كودراي ·· ساحر الضوء ومرآة الزمن
محمد الحلواجي: في مثل هذه الأيام من شهر مايو من العام 2000 تكون خمس سنوات قد مضت على رحيل المصور البريطاني الكبير رونالد كودراي الذي عاش في منتصف القرن الماضي في المنطقة الواقعة جنوب شرق الجزيرة العربية منذ ما قبل اكتشاف النفط، ليدون سجلا حافلا من المذكرات والصور الفوتوغرافية النادرة التي تعد بمثابة شاهد حي على النهضة الشاملة التي شهدتها دولة الإمارات وامتدت إلى مختلف جوانب الحياة فيها· خاصة وأنه في تلك الأيام لم تكن هناك صحف أو هواتف أو أجهزة تلفزيون·· بينما كان عدد السيارات محدودا جدا، وكانت أقرب مطبعة موجودة في بومباي بالهند·
في هذه الفسحة المتواضعة تقدم ”دنيا الاتحاد” بهذا الملف تحية تقدير لكودراي في ذكرى رحيله الخامسة، وهو أقل ما يمكن أن نقدمه كإعلاميين لرجل أعطى من جهده وسني عمره الكثير الكثير لتأريخ مرحلة مهمة من سجل الدولة المعاصر والتحولات التي شهدتها منطقة الخليج العربي خلال القرن الماضي بالصورة الفوتوغرافية الناطقة بالإبداع والمعبرة بأمانة وصدق وتميز قلّ مثيله، فقد عمل كودراي في وسط ظروف لم تكن خلالها عملية التصوير الفوتوغرافي سهلة على الإطلاق، لا سيّما أن عملية تحميض وطباعة الصور كانت بدائية ومضنية جدا قياسا بتقنيات اليوم، متمنين بأمل كبير على الباحثين والدارسين الجدد من شباب الإمارات والعرب الالتفات إلى الغنى الذي توفره صور كودراي اليوم كمنطلقات اجتماعية وحقول أنثروبولجية خصبة لبحث ودراسة تاريخ الإنسان والمنطقة في تلك الفترة من عمر البلاد، خاصة وأن صور كودراي لم تأخذ حقها من القراءة المتعمقة والتشريح الفني على الصعيد الجمالي البحت في حقل التصوير الفوتوغرافي كفن صار يتمتع بخصوصية واستقلالية في النقد الفني الحديث·
إن كل من ينظر لصور كودراي من أبناء الخليج العربي وليس أبناء دولة الإمارات فحسب لا يستطيع مقاومة ذلك الحنين الجارف تجاه المرحلة التي عاشها الأجداد والآباء، فهذه الصور تعكس ألقاً وجمالاً من نوع خاص على الرغم من مشقة الحياة وصعوبة ظروف العيش في تلك الفترة التي اتسمت بأقصى درجات شح الموارد والإمكانات، لذلك فإن الحنين الخفي يتوجه لبساطة الناس وحسن طويتهم ودماثة أخلاقهم الواضحة بجلاء في بهاء الصور المتشحة بجمالية الأبيض والأسود على وجه الخصوص، حتى لكأنك تشعر بمشاعرهم ذاتها وأنت تنظر إليهم في بعض الصور القليلة التي ظهر فيها كودراي إلى جانبهم وهم ينضحون بالحب والترحيب والتقدير تجاه هذا الانجليزي، فمن الواضح أنهم تعاملوا معه كواحد من أفراد عائلتهم وليس كغريب جاء ليقتحم حياتهم الخاصة في الزمان أو المكان الخطأ، رغم وجود تلك الفوارق الحضارية الاجتماعية والثقافية واللغوية والدينية الكبيرة التي كانت تميز كلا الطرفين آنذاك بصورة أكبر مما هو عليه الحال اليوم، ولكنهم على الرغم من ذلك قبلوا بكودراي بين ظهرانيهم كواحد من أبنائهم، وقبلهم كودراي في حياته الخاصة وكأنهم أقاربه الذين يعيشون في بلاد بعيدة تقع في قارّة أخرى· فإزاء ذلك كله أظهر كودراي وجها إنسانيا عكس صدقا واحتراما في تعامله مع جميع الناس على اختلاف طبقاتهم وبيئاتهم، عندما كان يُجالسُ الشيخ والحاكم والتاجر والبدوي والمزارع والبائع والعامل والطفل بالتقديروالاحترام ورقي المعاملة·
مرايا الوجوه والزمن
عاش رونالد كودراي إذاً في المنطقة الواقعة جنوب شرق الجزيرة العربية قبل سنوات عديدة من الطفرة التي شهدتها الإمارات والمنطقة في أعقاب اكتشاف النفط وبدء تصديره، وتمكّن من التقاط عدد ضخم من الصور الفوتوغرافية النادرة التي تصّور حياة الناس خلال عمله في مجال النفط، فسجّل للتاريخ بعيون هاوٍ مبدع، مرحلة مهمة وثق فيها باقات كبيرة من الصور الأخاذة للعديد من الشخصيات والأفراد في دولة الإمارات العربية المتحدة في منتصف القرن الماضي من الشيوخ والتجار والبدو والبحارة والغواصين والصيادين وسكان الجبال والمزارعين والأطفال والباعة والحرفيين في الأسواق والمناظر الطبيعية والصحراوية والكثير غيرها، ومن المهم أن نتذكر هنا بإمعان مقولة كودراي المؤثرة: ”وجوه الناس أفضل مرآة للمجتمع”· إن أبرز ما تمتاز به صور كودراي هو غناها الكبير الذي تقدم من خلاله رصدا تاريخيا لمرحلة مهمة من تاريخ البلاد سواء عبر صور الشخصيات نفسها أو خلفيات تلك الصور التي تلقي الضوء على البيئة المحلية وتوضح جوانب مختلفة لمعيشة السكان، لتمثل بذلك سجلا تاريخيا مهما لمرحلة لم تتوافر معلومات كافية عنها، بحيث تتيح هذه الصور للمتتبع والباحث والدارس فرصة قيّمة للانتقال عبر الزمن إلى فترة كان فيها نمط الحياة يتسم بقدر كبير من الخصوصية والبساطة في آن معا· ومما لا شك فيه أن كتاب ”وجوه من الإمارات” لكودراي الصادر عن دار ”موتف إيت” والفائز بجائزة أفضل كتاب محلي في معرض الشارقة الدولي للكتاب عام2001م بما يضمه من مجموعات فريدة من الصور يمثل اليوم وثيقة ذات أهمية استثنائية ليس لندرتها فقط، وإنما لأمانتها في رصد حقبة مميزة من فترة تاريخية مهمة في البلاد، حيث تمتاز صور الكتاب بشمولها منطقة جغرافية واسعة تشمل أبوظبي ودبي والشارقة والإمارات الشمالية وصولا إلى سلطنة عُمان· التحميض بماء البحر!!
لقد علَّق كودراي على حبّه للتصوير الفوتوغرافي وعلى هذه المرحلة من حياته تحديدا بقوله: ”مثّل التصوير هوايتي منذ صغري· وقد التقطت الكثير من الصور من خلال إقامتي ورحلاتي في منطقة جنوب شرق الجزيرة العربية، وكانت الأمسيات التي أقضيها لتحميض أفلامي في الغرفة المظلمة التي أقمتها لهذا الغرض في منزلي حافلة بالمتعة، علماً بأنني كنت أغسل الصور السلبية (النيجاتيف) في البحر في اليوم التالي، بينما كنت أسبح”! وقد لجأ كودراي لهذه الطريقة الذكية والمبتكرة التي لم يسبقه إليها أحد نظرا لندرة وجود الماء العذب الذي كان- إلى جانب صعوبة توافره بكميات كافية خلال التنقل والرحلات الصحراوية الطويلة- بحاجة أيضا لتنقية إضافية من أجل التحميض الذي يستلزم ماءً مقطرا خاليا من أيّ شوائب، لذلك وتوفيرا للوقت ابتكر كودراي هذه الطريقة فصار يغسل الصور بعد إخراجها من ماء البحر بالقليل من الماء العذب لإزالة الملح، لكن اضافة لغرق بعض الصور في المياه العميقة كانت المشكلات والعيوب التقنية التي لا يتسع لها هذا المقام للخوض في كل تفاصيلها، تلاحق جودة الصور وتزيد من أرق المصوّر المتحمس الذي كان يجد صعوبة أصلا في العثور على الأفلام الجديدة والمواد الكيماوية اللازمة للتحميض حيث كان يتلقاها عبر الشحن البحري في ظروف غير مواتية لحفظها بشكل جيد وهو الأمر الذي كان يؤثر على جودة ووضوح الصور بالتأكيد، حتى تم حل المشكلة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وصارت أفلام الكوداكروم ترسل لكودراي من أميركا·
استرجاع الذكريات
لعل أكثر ما يثير دهشة وإعجاب المرء هي الكيفية التي استطاع بها كودراي من خلاله حضوره الشاخص والبسيط في ذات الوقت، من القيام بإقناع الكثير من الناس على الوقوف أمام عدسة الكاميرا في ذلك الزمن الذي لم تكن الكاميرا مألوفة فيه على الإطلاق، وأكثر من ذلك تمكنّه وبسهولة مدهشة من التقاط العديد من الصور في أوضاع تبدو فيها شخصيات صوره الفوتوغرافية وهي في أقصى حالات الراحة والاسترخاء، وقد أدهشتني كثيرا إحدى الصور النادرة التي التقطها رونالد للمغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيّب الله ثراه في العام 1953م في وضعية مريحة جدا أثناء مكوثه مع سموه ”رحمه الله” ليومين وليلتين في انتظار عودة الشيخ شخبوط من حفل تتويج الملكة اليزابيث الثانية، وربما تضافرت في صنع تلك الحالة الفريدة قدرة كودراي في الإقناع بجمال وحميمية الكاميرا من جهة، وتواضع الشيخ زايد الجم الذي لم يتميز به حاكم قبله قط من جهة أخرى، حتى أن كودراي قال عنه ”رحمه الله” في أواخر حياته: ” في سياق استرجاع أيام الذكريات، أيام الحرمان والجفاف والفقر وأحيانا الجوع، كان هذا الزعيم يحث الذين يصغون إليه على التعلم من معاناة وصبر أسلافهم الذين تغلبوا على شظف الحياة بقوله ”من يجهل ماضيه، لن يفهم حاضره، ولن يستعد لمواجهة المستقبل” لقد صدرت هذه الكلمات من زعيم ذي أصول قبلية نبيلة، فهم حقيقة المعاناة التي عاشها شعبه في الأيام الخوالي، وعمل بشكل دؤوب على نقله من تلك المرحلة الصعبة إلى مرحلة الازدهار والتطور في عصرنا الحالي”·
التدخين و”العكوس”
كانت ندرة مشاهدة الكاميرا أو التعرّف إليها، أمرا طبيعيا في الماضي في منطقة الجزيرة العربية، فعندما كان يستخدم كودراي كاميرته لتصوير بعض الأشخاص الذين يشاهدونها للمرة الأولى، كان عليه إما أن يستأذن وفق ما تسمح به الظروف من دون التضحية بعفوية الموقف، أو أن يجعل الأشخاص يستمتعون بالحدث عن طريق السماح لهم بالنظر من خلال محدد المنظر بالكاميرا، وهي التجربة التي كانت جديدة ومسلية لمعظم من أتيحت لهم فرصة ممارستها· وكان كودراي يحرص ما أمكن أن يري الصور لمن قام بالتقاط صورهم في وقت لاحق بعد طباعتها، إلا أن أولئك الأشخاص كانوا في الغالب أكثر اهتماما بالحصول على علبة الأفلام الصغيرة من أجل استخدامها لحفظ التبغ المحلي لغلايينهم! ولما كان وجود المزيد من الصور يعني المزيد من توزيع علب الأفلام، فقد غدا التصوير أمرا مألوفا أكثر· وعلى سبيل التشبيه المجازي كان أهل الإمارات يطلقون على الصور اسم ”العكوس” وهي كلمة محلية ملهمة ومبتكرة استخدمها أهل الخليج بصفة عامة في تلك الفترة، وقد أعجب كودراي بهذه الكلمة المشتقة من فعل ”يعكس” من المصدر: انعكاس الذي يعود إلى جوهر الطبيعة الفيزيائية للتصوير الفوتوغرافي في أحد جوانبه· ولطالما اعتبر كودراي نفسه محظوظا لتمكنه من ممارسة هواية التصوير خلال أداء عمله في قطاع النفط· وقد ساعده في ذلك قدرته على التحدث باللغة العربية التي ساهمت في تمكينه من أداء عمله بنجاح كبير· وما من شك اليوم أن ذكراه العطرة ستظل عالقة في القلوب والأذهان لأجيال قادمة ستشعر تجاهه بالامتنان، بفضل الرصيد الكبير من الصور الرائعة التي التقطها للمنطقة، والتي وفرت رصيدا وثائقيا غنيا للعالم العربي·
منقول جريدة الاتحاد
يامحلاه البنت وماشالله على الاناقه الجديمه وسقا الله ايام ليوا القديمه