تظل نظرية ابن خلدون ومقدمته الشهيرة، عن علاقات الفكر بالتحولات الاجتماعية ومنحنيات الصعود والسقوط الحضاري في دوراته العصبية شاهداً على تاريخ العرب، ودليلاً ثابتاً على عجز الثقافة العربية عن الخروج من دوراتها المتكررة، والمتشابهة في تاريخنا الطويل، فطبائع البشر وأحوالهم لا تزال تحمل في مضامينها، القدرة على إعادة إنتاج عوامل السقوط والصعود في تركيباتهم الاجتماعية.
وعلوم الإدارة، في العصر الحديث، من المكونات الأساسية في المجتمع، ومن عوامل النجاح والتنمية و«العمران»، فهي الوسائل التي يدار من خلالها المؤسسات الاجتماعية، سواء منتجة أو غير منتجة، والمؤسسات الاجتماعية تشمل المدرسة والمؤسسة والبنك أو المصنع والهيئة، وغيرها.. ويرتبط غالباً كل فرد عامل في المجتمع بالإدارة أو الإداري الذي المفترض أن يدير عمله اليومي لتحقيق النتائج، ويأتي نقل علوم الإدارة الحديثة إلى المجتمع العربي، كإحدى وسائل مشاريع التنمية الحديثة ومتطلباتها، وقد تواجه أدوات الإدارة الحديثة عوائق وتحديات منها شخصية الفرد وسلوكياته، وبعض تقاليد المجتمع الموروثة.
وأدبيات الإدارة وشروط نجاحها، تقدمها الجامعات المتخصصة والمعاهد الإدارية لمن يرغب في تحسين ثقافته الإدارية، وطرق فن إدارة مؤسسته، والنصائح الادارية بعد ثورة المعلومات، أصبحت في متناول الجميع، فالمناهج المعرفية التي تحدد ملامح الإداري الناجح، الذي يبحث عن إنتاج وإنتاجية ذات جودة عالية متوفرة للجميع، وتؤكد أن أهم عواملها الاهتمام بموظفيه، وتنمية العلاقات الإنسانية والاجتماعية الملائمة لتعزيز ثقافة العمل والإنتاج، فتوفير البيئة المناسبة للإبداع والابتكار وحرية تبادل الرأي أحد مواعظ برامج الإدارة المتقدمة، والتنفيذ الفوري للاقتراحات الإيجابية طريقة مثلى للوصول بالمؤسسة الى مرحلة أكثر تقدماً، وتعزيز الاتصالات المباشرة وإلغاء أشكال الاتصال الأخرى خصوصا الورقية منها إلا للضرورة القصوى.. وسيلة أثبت جدواها في تطبيقات علوم الإدارة..
ولا تخلو برامج تخصصات الإدارة العليا، من شرح صفات الإداري الناجح، المسؤول، والقدوة، والقادر على المشاركة الفعَّالة في ميدان العمل، والاهتمام بالسلوك الايجابي والتركيز على النتائج.. مبادئ يحفظها أغلبهم عن ظهر قلب، ويبرزها أكثرهم في خطبهم، وفي رسائلهم إلى العاملين تحت إدارتهم.
ولكن.. لماذا تختفي تلك الأدوات المعرفية؟، وأين تذهب تلك المثل والمبادئ في العقل الاداري في مجتمعاتنا؟، وما هي المعوقات التي تقف ضد التطبع بأساليب الادارة كما يتعلمها الإنسان في قاعة التعليم، ولماذا أحيانا تصبح الإدارة وسيلة لتبرير الفشل، وإعادة إنتاجه، وأحيانا استثماره لتحقيق مكتسبات «شخصية»..؟ وكيف تبرز اهتمامات الجهاز الإداري بالأساليب على حساب الأهداف، وكيف يغلب الشكل على المضمون بشكل يجمل القبيح ويخفي المشاكل رغم وجودها؟.. فقد تصل أحيانا درجة الاهتمام بالشكل الى التضليل وإخفاء الحقائق.. وكيف أصبح لفظ «المدير» يستعمل كمرادف للسلطة والهيمنة؟ مع أن الإدارة هي «الرعاية» فكلكم راع ومسؤول عن رعيته، كما ورد عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وارتباط مصطلح «مدير» مع كلمة «مسؤول»، قد يعني أن مسؤولاً تعني كما يفهم أنه سوف يسأل عما يقوم به.
أكد ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، على حقيقة ارتباط الفكر بالواقع الاجتماعي (كنماذج إنتاج وعلاقات اجتماعية)، مشيراً إلى أن الحضارة نمط للحياة الاجتماعية يرتكز على العمران، وهي مشتقة من السمة الأساس للوجود البشري، وهو العمران المنطوي على منجزات مادية وروحية تشكل التركيبة الاجتماعية الواحدة ويشترط عناصرها بعضها البعض، ويتحدث ابن خلدون عن الاجتماع الإنساني الذي هو العمران أو (المؤسسة) وما يعرضه لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض.
وبمعان أخرى، تسيطر صفات الإنسان المستمدة من بيئته، ومن أحوال مجتمعه أو «قبيلته»، على قراراته ورؤيته لكيفية إدارة مؤسسته، فالإدارة المتمكنة حسب تلك الأحوال والطبائع الاجتماعية الموروثة، يجب أن تسيطر وأن تفرض قوتها بالغلبة والقهر، وأن يتصرف المدير كمصدر للقوة والسلطة عند معاونيه ومساعديه، أو الخاصة الإدارية من مستشارين ومساعدين إداريين، أو ما يعرف بحواشي القوة، وبالتالي تتحول خبراتهم وجهودهم وأدواتهم الحديثة إلى «مطبخ لمزيد من القوة»، وتدبير السبل التي تمنح المدير مزيداً من القوة والسلطة الإدارية.
وقد تأخذ صفة الشرف الرفيع الذي لا يقبل مناهج النقد خطا دفاعيا ضد منتقديه، ومقيمي أساليبه الإدارية، وقد يشوه الكرم الحاتمي أساسيات العدالة والمساواة المفترض توفرها عند تقييم أداء موظفيه، وربما تحدد العصبية من يحظى بثقته في العمل بجانبه، وقد تكون الأيديولوجية عين الرضا الأهم عند تقييم أو مكافأة موظفيه في مؤسسته التي يرعاها إدارياً، وربما تتشكل في عرف تلك الإدارة، خاصة وعامة، فالخاصة الإدارية تصنع القرارات، وتختص بمعرفة أهدافها الإستراتيجية التي قد تدور في إطار مصلحتها الخاصة.. والعامة تقبل القرارات بدون حق فهم أهدافها أو المشاركة عبر إبداء الرأي حول جدواها.
تختفي كل أساليب الإدارة المكشوفة أو المرئية، حين تتداخل سلبيات الفكر الاجتماعي وعوامل الهدم فيه، مع أساليب الإدارة الحديثة، وتصبح تلك الأساليب المتطورة، أدوات تخدم تغلغل أخلاقيات وطبائع الفكر الاجتماعي فيها، وبالتالي قد تتبدل أساليب الحوافز المادية والمكافآت إلى شعارات «الواجب» والتضحية في سبيل المؤسسة، وقد يبرر اقتصار المكافأة والحوافز على الخاصة، كإستراتيجية للبقاء وكسب الثقة، مما سيؤدي الى صعود ظاهرة التوحش عند غير المستفيدين من عامة الإدارة، وإلى خروج أعداد لمحاولات السيطرة على المنافع باسم الإدارة الحديثة، والمؤكد بعد ذلك أن شعرة معاوية سيقطعها تآكل الثقة بين الرئيس والمرؤوس.
النظرية البيولوجية، وهي احدى نظريات الإدارة الحديثة، تطرح مقولة إن «المؤسسة الإدارية كائن حي بمعنى أنها تولد ثم تنمو ثم تتهاوى ثم تموت»، ويحدد عمرها البيولوجي صفات بيئية، وطفرات إدارية، ومجمل القول إن الهيكل الإداري أو المؤسسة الإدارية وحدة اجتماعية واقتصادية مرتبطة بعوامل من بيئتها، وتتأثر سلبا أو إيجاباً بكل معطيات التطور التكنولوجي والمفاهيم الإدارية الحديثة التي تعتمد في تنفيذ خططها على صفات ومبادئ قد تختلف أحياناً عن مضامين وموروثات الفكر الاجتماعي، وقد يصل ذلك الاختلاف إلى حالة تصادم يؤدي إلى فنائها
تصفّح المقالات
5 thoughts on “( منطق ابن خلدون في علم الاداره )”
Comments are closed.
أتمنى التوفيج لكل أعضاء المنتدى
(خـــــلدون :d)
مشكورين ع المرور اخواني
بالنسبه لابن خلدون لا يخى على احد وان كان هناك تقصير من جهه تعليميه معينه فعدم الاشاره لابن خلدون في تاريخنا العربي يعتبر جهلا متعمدا .
اختي ام عبدالله اشكرك على مداخلتك واحيي فيك ثقافتك العاليه .
عفوا عالمدااااخلة
بس يا خوية غريب داري اذا ما سمعت به في الادارة اكيد سمعت به في علم الاجتماع لانه هو في الاساس مؤرخ ورائد في علم الاجتماع بس كانت له افكاره وخبرته في العلوم السياسية وعلوم الادارة والفلسفة والقضاء لانه العلماء الاوليين مثل ما تعرف الواحد منهم يكون نابغة او متخصص في مجال معين لكنه يلم بعلوم ومجالات اخرى
مب شراتنا احينه تخصص واحد وياالله بالعافية
وعالعموم احييييينه سمعت به واذا على الكليه عشانها ما درستكم عنه فـ الحال واحد حتى في الجامعة يعطونك كتاب ما تروم تشله ومناك الدكتور بيختار المقرر على هواه وبيوزع علينا مذكرات ونص الكتاب حاذفنه
تخصص ادارة أعمال و أول مرة أسمع عن بن خلدون،،،،،،،،
شو السبب؟؟؟
كلية التقنية؟
تسلم على النقل و موضوع ممتع
عبدالرحمن محمد بن خلدون
صاحب فكر ومنطق جميل
خلف ثروة هائلة في شتى المجالات مازلنا ننهل منها حتى الان
وبالفعل الادارة تؤثر وتتأثر بالبيئة فالادارة الناجحة تعد اكبر دليل على تقدم الدول وازدهارها والادارة الفاشلة اكبر دليل على تأخر الدول وتخلفها
تسلم خويه القناص عالاختياااار الرااائع
ولا تحرمنا جديدك