الصبا والشباب وأحلى أيام العمر.

يا الله يا رحيم، نقبل بقضائك وقدرك بنفوس راضية مطمئنة، لكننا محزونون، ففراق حبيبنا الأعز يدمي القلوب.

يا الله يا حكيم، نقبل بحكمك، لكننا مكلومون بمن اصطفيت لوطننا وكتبت قيامه على يديه، فكان الوفي الأمين.

أية كلمات وأية عبارات تكفي للاحاطة بوجعنا وألمنا ومشاعرنا المبعثرة على امتداد عمر عشناه مع زايد وما عرفنا قائدا سواه، ولا معلما في قامته، ولا زعيما بصلابته وحكمته وسعة صدره وعلو همته وكبريائه.

يغيب الشيخ زايد عنا بجسده لكن روحه وذكراه ستبقى أبد الدهر حاضرة تلهمنا وتشد من أزرنا وتدفعنا الى الأمام.

يغيب الجسد ويبقى الشيخ زايد حاضرا في الدولة التي بنى، والشعب الذي كون، والقدوة التي قدم.

يغيب الجسد ويظل الشيخ زايد حاضرا في المصانع والمزارع والحدائق والشواطئ. في خطوات أبنائنا الأولى الى مقاعد الدراسة، وحرم الجامعة، ومواقع العمل، وصفحة كتاب الوطن الأولى، ومطلع النشيد وتحية العلم.

يا صاحب الظل العالي الممتد من سد مأرب الى جنبات المسجد الأقصى وشواطئ النيل ودجلة والى مدارس وجامعات ومساجد ومصانع في أرجاء عالمنا الاسلامي الفسيح.

أينما تلفتنا يا سيدي نرك في مقل شعبك التي زادها الدمع بريقا فكشفت مخزون محبة لا ينتهي، ومعين وفاء لا ينضب.

أينما تلفتنا، نسمع صوتك المحبب للنفس وكلماتك النابضة بروح الحكمة والحب والنصيحة والارشاد والهداية.

بك يا سيدي شمخت نفوسنا، وعلت هممنا، ورفعت الامارات رأسها بين الدول.

كيف لا نشمخ وانت العربي الصافي العروبة، والمسلم الصادق الاسلام، والزعيم الذي ورث المناقب كلها واضاف اليها، والسياسي الذي ربط السياسة بالمباديء والاخلاق وسار بها فكراً وسلوكاً في قومه وامته.

كيف لا نشمخ بك، وانت تسري في كل شيء جميل في حياتنا مسرى الدم في العروق؟

كيف لا نشمخ بك وقد قدت سفينة الوطن وسط بحور متلاطمة وانواء عاصفة، فكانت صلابتك ورؤاك طريق النجاة الى بر الامان؟

تغيب يا والدي عن العيون لكنك حاضر في اكثر زوايا الفؤاد دفئاً وخفقاً وحميمية، سيرة نبيلة تسري في عروق التاريخ والوطن، سيرة أحرفها انجازاتك وخلقك ومواقفك ومناقبك وسجاياك التي عرفها القاصي والداني.

ما أحب الناس عبداً إلا احبه الله.

واشهد انك فزت بحب شعبك وامتك العربية والاسلامية كما لم يفز قائد سواك.

نم يا سيدي قرير العين.

عزاؤنا انك باق فينا وممتد في ابنائك البررة وشعبك المحب.

عزاؤنا في ميراث المروءات الشيخ خليفة واخوانه.

عزاؤنا انك اسست لعطاء يستمر عملاً صالحاً مصداقاً لحديث رسولنا صلى الله عليه وسلم. فعمل ابن آدم ينقطع بموته إلا من ثلاث: الصدقة الجارية، والعلم الذي ينتفع به، والابن الصالح الذي يدعو له، وانت أيها الراحل الكبير أوفيت الثلاث وأكثر.

نعاهدك يا سيدي ان نكون دائماً كما اردتنا، أسرة متماسكة متحابة.

نعطي من دون حدود، وننحاز للحق، نلفظ الظلم، ونسعى في هذه الارض لما فيه خير الوطن والمواطنين، وتقدم الامة ورفعتها.

لله ما اعطى ولله ما اخذ، وكل شيء عنده بأجل مسمى، واننا بقضاء الله راضون، ولما اصابنا محتسبون، ولا نقول إلا ما يرضي الله عز وجل «وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون». صدق الله العظيم

30 thoughts on “كلمات في رثاء الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان

  1. سلام عليك يا زايد

    نعم الموت حق، والنفس المطمئنة ترجع الى ربها راضية مرضية، لكننا ونحن نودع الأب والقائد نشعر بالحزن العميق، واليتم الانساني، فما رحل عنا رائد هذا الوطن إلا وقد طبع حركة المجتمع، ووجدان ابناء ديرتنا، بصفاء قلبه، وصلابة إرادته، وبرؤيته الحكيمة النافذة في إنجاز بناء الدولة الحديثة، وبلورة المواطنة الحقة، بواجباتها وحقوقها، وتشكيل الشخصية الاماراتية، بأصالتها العربية الاسلامية، وهويتها المميزة.

    حزننا كبير وعميق، حينما يغادرنا من لم نعرف غيره، زعيماً وملهماً ومرشداً، وأميناً على أمن المواطن وعيشه ومستقبله، وزارعاً الأمل في نفوس الأبناء، معلماً وحكيماً، في الأزمنة الصعبة، والعواصف المتلاطمة، واللايقين في حدود الجغرافي ومصائد الرجال والشعوب والتاريخ.

    رحل عنا من أدرك أحاسيسنا الشعبية، ولبى احتياجاتنا، ووسع خياراتنا، وكان غزيراً كالبحر في عطائه، وفي مشاعره الأبوية الدافئة نحو أبناء وطنه.

    ما أعظم الخير، الذي خلفه لنا زايد، وما أعلى البناء الذي أنجزه، وما أعظم المسؤوليات الملقاة على أعناقنا لحمل الأمانة، ومواصلة الرسالة، وتعزيز الإنجاز.

    رحل عنا الأب الحنون، صاحب السريرة النقية، والعلانية العربية الصافية والصادقة، والكلمة الطيبة الشجاعة، في أزمنة لا تعرف سوى نصف الكلام ونصف اللسان.

    رحل عنا من تعلمنا منه معاني الانتماء والولاء للوطن والواجب، والشموخ في المواقف، والحساسية المفرطة في حب الخير ومنفعة الناس، ومن غير علو في الأرض ولا فساد.

    هي خسارة كبرى ونحن نودع قائداً فذاً، وحكيماً نادراً، وأباً باراً.

    نودعك يا زايد بالجسد، لكنك ستبقى حاضراً، فكراً ومدرسة وشعلة مضيئة لا ينطفىء عطاؤها، ولا نصحها وعملها الطيب.

    نعم.. يعيد رحيلك الى دار البقاء حياة هذا الشعب من جديد، ويقدم له، حياة اضافية، ولن نفقدك أبداً، لأنك كنت تفيض بالحكمة والعزم والمحبة.

    سلام عليك يا زايد، ووداعاً.

    د. يوسف الحسن

  2. زايد شمعة الإمارات التي انطفأت

    أسدلت دولة الإمارات أمس، الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني ،2004 الستار على مرحلة تاريخية مهمة بوفاة قائدها وباني نهضتها ومؤسسها ووالدها وانطفأت شمعة دولة الإمارات التي زينتها لثلاثة عقود من تاريخها. فقد جاء خبر وفاة صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة، بعد حياة حافلة بالعطاء، ليقع كالصاعقة على أهل الإمارات، هذه الدولة التي لم تعرف زعيما لها منذ تأسيسها غيره. ففقدت الإمارات ليس زعيما وقائدا فقط، بل والدا لكل فرد إماراتي وعربي ومسلم . كانت أيادي زايد البيضاء تصل بالخير والنماء لكل محتاج في أقصى بقاع العالم، لذلك جاء نعي زايد خسارة لكل فرد في البلاد العربية والإسلامية التي عرفت زايد وأحس بها زايد على الرغم من المسافات والأزمان.

    تميز زايد بشخصية ذات “كريزما” تتوفر فقط في العظماء من البشر. فقد استفاد زايد من حياة الصحراء التي أكسبته الحكمة والكرم والشهامة فكانت هذه الصفات رصيدا في شخصية زايد وظفها خير توظيف في خدمة قضايا وطنه وأمته العربية والإسلامية.

    خلال حياته الطويلة الحافلة بالعطاء أعطى زايد الوطن من دون مقابل ليصبح أنموذجاً للعطاء والتضحية في عصر ندر مثله. رفع زايد اسم الإمارات عاليا في المحافل الدولية لتكتسب الإمارات سمعة دولية مميزة على الرغم من تاريخها القصير. عُرفت سياسة زايد الخارجية بالتوازن والحكمة حتى عرف بحكيم العرب. وقد ظهرت حكمة زايد في تعامله مع القضايا العربية والإسلامية وحرصه على إيجاد الحلول الناجعة له مهما تكلف من جهد ووقت. كما تجلت حكمة زايد في الأسلوب الذي اتبعه في التعامل مع الخلافات العربية – العربية والتي كانت في حاجة إلى حكمة وصبر فلم يبخل الشيخ زايد بوقته حتى وهو في أحلك ظروفه الصحية.

    دعا زايد على الدوام العرب إلى نبذ الفرقة والخلاف والابتعاد عن الخصومات السياسية التي تؤدي إلى إشاعة الضعف والتفكك بينهم. لقد كان حلمه، رحمه الله، أن يرى شعبا عربيا واحدا يتباهي به أمام المحافل الدولية ويفتخر به. لذلك كرس حياته لهذا الهدف السامي وحاول جاهدا تحويله إلى واقع.

    كان نجاح زايد على الصعيد المحلي أنموذجاً يحتذى به، فلم تنجح تجربة الإمارات العربية المتحدة لأنها دولة غنية ذات موارد اقتصادية بل نجحت بفضل سواعد رجال كزايد أمنوا بالفكرة الاتحادية وسعوا لأجلها وكرسوا وقتهم وجهدهم لهذا الهدف. فلا غرو أن تصبح تجربة الإمارات بفضل زايد، أنجح أنموذج وحدوي على مستوى الوطن العربي وفي التاريخ العربي المعاصر. آمن زايد بكل القيم السامية والمبادئ الجميلة التي كانت السبب وراء نهضة هذه الدولة وإلى تحولها واحة أمن لكل مواطن ومقيم على أرضها الطيبة. إن فقدان زايد ليس بالأمر الذي يمكن لدولة الإمارات أن تتجاوزه بسهولة . فحب زايد الكامن في الصدور سوف يبقى كالرمز لهذه المرحلة التاريخية، وعفوية زايد وحكمته والمبادئ التي أرساها سوف تكون كالنبراس الذي يضيء لنا الطريق.

    إن حياتنا من دون زايد سوف تكون مرة وقاسية ولكن رضانا بقضاء الله وقدره سوف يكون لنا السلوى.

    رحمك الله يا زايد وأدخلك جنة الرضوان مع الصديقين والشهداء وجعل خلفك خير خلف لخير سلف.

    د. فاطمة الصايغ / أستاذة تاريخ الإمارات

  3. زايد

    سيمر وقت طويل من دون أن نتمكن من تصور فكرة ان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان لم يعد بيننا، رئيساً لدولة الإمارات وزعيماً عربياً وإسلامياً فذاً. لقد اقترن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة وتطورها باسمه وبدوره. لقد أسس هذه الدولة بالتوافق مع اخوانه من حكام الإمارات، وقادها نحو ذرا المجد والعزة والتألق، وأمنّ لأبنائها وبناتها العيش الحر الكريم، وجعل من هذه الدولة الفتية، التي كانت قبل نشوئها إمارات متناثرة تركها الأجنبي في حالٍ من الضعف والتخلف، دولة ذات حضور فعّال على المستويين العربي والاسلامي من خلال المبادرات الكثيرة التي أطلقها رحمه الله والتي كانت محط تقدير وتجاوب انطلاقاً من المكانة الخاصة للشيخ زايد في نفوس الزعماء العرب والمسلمين، حتى أنه عُرف ب “حكيم العرب”، الذي حرص دائماً على وحدة الصف العربي، وفي أصعب الظروف وأحلك اللحظات كانت حكمة زايد تعلو على أصوات الفُرقة وبواعث التمزق، وكانت الأبصار تشرئب نحوه، نحو بصيرته وحكمته وسعة أفقه، هو الذي جعل من دولة الإمارات ساحة للتسامح والأخوة، وكان صوته، صوت الإمارات في المحافل العربية والدولية، صوت الحكمة وصوت الوحدة وصوت الواقعية والبعد عن المحاور والاستقطابات، والحرص على المصلحة العليا للأمة وعلى متانة الجبهة الداخلية العربية في مواجهة العدوان الصهيوني والمكائد الخارجية التي لا تريد الخير لهذه الأمة، موظفاً في ذلك ما تنطوي عليه شخصيته القيادية التي تختزل القيم العربية الأصيلة، والخبرة المديدة التي تكونت من تجربته السياسية التي كانت تجعل لكلمته أبلغ الأثر في نفوس الزعماء الآخرين، وهي تجربة تجسدت في بناء ونهضة أبوظبي وفي تأسيس دولة الإمارات وترسيخ كيانها الاتحادي، ثم في تأسيس مجلس التعاون بين دول الخليج العربية، ثم في تدعيم أواصر العمل العربي المشترك ووحدة الصف الاسلامي.

    كان الشيخ زايد رجل الوحدة، إليه يعود مجد قيام الكيان الاتحادي العربي الوحيد الذي نجحت تجربته واستقرت، فيما كان مصير كل التجارب الوحدوية العربية الأخرى الاخفاق والتعثر. فبفضل ما يتمتع به سموه من روح التسامح وبُعد النظر واحترام خصوصية كل إمارة من إمارات الدولة أمكن للكيان الاتحادي الإماراتي أن يغدو معلماً مضيئاً لفكرة الوحدة العربية النابعة من وجدان الناس والمعبرة عن طموحاتهم وأهدافهم، وليست تلك المفروضة عليهم بقوة الدبابة وغطرسة العسكر، مقدماً بذلك المثل النادر على أن فكرة الوحدة يمكن ان تنجح وتترسخ وتستقر إذا ما وقفت خلفها قيادة حكيمة كتلك التي جسدها الشيخ زايد دون الحاجة إلى الشعارات والادعاءات الكبيرة، إنما بالفعل الدؤوب المثابر بعيداً عن الضجيج.

    ووظف الشيخ زايد النعمة التي حباها الله لدولة الإمارات في بناء هذه الدولة وتوفير الرفاه والعزة والكرامة لأبنائها، وامتدت أياديه البيضاء إلى كل بقعة عربية واسلامية، فما أكثر المدن التي تحمل اسم سموه في أرجاء العالمين العربي والاسلامي، وما أكثر المدارس والمعاهد والسدود والمستشفيات والطرق التي شيدت على نفقته في هذه الأرجاء. لقد تصرف بهذه الثروة بالحكمة المعهودة عنه، وجعل منها ثروة عربية يستفيد منها أبناء العرب.

    أمس ترجل الفارس الكبير الذي طبع بشخصيته مرحلة كاملة من تاريخ الإمارات وتاريخ الخليج والذي كان واحداً من أبرز قادة العالمين العربي والاسلامي، تاركاً خسارة كبيرة لن تعوض، لكن الرجال من قامة ومعدن الشيخ زايد من صناع التاريخ، يظلون في القلوب والأفئدة تاريخاً حاضراً.

    رحمك الله يا زايد وأسكنك جنة الخلد.

    د. حسن مدن

  4. وداعاً أيها الأب

    ماذا نودع فيك أيها الراحل العزيز؟ هل نودع الرئيس أم نودع الزعيم أم نودع القائد، فالرئيس ينوب عنه رئيس، والزعيم يخلفه زعيم، والقائد يأتي من بعده قائد، أما الذي لا ينوب عنه إنسان ولا يخلفه إنسان ولا يأتي من بعده إنسان آخر فهو الأب، وقد كنت أباً لشعبك، فقد وسعه قلبك الكبير، وحبك الأكبر له فبادلك حباً بحب، ووفاءً بوفاء، وولاءً بولاء.

    لقد تفتحتْ أبصارنا ونحن نراك أباً للجميع، قدت شعبك من التمزق إلى الوحدة ومن التخلف إلى التقدم ومن الجهل إلى العلم، حتى أصبحت الإمارات وأبناؤها محط أنظار الآخرين.

    رحلت بنا من واحات العين، تضم ظلال النخيل وأفلاج الماء، وطفت بنا في أرجاء الدنيا، انطلقت من كل بقعة على أرضنا، تنادي بالوحدة والتوحد، معلناً أن لا مكان في هذا العالم للمتفرقين فاستجابت لك القلوب قبل الأيدي، فحمَلتُها إلى آفاق من النهضة المباركة، لقد طفت بنا أرجاء الوطن، من القطارة وغياثي وأبوظبي ودبي، والعوير، والذيد والشارقة والفجيرة، وعجمان وأم القيوين إلى دبا وشعم ورأس الخيمة وزاخر والطويين ومصفوت وقدفع وإلى كل بقعة في أرضنا الطيبة تزرع أملاً وتنبت مستقبلاً، لوّنت أرضنا باللون الأخضر، متحدياً جفاف الصحراء وعطش الماء، سرت وأنت لا تلتفت إلى دعوات المتخاذلين ولا إلى تردد المترددين، تبني وتعمر وتنشر العلم في كل زاوية من بلادنا، فكان ذلك ردك البليغ على الذين شككوا بقوة الاتحاد وبمسيرة النهضة، وها هي بلادنا اليوم قد زُرعت بالمدارس والجامعات، كما زُرعت بالنخيل والأشجار، لقد طفت بنا أرجاء أرضنا وأنت تتحسس حاجات الناس، ومعيشتهم، وكنت تردد: “لا خير في المال إذا لم يُسخر لخدمة الشعب”، فبنيت المساكن وأقمت المستشفيات والعيادات، وأنشأت المشاريع التي توفر للإنسان سعادته، فكان صندوق الزواج ومشروعك لإسكان المواطنين.. ومددت الطرق المستوية تربط الوطن شرقه بغربه، وشماله بجنوبه، حتى أصبح جسداً واحداً لا تقطعه المسافات، ولا يفرقه البعد.

    كنت تبني ذلك كله، وأنت تضم السواعد إلى بعضها وتدعوها لحب الوطن والعمل من أجل تقدمه، وكان الإنسان هو هدفك، أنشأت جيلاً يرى فيك القائد والقدوة، ويرى في الوطن مستقبله، جيلاً ربط الحاضر بالماضي والأصالة بالمعاصرة، فلم يمنعه انتماؤه وأصالته من أن يعب من الحاضر أجوده ومن الماضي أفضله، منشأ جيلاً مؤمناً بربه محباً لوطنه مخلصاً لتراثه ومستفيداً من حاضره، وها هم أبناؤك وبناتك اليوم يرتادون آفاق العلم والمعرفة، ويضيفون إلى ما فعله آباؤهم وأجدادهم رصيداً جيداً من العمل الوطني والخبرة العلمية، وقد كنت أيها الأب العزيز، قائدهم ورائدهم في ذلك، وسيبقون أوفياء لنهجك.

    لقد أسست لنا أيها الأب العزيز، وطناً نفخر به ونعتز بالانتماء إليه، لأنه “دار زايد”، ولم تكتف بذلك فخرجت من وطنك الصغير إلى وطنك الأكبر تجمع الصفوف وتوحد الآراء. وتصلح بين إخوانك وأسندت القول بالعمل، فها هي أياديك البيضاء تبني وتعمر في مواقع كثيرة من وطننا العربي، لا منة وتفضلاً بل قياماً بالواجب الأخوي، وتعبيراً عن حبك لوطنك الكبير وأشقائك العرب، فأحبك العرب حباً خاصاً.. فلا نكاد نلتقي بأحد من أشقائنا في بقاع وطننا العربي الكبير إلا ويحدثنا حديث المحب المخلص، مثمناً جهودك، وأعمالك وحكمتك، فأنت لهم “حكيم العرب”. هكذا التقت آراؤهم على حكمتك والتقت قلوبهم على حبك، فأثمر عطاؤك ثمراً يانعاً فكان إنشاء المؤسسات العربية التي تسعى إلى جمع الصف العربي.

    قدت الاتحاد محلياً، أعلنت في عاصمتنا الحبيبة “أبوظبي” قيام مجلس التعاون الخليجي وكنت أول رئيس لدورته، ليكون نموذجاً للتعاون العربي المثمر. كما امتدت رؤاك وبصيرتك إلى المؤسسات العربية داعماً وموحداً ونابذاً للخلاف والشقاق ومنادياً بأن قوة العرب في وحدتهم، ومن العرب انطلقت بنا إلى العالم، فرفرفت راية الإمارات خفاقة عالية على المنظمات والمؤسسات الدولية تعلن أن هذه الدولة قد وضعت قدماً راسخة بين الأمم.

    ولم تكتف بالمشاركة الرسمية، بل امتدت أيادي الخير لمساعدة المنكوبين والفقراء والمساكين، فكانت مشاريعك لإسعاد البشرية بدءاً من مؤسستك “مؤسسة زايد للأعمال الخيرية والإنسانية” وانتهاءً بآخر قطعة خبز تناولها محتاج أو مكلوم، في البوسنة وبوروندي وبنغلاديش، وفي مواقع كثيرة من العالم، لقد كنت تنظر إلى الإنسان، وحاجته، وكرامته بعيداً عن أسباب التفرق التي تمزق العالم، فالإنسان أكرم مخلوق، أعزه الله وأكرمه فأرسيت باحترامك لإنسانية الإنسان، مبدأ تجاهله الكثيرون، وجعلت من الحكمة مبدأ لا تحيد عنه في الشدة والرخاء، في الغضب والفرح، في الراحة والتعب، فلم تقد شعبك بالظلم والجور، بل بالعدل والإنصاف. ولم تعالج مشاكل الناس بالشدة، بل بالحلم والرفق، فوضعت أسس العلاقة بين الحاكم والمحكوم، علاقة تقوم على الحب والمودة والاحترام، والإنصاف والرفق بالرعية منطلقاً من سماحة دينك الإسلامي القويم الذي كان المصباح المضيء لك ولشعبك في طريق العمل والبناء، فكنت قوي الإيمان به حريصاً على عزته ومنعته، بعيداً عن الغلو أو التطرف، أو الإفراط والتجاهل، بل هو دين الرحمة والعدل والإنصاف مع النفس ومع الآخرين.

    هذه مسيرتنا معك أيها الأب العزيز.

    واليوم وأنت ترحل من دار الفناء إلى دار الخلود، ترحل عنا بجسدك، أما روحك ومبادئك فتبقى معنا، تلهمنا الصبر والسلوان لرحيلك أيها الأب العزيز، وتلهمنا الاستنارة برؤاك كلما اختلطت علينا الرؤى، أو اختلفت بنا الطريق.

    ترحل عنا وقد أسست بناءً عظيماً وقدت شعباً رشيدا وربيت من بعدك رجالاً أوفياء سيكملون المسيرة بعون الله على الخطى التي رسمتها لهم، نودعك مؤمنين بقضاء الله وقدره، ومؤمنين بأن الموت حق على كل مخلوق.

    نودعك وقلوبنا تدمع قبل عيوننا، ولكننا نؤمل برحمة الله ومغفرته، ورفقه من الصالحين وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.

    أيها الأب العزيز سيطول حزننا عليك، لكن ديننا علمنا أن نصبر ونحتسب، ونردد قول ربنا “والذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون”.

    د. سعيد حارب

Comments are closed.