——————————————————————————–
بوكيت رأس مال تايلاند السياحي… وابنها البار
لم يكن يدري الملك التايلاندي راما الثاني الذي يمثل روح أو أحد أرواح المستنير (بوذا), عندما فوّض البرتغاليين عام 1518 بالتنقيب عن النحاس في إحدى الجزر التابعة لمملكته, أنه وضع تايلاند وتحديداً جزيرة بوكيت الغنية بالنحاس على خريطة العالم لاحقاً كإحدى أجمل بقاع الدنيا التي يقصدها السياح على مدار السنة, وهي تمثل نصف مساحة سنغافورة وضعفها من حيث المتعة والمناظر الجميلة, وجزيرة بوكيت يمكن تشبيهها بالابن البار الذي انفصل عن أمه بفعل العوامل الطبيعية قبل 500 عام, ولكن دون أن ينقطع عنها بالسؤال ومد يد العون لها لحظة واحدة بفضل المداخيل التي يدخلها في جيب أمه سنوياً من السياحة والنحاس والمطاط.
حملتنا الطائرة متثاقلة بركابها الثلاثمائة نحو الشرق الأدنى, والذهن مليء بالصور المستنسخة الجامدة من عيون الآخرين عن تايلاند , حتى تراكمت وأصبحت على طرفي نقيض. فريق ينتقدها لأنها غارقة في ابتذالها الحاد, وفريق يمتدحها بسبب انخفاض أسعار بضائعها في كل شيء وأي شيء, فتايلاند تأكل مما تزرع وتلبس مما تحيك, وهي من أشهر مراكز العالم في التقليد والاستنساخ, وما يسمى بحماية الملكية هي النكتة السمجة التي ملوا من سماعها, تردد حاد عايشته قبل الذهاب إليها, وتردد آخر وأنا في الطائرة خشية مما سأراه, ولكن مما هوّن عليّ الأمر هو حكمة صديق قال لي: (الصورة المستنسخة دائماً أضعف من الأصل, اذهب وجرّب فلن تكن أسوأ من غيرها).
هبطت بنا الطائرة في الصباح الباكر بعد سبع ساعات من الطيران واستقبلتنا زخّات المطر الاستوائية بقطراتها الدافئة واللون الأخضر اكتسح كل بقعة في الأرض, الابتسامات العريضة تحيط بنا, وتحية اليد المتلاصقة للأعلى التي تمتاز بها شعوب شرق آسيا تبشّرنا برحلة سعيدة ممتعة, الإجراءات الأمنية كانت (من خيال), ركبنا التاكسي الذي اخترق بنا شوارع العاصمة بانكوك برشاقة متناهية, وبدا واضحاً أن الجسور الثعبانية المعلقة والطرق التي سلكناها كانت حديثة البناء وهو ما ساعد على وصولنا باكراً إلى مقر إقامتنا, وأول ما لفت نظري في تلك الجولة السريعة في تلك العاصمة التي تعاني من التلوّث البيئي الشديد, هو التباين الواضح بين النمط الغربي في البناء المتمثل في ناطحات السحاب المغلفة بالزجاج, والنمط التايلندي الشرقي المتمثل في البيوت والمعابد القديمة, تأتي بعدها الدراجات النارية المنتشرة في كل مكان, وأخيراً تاكسي تايلاند الشهير والمسمى بـ (التك تاك) وهو عبارة عن دراجة نارية ثلاثية العجلات تجر خلفها عربة مقاعد تكفي لثلاثة أشخص فقط ومغطاة من الأعلى.
دخلت الغرفة منهك القوى, ورتّبت حاجياتي على عجالة استعداداً لأخذ قسط من الراحة, فتحت أحد الأدراج أسفل المرآة الرئيسية فوقعت عيناي على كتابين هما الإنجيل وكتاب تعاليم بوذا, وملصق مكتوب عليه باللغة العربية (اتجاه القبلة) , ويالها من مصادفة جمعت أديان ومعتقدات العالم الرئيسية في درج واحد يجمعها التسامح واحترام الإنسان للإنسان.
في المساء, فضلت الذهاب إلى إحدى عجائب الدنيا المنسية (سوق الليل) وهو سوق لا أول له ولا آخر, يبدأ التسوّق فيه بعد التاسعة مساء وينتهي مع تباشير الفجر الأولى, الباعة يأتون في السابعة مساءً وينصبون دكاكينهم على الرصيف الضيق والناس تتجوّل فيما بينها تتأمل وتتفحّص وتشتري, وفي الصباح تختفي كل تلك الدكاكين وكأنها لم تكن موجودة.
كل أنواع البضائع تعرض في سوق الليل: تماثيل بوذا, ساعات رولكس المقلدة, ميداليات, ملابس, أقراص مدمجة منسوخة, مواد إباحية بكل أنواعها حتى البشر, رائحة زيوت القلي التايلاندية النفاذة تزكم أنوف السياح الأجانب غير المعتادين عليها, والمواطنون يأكلون قطع السمك والصراصير بالبقسماط بلذة وانتشاء, ساعات وساعات من السير البطيء بين الباعة وزبائنهم لا تسمع سوى أصوات المساومات و (البات) وهو اسم عملة تايلاند الرسمية, وابتسامات سريعة دلالة الاتفاق وتمام الصفقة, السياح تعلّموا لعبة المساومات سريعاً, وهم كعادتهم مفتونون بسحر الشرق وغرائب أساطيره وكل شيء بالنسبة إليهم يستحق التجربة والتصوير.
سوق الليل فيه بعض القواعد الذهبية لابد من تعلمها وحفظها باستمرار, من أبرزها اشتر ما يعجبك حالاً ولا تفكر بالعودة للمحل نفسه, والثانية لا تدخل زقاقاً ضيقاً ما لم تكن تريد ذلك, والأخيرة لا تعني تحذيراً من التعرض للسرقة أو المضايقة, ولكن غالباً ما يحظى العزّاب بعناية خاصة عند دخولهم أزقة مليئة بمحلات المساج (التدليك) وهي محلات بغاء مستتر في حقيقتها, وهي حرفة ضاربة الجذور في تايلاند وتمتهنها في الغالب فتيات صغيرات في السن وغالباً تحت الثامنة عشرة, تم إرسالهن من القرى والأحياء الفقيرة لجلب المال ومساعدة رب الأسرة.
ويشكّل بغاء القصّر في تايلاند أزمة أخلاقية بالنسبة للدولة حيث يتراوح تعدادهن ما بين 14 و 40 ألفا من أصل 70 إلى 200 ألف يعملن في البغاء, وهو الأمر الذي دعا الحكومة التايلاندية إلى الإعلان على لسان وزير الدولة سومساك تيبسوتين عزمها على وضع حد للسياحة الجنسية وتحرير صناعة السياحة من كل شكل من أشكال استغلال الأطفال, ومن أجل ذلك انطلقت وزارة السياحة التايلاندية في حملة دعائية من أجل سياحة نسائية وعائلية في محاولة للتقليل من أهمية سياحة الرجال والعزّاب.
ولأننا ملتزمون بخط سير واضح في الشوارع الرئيسية خشية (الضياع) واصلنا عملية استكشاف السوق, حتى كدنا ننسى موعد رحلتنا إلى جزيرة بوكيت صباحاً.
لم تستغرق الرحلة الداخلية بين بانكوك وجزيرة بوكيت أكثر من ساعة ونصف الساعة, من خلال نافذة الطائرة حاولت دون جدوى إحصاء الجزر الخضراء التي تحيط ببوكيت, إنها جزر صغيرة بالآلاف بعضها أصغر من قاعة التحرير الرئيسية في مجلة العربي, هبوط الطائرة أراحني من هذا العبث, وأثناء سيري نحو بوابة الخروج, امتلأت جيوبي وجيوب حقيبتي المعلقة على الظهر بعشرات الكتيبات التعريفية الصغيرة, فنادق رحلات بحرية بطول اليوم, تأجير أكواخ تقع على جزر صغيرة مغطاة بأشجار المطاط ومسوّرة بأشجار جوز الهند وغيرها, وغيرها من العروض المغرية.
ربما لأن المطر لم يكن كافياً في العاصمة بانكوك, فقد استقبلتنا أمطار بوكيت بحفاوة غير مسبوقة, ساعة كاملة من المطار الصغير إلى منطقة الفنادق وأنا مبهور بالمناظر الجميلة النضرة الخالية من جمود المدينة وناطحاتها التي أغلقت بوجهنا السماء حتى حجبت عنّا أشعة الشمس والهواء النظيف, حقول الأرز ومسطحات مائية, غابات المطاط تحيط بنا من كل صوب, والشمس من فوقنا تطل علينا خجلة حيناً وأحيانا كثيرة تختبئ وراء الغيوم, وطوال طريقنا الزلق كان يظهر لنا بين الحين والآخر مسجد لسكان بوكيت المسلمين يتبعه بعد قليل معهد للبوذيين, ويبلغ إجمالي تلك الدور العبادية: (38 مسجداً و 29 معبداً تايلاندياً و 16 معبداً صينياً), المطر بدأ يتوقف شيئاً فشيئاً, ومع تزايد حركة الناس والسيارات علمت أننا قد وصلنا إلى شاطئ الباتونغ السياحي.
جزيرة بوكيت غابة استوائية مليئة بأشجار المطاط والمانجو وجوز الهند, والأهم من ذلك هي غنية بمناجم النحاس الذي لا يصدأ, ولا يحتاج إلى جهود خارقة لاستخراجه, ومكانة النحاس في قلوب التايلانديين مثل مكانة النار في قلب الإنسان الأول, هي مصدر دفئه وغذائه وحمايته, وقد استخدموه في صنع أنصال الحراب للصيد, وكالعادة, جرت تلك المناجم النحاسية منذ اكتشافها على تايلاند الغزاة والطامعين, وخصوصاً جيرانهم البورميين الذين حاولوا غزو تايلاند أربع مرات خلال الفترة ما بين عامي (1782و1812) لم يحالفهم الحظ في كل مرة, إما بسبب كتائب المقاومة التايلاندية المستبسلة أو بسبب عدم استقرار الأوضاع الداخلية في بورما نفسها, ولعل المفارقة التاريخية هنا هي أن تايلاند من بين دول المنطقة في الشرق الأدنى التي لم تتعرض للاستعمار الأوربي, مع أن جارتها بورما احتلت من قبل القوات البريطانية عام 1824, وأصبح تعاملها مع تايلاند منذ ذلك الوقت سلمياً في مجال تبادل النحاس!
والنحاس التايلاندي الخام المستخرج من بوكيت نقي بدرجة 70 % إلى 75%, وتلك النسبة لا تفي بالغرض من أجل الحصول على نحاس ممتاز, ولكن مع خلطه كيميائياً ببعض المواد المعدنية الأخرى يكاد يتحوّل إلى ذهب في قيمته وجودته, وجميع الدول الصناعية تستخدمه في صناعة الوصلات الإلكترونية, كما أن أغلب مناجم النحاس تمتلكها أوربا, وبسبـب زيادة الطلب وقلة العاملين في تلك المناجم نزح الآلاف من العمال الصينيين إلى تلك الجزيرة الصغيرة حتى وصل عددهم إلى 25 ألف عامل منتصف القرن التاسع عشر, ويقول أحد المراقبين الإنجليز ويدعى الدكتور ديبي برادلي واصفاً حالة هؤلاء العمال (في موسم المطر يجدون الكثير من العمل, وأما في موسم الجفاف فتبدأ المشاكل والاضطرابات فيما بينهم, ولا يجدون غير القمار والمراهنات وسيلة لكسب الرزق حتى فاقت بوكيت العاصمة بانكوك في حجم المراهنات ولعب القمار).
وصلت إلى الفندق, أخذت مفاتيح غرفتي, دخلت وقذفت بحقيبتي على السرير, أخرجت منها ملابس البحر وخرجت راكضاً نحو البحر والناس متسلحاً بالكاميرا لتسجيل هذه اللحظات النادرة. الجميل في شواطئ جزيرة بوكيت أنها ليست ممتدة وطويلة يصعب حصرها بالعين المجردة, ولكن جميع شواطئها تأخذ شكل الهلال أو حرف (u) وهو ما يعني سباحة ممتعة خالية من أمواج المحيط الهندي العاتية وكلما كثُرت الجزر الصغيرة أمام الشواطئ هدأت المياه وتحسنت حالتها.
ازدادت قناعتي أكثر فأكثر في مسألة خضوع المناطق السياحية لسيطرة عادات وأمزجة الغالبية من روّادها, فمثلاً في دول أمريكا اللاتينية نجد الطراز الأمريكي هو السائد عموماً في منتجعاتها ومحلاتها, الشيء نفسه يحدث في المستعمرات الفرنسية سابقاً, أما في بوكيت فكفّة الميزان تميل نحو الأستراليين أكثر مع حصص متناثرة لليابانيين والألمان والهنود, وهذا ما شاهدته يومياً, فأسماء بعض المحال التجارية تحمل أسماء مناطق مختلفة في تلك الدول لها مفعول السحر في عملية الجذب السياحي, وأغلب المقاهي والبارات تكتظ بالأستراليين عندما يحين موعد عرض مباراة ما في لعبة الرجبي أو مباراة من الدوري الإنجليزي لكرة القدم, ومع تبدّل المواسم تتغير موازين القوى نحو أطراف جديدة, ومع حلول أشهر الصيف تبدأ ملصقات (السلام عليكم), و (حلال) بالانتشار على واجهات المحال وزجاج عربات (التك تك) إيذاناً بوصول السياح العرب.
وتتركز حركة السياحة في جزيرة بوكيت في هلال الباتونغ فقط, كما تنتشر على شاطئ الباتونغ مئات الكراسي المظللة للتأجير, بأسعار زهيدة ولمدد غير محددة, ومرتادو ذلك الشاطئ في الغالب لا يتركونه إلا قبل الغروب بسويعات قليلة, وكل شيء من أدوات الراحة والمتعة متوافر على ذلك الشاطئ, المشروبات الاستوائية الباردة, حصص المساج, البرشوت, الجت سكي, تجديل الشعر على الطريقة الإفريقية لطويلات الشعر الراغبات في التخلص من هم التسريح والتشطيف واقتناص المزيد من ساعات المتعة.
شدّت انتباهي حركة دءوب تحدث يومياً أمام محلات المأكولات البحرية المكشوفة, تبدأ من الساعة الرابعة عصراً ولمدة ثلث ساعة تقريباً, شاحنات صغيرة مملوءة بالثلج المبشور وأخرى بالأسماك تتوقف ويخرج منها العمال دالفين إلى تلك المحال, وسرعان ما يخرجون منها, لحظات قليلة ثم يبدأ بعض العاملين بإحضار الصناديق التي اخترقتها شوارب اللوبستر الطويلة (أم الربيان) مع الأنواع الأخرى, ويقومون برصّها بعناية على قاعدة من الجص على شكل محارة كبيرة لجذب الزبائن, ومن ثم طمرها بكميات هائلة من الثلج المبشور ما عدا أجزاء بسيطة منها, وأخيراً غرس علامة صغيرة بجانب كل نوع مبين عليها النوع وسعر الكيلو… لقد بدأ موعد تناول وجبة الغداء.
عند الغروب, تبدأ حركة التسوّق ويكتظ الشارع بمئات الأجساد المحمرة والمسمرة ذهاباً وجيئة على شارع الباتونغ, على يمينهم الدكاكين والمطاعم والمقاهي وبائعو الأفلام المنسوخة, وعلى يسارهم رمال شاطئ الباتونغ الذي غادروه قبل ساعات قليلة, الموسيقى الحية تصدح بأغنيات (معولمة) وكل طير على أشكاله يقع, الأسترالي نحو الأسترالي والألماني نحو الألماني.
وتنقسم أنواع المحلات في سوق الباتونغ إلى ثلاثة, محلات ثابتة باستمرار, أي مبنية بالإسمنت, محلات مؤقتة مثل الموجودة في سوق الليل, وأخيراً محلات صغيرة متراصّة داخل أزقة متفرّعة من الشارع الرئيسي وجميعها يحرص على وقاية بضاعته من المطر بقطع من الأغطية البلاستيكية الشفافة.
أثناء تجوالي بين الناس والدكاكين المتناثرة, تذكرت رغماً عني حكايات عواجيز الكويت عن الأمان الخرافي الذي كانت تتمتع به أسواق الكويت القديمة, ويومها كان صاحب المحل يكتفي بقطعة قماش لتغطية بضاعته قبل الذهاب إلى المسجد, في أسواق بوكيت رأيت ما سمعته عن أسواق الكويت مع بعض الاختلافات في نوعية البضائع المعروضة والباعة, وبعد العاشرة, كان يمكن الحصول على ما أريد من بضائع بالمجان سبق لي أن ساومت عليها ولم يرقني سعرها.
ومن بين العشرات من الدكاكين التي يبيع أغلبها التحف والتذكارات الجميلة, توقفت عند أحدها قاصداً شراء بعض التحف, بحثت وبحثت حتى وقعت عيناي على تماثيل متشابهة لرجل أصلع بدين مكشوف الكرش وضاحك باستمرار يمسك في يمناه كتاباً, ويتخذ في كل تمثال أوضاعاً مختلفة, بصراحة أعجبني شكله وسألت البائع ويدعى محمد (تايلاندي من أصول هندية) عن سعره, فأجاب هذا (بوذا) هل تريده?, ولكن لكوني أعرف شكل بوذا جيداً, خصوصاً الموجود في الهند ذي الثعابين, سألت محمد ومن يكون هذا? وأشرت إلى الموجود في يدي, قال لي هذا بوذا الصيني!
هنا أدركت أن هذا الموضوع لن ينتهي عند هذا الحد, وبالفعل واصل محمد: (وهذا التايلاندي) و (هذا الهندي) والياباني حتى وصل إلى ستة بوذات موزعة على دول شرق آسيا تشترك بعض الدول في عبادة واحد منهم, مع اتفاق عام على أن الستة كلهم نفس البوذا, اشتريت من كل بوذا واحداً على سبيل البحث والتثبت.
إن بوذا الذي ولد قبل الميلاد بأربعمائة عام في الهند, بالأساس ليس إلها بل كان حكيماً, لا بل إنه أول من تجرّأ وهاجم العقيدة الهندوسية واعتبر الصلاة لآلهتها (حمقا وهراء) لأنها لا تملك القدرة على تغيير أي شيء, وأما المعابد والكهان وكل هالات التقديس لبوذا التي ظهرت بعد وفاته بمئات السنين, فهي متأرجحة ما بين التأليه والتوقير له ولتعاليمه العقلانية, والغريب حقاً هنا هو أن تقام المعابد والتماثيل لمن حاربها !!
إن البقاء في منطقة شاطئ الباتونغ طوال فترة الإقامة في بوكيت, يعني تفويت الكثير من الرحلات التي لا تنسى داخل وحول الجزيرة, وأهمها رحلتان لابد من القيام بهما, جولة الجزيرة بالسيارة ورحلة إلى جــزيرة (في في), وكل واحدة منهما تستغرق يوما بكامله, وفي الصباح حجزت التذاكر واستعدت لأول رحلة وهي انفرادية, فقط أنا والسائق, وتبدأ في اليوم نفسه في الثانية عشرة ظهراً.
من سوء حظي, ظلت الشمس طـوال اليوم, على غير العادة. وصـلنا محطتـنا الأولى وكانت عند محل يؤجر الفيلة في رحلة بين أشجار المطاط, في البداية لم ترق لي فكرة ركوب الفيل خشية ضياع الوقت في رحلة بطيئة ومهزوزة جداً, ولكني تغلبت على ذلك الشعور وخرجت من السيارة وإذا بالشمس تأمرني بالعودة إليها مرة أخرى, وهذا ما قمت به بالفعل, ومن بعيد كان أحد الفيلة, التي كان العمال يرشونها بالماء لتبريدها من حر النهار, ينظر إلي وكأنه ينصحني بالمغادرة.
وبعد مسافة قصيرة, قطعناها لم تتجاوز ثلث الساعة وصلنا إلى غابة المطاط ذات الأشجار الرشيقة والمصفوفة بعناية فائقة, وبجانبها توقفنا لأخذ جولة فيها على الأقدام, وبينما كنا نخترق الطريق الضيق بين الأشجار كان السكان المحليون يمرون بجوارنا على دراجاتهم الهوائية دون اكتراث, ولم تكن جميع أشجار المطاط قد تم استغلالها, ولكن شاهدنا مجموعات مختارة تم نحرها بدقة ووضع وعاء تجميع السائل المطاطي أسفلها, وفي طريق العودة شاهدنا بعض العمال يقومون بعملية تفريغ أوعية السائل المطاطي من هذه الأوعية وتجميعه في برميل صغير, ويوجد في الجزيرة الكثير من غابات المطاط كالتي قمنا بزيارتها.
وأثناء الطريق شاهدت هلالاً شبيهاً بهلال الباتونغ, ولكن دون مبان ومحلات, وهو مليء بالجزر القريبة جداً من الشاطئ, والتي بسببها وجد بعض الناس عملاً في توصيل السياح الراغبين في استكشاف تلك الأراضي بقواربهم الضيقة وبتكلفة زهيدة جداً.
في المحطة التالية, توقفنا عند مكان مرتفع جداً يعرف بنقطة التصوير تم بناؤه خصيصاً لهواة التصوير ورؤية مساحات شاسعة من جزيرة بوكيت من الأعلى, والحقيقة كان مشهد الشواطئ العذراء والأشجار الكثيفة من الأعلى مشهداً لا يُنسى, وعلى الصعيد ذاته, علمنا بأنه توجد نقطة أخرى للتصوير في مكان آخر مخصصة فقط لمشاهدة جمال غروب الشمس في بوكيت.
ومع انكسار حدة أشعة الشمس وانخفاض درجة الحرارة, بدت الفصول الأخيرة من الجولة الاستكشافية لمعالم بوكيت أكثر جاذبية ومتعة, خصوصاً في حديقة الحيوانات الوحيدة في الجزيرة, حيث أبدعت الفيلة المدربة على تسجيل الأهداف في عرض لعبة القدم, في حين كانت القردة المرحة أكثر تجاوباً مع تعليمات مدربها وتصفيق الجمهور الحار لها, وتقدم حديقة بوكيت للحيوانات أنواعاً متعددة من العروض, كما تضم أحواضاً عدة للأسماك وأقفاصاً ضخمة للطيور, وأخيراً والأهم, حديقة مغلقة للفراشات يمكن الدخول لها ومشاهدة الفراشات عن كثب وسط أشجار ونباتات كثيرة, وشلالا صناعيا, وبين كل تلك الحيوانات النادرة قضينا معظم الوقت إلى أن جاء موعد المغادرة نحو مدينة بوكيت الخالية من السياح والفنادق المخصصة لاستقبالهم, ومنها إلى شاطئ الباتونغ حيث مقر إقامتنا.
لم يتبق على جدول رحلاتنا خارج جزيرة بوكيت, سوى الرحلة البحرية إلى جزيرة (في في) وهي من بين جميع الرحلات موجودة ضمن برنامج جميع المكاتب السياحية التي استطلعناها, ويعود سبب شهرة هذه الرحلة إلى أنها تمر بجزيرة قام فيها بطل فيلم تايتانيك (دي كابريو) بتصوير بعض مشاهد فيلمه الأخير على أحد شواطئها, وأما قبل تصوير ذلك الفيلم , فقد كانت الرحلة نمطية ويوجد مثلها الكثير, ولكن من يستطيع اليوم مقاومة سحر أبطال فيلم (تايتانيك) أينما ذهبوا وأينما حلّوا?!
ويبدأ برنامج هذه الرحلة منذ الصباح الباكر, وتقوم حافلة المكتب السياحي بتجميع أعضاء الرحلة من مقار وجودهم وتوصيلهم إلى ميناء بوكيت حيث ينتظرهم هناك قارب سريع يتسع لاثني عشر راكباً غير الطاقم الرباعي, وقبل ركوب القارب يتم تسليم كل فرد عدة غوص مكوّنة من زعانف ونظارة وعود التنفس, انطلق القارب السريع بنا وسط مياه صفراء ممتزجة بالتراب والطين شديدة الضحالة, ثم تغير الوضع شيئاً فشيئاً, ودخلنا في المياه العميقة الزرقاء, وأثناء الطريق, مررنا ببعض القوارب الصغيرة المتجهة نحو المياه الإقليمية لدولة بورما المجاورة, وقد أبلغنا قائد الرحلة أن الصيادين التايلانديين مسموح لهم بالدخول إلى المياه البورمية حيث يكثر هناك اللبوستر, وبعد ساعتين من التجوال بين الجزر الصغيرة المتناثرة, دخلنا بين مجموعة من الجزر المستطيلة والمربعة الشكل كأنها أشبه بالحوائط, وكلما تعمّقنا بالداخل أكثر, ازداد هدوء الماء واختفت عنا أشعة الشمس اللاهبة, وأجمل شيء شاهدته هناك هو الكمية الهائلة من الأسماك الملوّنة التي تستقبل كل قارب زائر بإلحاح شديد وكأنها تعلم أن رزقها مرهون به, وفجأة وجدنا ساحة مائية بها عدة مراكب صغيرة مليئة بالسياح وعشاق الغوص وكل يلقي بنفسه إلى الداخل, قائد مركبنا أعلن أننا وصلنا إلى جزيرة (دي كابريو) وبإمكاننا الآن الغوص والسباحة كيفما نشاء لمدة ساعة كاملة, هكذا فجأة نقوم بالسباحة ألن نرسو على شاطئ (دي كابريو)? الإجابة لا, لأن الزيارة محظورة لذلك الشاطئ, حقيقة كانت أول مرة أسبح فيها من مركب مباشرة إلى الماء.
انتهت الساعة وغادرنا شاطئ (دي كابريو), متجهين إلى جزيرة (في في) المليئة بالمسلمين, بعد أربع ساعات من الهبوط والصعود, ونحن على ظهر القارب السريع, بفعل اشتداد حركة الموج وسرعة القارب الكبيرة وصلنا إلى الجزيرة الهادئة (في في), رمال بيضاء نقية خلفها أشجار جوز الهند, وغابات من أشجار المطاط, الكراسي المظللة بجانب الشاطئ, ووجبة الغداء التي أعدتها أياد مسلمة كانت بانتظارنا, وحقاً كانت وجبة لذيذة وساخنة لن نعاني فيها من روائح الطبخ التايلاندي النفاذة, حتى الأجانب الذين كانوا برفقتنا كانوا في سعادة لأن الوجبة التي تناولوها (طبيعية) إلى حد كبير.
وجزيرة (في في) من الجزر التي يمكن للراغب في اعتزال الناس لفترة أن يمكث بها, وفيها عدة أكواخ صغيرة مجهزة بوسائل العيش المريحة وبأجرة خيالية, والمسافة بينها وبين البحر عدة أمتار لا أكثر, وعملية اكتشاف جزيرة (في في) تمت هذه المرة على أقدام حافية, فأجواؤها العذرية تدفع بالمرء نحو التخلي عن كل أساليب الحياة المدنية ولو للحظات قليلة وهذا ما حاولنا القيام به طوال الساعتين اللتين قضيناهما على أرض تلك الجزيرة الرائعة, وكم حاولنا إقناع قائد الرحلة تأخير موعد الرحيل, ولكن لا حياة لمن تنادي مع مرشد لا يعرف غير لغة نشرة أحوال الطقس.
لعل التاريخ يشهد لتايلاند وشعبها بعشقهم الأسطوري للسلام ونبذ الحروب والنزعات التوسعية, وهو الأمر الذي دفع بامبراطور الصين قبلاي خان إلى إجلاء فئة من شعبه كانت تتمتع بتلك المواصفات, وتلك الفئة التي أبعدت جنوباً هي النواة التي شكّلت لاحقاً تايلاند اليوم, وقد عانت من عمليات النزوح المتكررة جنوباً كلما واجه أفرادها قبيلة متوحشة في طريقهم, حتى وصلوا إلى الشاطئ وهناك استقر بهم المقام حتى تمكنوا من تأسيس مملكتهم القائمة حتى يومنا هذا.
ما دعاني إلى سرد هذه النبذة هو اللعبة العنيفة التي ابتكرها التايلانديون دون سواهم في جنوب شرق آسيا وهي (المصارعة التايلاندية), فالتايلانديون نادراً ما تجدهم يتعاركون أو تتعالى أصواتهم في الشوارع والأسواق حتى يكاد المرء يصدق أنهم خلقوا دون نزعة ما للعنف والانتقام, فكيف إذن هم يخالفون ما اعتادوا عليه منذ مئـات السنين ويخترعون مصارعة لا تكتفي بلكمات اليد فقط وإنما بركلات الأقدام!
ولكن مع حلول ليل الجمعة سرعان ما تتبدد تلك الأوهام ونكتشف مدى عشق وهيام التايلانديين بما يسمى المصارعة التايلاندية, وتقع حلبة (سبان هين) على مقربة من مدينة بوكيت, والذي يصل متأخراً يعود باكراً إلى منزله من شدة الزحام وسخونة المتراهنين.
والعشق التايلاندي للمصارعة لم يتوقف عند حد البشر, بل وصل إلى الديكة التي أقيمت من أجلها حلبات خاصة يحضرها جمهور غفير من أجل التراهن على أقواها, ذلك الجمهور يتابع الصراع الديكي مشدوهاً متأثراً ولا يكاد يرى أصحاب العيون الزرقاء الذين اندسّوا بين صفوفهم, وعموماً التايلنديون لا يزعجون السياح بنظرات الفضول والاستغراب مهما كانت درجة اختلاف ملامحهم عنهم كبيرة.
******** منقول للإستفاده ***********
——————————————————————————–
بوكيت رأس مال تايلاند السياحي… وابنها البار
لم يكن يدري الملك التايلاندي راما الثاني الذي يمثل روح أو أحد أرواح المستنير (بوذا), عندما فوّض البرتغاليين عام 1518 بالتنقيب عن النحاس في إحدى الجزر التابعة لمملكته, أنه وضع تايلاند وتحديداً جزيرة بوكيت الغنية بالنحاس على خريطة العالم لاحقاً كإحدى أجمل بقاع الدنيا التي يقصدها السياح على مدار السنة, وهي تمثل نصف مساحة سنغافورة وضعفها من حيث المتعة والمناظر الجميلة, وجزيرة بوكيت يمكن تشبيهها بالابن البار الذي انفصل عن أمه بفعل العوامل الطبيعية قبل 500 عام, ولكن دون أن ينقطع عنها بالسؤال ومد يد العون لها لحظة واحدة بفضل المداخيل التي يدخلها في جيب أمه سنوياً من السياحة والنحاس والمطاط.
حملتنا الطائرة متثاقلة بركابها الثلاثمائة نحو الشرق الأدنى, والذهن مليء بالصور المستنسخة الجامدة من عيون الآخرين عن تايلاند , حتى تراكمت وأصبحت على طرفي نقيض. فريق ينتقدها لأنها غارقة في ابتذالها الحاد, وفريق يمتدحها بسبب انخفاض أسعار بضائعها في كل شيء وأي شيء, فتايلاند تأكل مما تزرع وتلبس مما تحيك, وهي من أشهر مراكز العالم في التقليد والاستنساخ, وما يسمى بحماية الملكية هي النكتة السمجة التي ملوا من سماعها, تردد حاد عايشته قبل الذهاب إليها, وتردد آخر وأنا في الطائرة خشية مما سأراه, ولكن مما هوّن عليّ الأمر هو حكمة صديق قال لي: (الصورة المستنسخة دائماً أضعف من الأصل, اذهب وجرّب فلن تكن أسوأ من غيرها).
هبطت بنا الطائرة في الصباح الباكر بعد سبع ساعات من الطيران واستقبلتنا زخّات المطر الاستوائية بقطراتها الدافئة واللون الأخضر اكتسح كل بقعة في الأرض, الابتسامات العريضة تحيط بنا, وتحية اليد المتلاصقة للأعلى التي تمتاز بها شعوب شرق آسيا تبشّرنا برحلة سعيدة ممتعة, الإجراءات الأمنية كانت (من خيال), ركبنا التاكسي الذي اخترق بنا شوارع العاصمة بانكوك برشاقة متناهية, وبدا واضحاً أن الجسور الثعبانية المعلقة والطرق التي سلكناها كانت حديثة البناء وهو ما ساعد على وصولنا باكراً إلى مقر إقامتنا, وأول ما لفت نظري في تلك الجولة السريعة في تلك العاصمة التي تعاني من التلوّث البيئي الشديد, هو التباين الواضح بين النمط الغربي في البناء المتمثل في ناطحات السحاب المغلفة بالزجاج, والنمط التايلندي الشرقي المتمثل في البيوت والمعابد القديمة, تأتي بعدها الدراجات النارية المنتشرة في كل مكان, وأخيراً تاكسي تايلاند الشهير والمسمى بـ (التك تاك) وهو عبارة عن دراجة نارية ثلاثية العجلات تجر خلفها عربة مقاعد تكفي لثلاثة أشخص فقط ومغطاة من الأعلى.
دخلت الغرفة منهك القوى, ورتّبت حاجياتي على عجالة استعداداً لأخذ قسط من الراحة, فتحت أحد الأدراج أسفل المرآة الرئيسية فوقعت عيناي على كتابين هما الإنجيل وكتاب تعاليم بوذا, وملصق مكتوب عليه باللغة العربية (اتجاه القبلة) , ويالها من مصادفة جمعت أديان ومعتقدات العالم الرئيسية في درج واحد يجمعها التسامح واحترام الإنسان للإنسان.
في المساء, فضلت الذهاب إلى إحدى عجائب الدنيا المنسية (سوق الليل) وهو سوق لا أول له ولا آخر, يبدأ التسوّق فيه بعد التاسعة مساء وينتهي مع تباشير الفجر الأولى, الباعة يأتون في السابعة مساءً وينصبون دكاكينهم على الرصيف الضيق والناس تتجوّل فيما بينها تتأمل وتتفحّص وتشتري, وفي الصباح تختفي كل تلك الدكاكين وكأنها لم تكن موجودة.
كل أنواع البضائع تعرض في سوق الليل: تماثيل بوذا, ساعات رولكس المقلدة, ميداليات, ملابس, أقراص مدمجة منسوخة, مواد إباحية بكل أنواعها حتى البشر, رائحة زيوت القلي التايلاندية النفاذة تزكم أنوف السياح الأجانب غير المعتادين عليها, والمواطنون يأكلون قطع السمك والصراصير بالبقسماط بلذة وانتشاء, ساعات وساعات من السير البطيء بين الباعة وزبائنهم لا تسمع سوى أصوات المساومات و (البات) وهو اسم عملة تايلاند الرسمية, وابتسامات سريعة دلالة الاتفاق وتمام الصفقة, السياح تعلّموا لعبة المساومات سريعاً, وهم كعادتهم مفتونون بسحر الشرق وغرائب أساطيره وكل شيء بالنسبة إليهم يستحق التجربة والتصوير.
سوق الليل فيه بعض القواعد الذهبية لابد من تعلمها وحفظها باستمرار, من أبرزها اشتر ما يعجبك حالاً ولا تفكر بالعودة للمحل نفسه, والثانية لا تدخل زقاقاً ضيقاً ما لم تكن تريد ذلك, والأخيرة لا تعني تحذيراً من التعرض للسرقة أو المضايقة, ولكن غالباً ما يحظى العزّاب بعناية خاصة عند دخولهم أزقة مليئة بمحلات المساج (التدليك) وهي محلات بغاء مستتر في حقيقتها, وهي حرفة ضاربة الجذور في تايلاند وتمتهنها في الغالب فتيات صغيرات في السن وغالباً تحت الثامنة عشرة, تم إرسالهن من القرى والأحياء الفقيرة لجلب المال ومساعدة رب الأسرة.
ويشكّل بغاء القصّر في تايلاند أزمة أخلاقية بالنسبة للدولة حيث يتراوح تعدادهن ما بين 14 و 40 ألفا من أصل 70 إلى 200 ألف يعملن في البغاء, وهو الأمر الذي دعا الحكومة التايلاندية إلى الإعلان على لسان وزير الدولة سومساك تيبسوتين عزمها على وضع حد للسياحة الجنسية وتحرير صناعة السياحة من كل شكل من أشكال استغلال الأطفال, ومن أجل ذلك انطلقت وزارة السياحة التايلاندية في حملة دعائية من أجل سياحة نسائية وعائلية في محاولة للتقليل من أهمية سياحة الرجال والعزّاب.
ولأننا ملتزمون بخط سير واضح في الشوارع الرئيسية خشية (الضياع) واصلنا عملية استكشاف السوق, حتى كدنا ننسى موعد رحلتنا إلى جزيرة بوكيت صباحاً.
لم تستغرق الرحلة الداخلية بين بانكوك وجزيرة بوكيت أكثر من ساعة ونصف الساعة, من خلال نافذة الطائرة حاولت دون جدوى إحصاء الجزر الخضراء التي تحيط ببوكيت, إنها جزر صغيرة بالآلاف بعضها أصغر من قاعة التحرير الرئيسية في مجلة العربي, هبوط الطائرة أراحني من هذا العبث, وأثناء سيري نحو بوابة الخروج, امتلأت جيوبي وجيوب حقيبتي المعلقة على الظهر بعشرات الكتيبات التعريفية الصغيرة, فنادق رحلات بحرية بطول اليوم, تأجير أكواخ تقع على جزر صغيرة مغطاة بأشجار المطاط ومسوّرة بأشجار جوز الهند وغيرها, وغيرها من العروض المغرية.
ربما لأن المطر لم يكن كافياً في العاصمة بانكوك, فقد استقبلتنا أمطار بوكيت بحفاوة غير مسبوقة, ساعة كاملة من المطار الصغير إلى منطقة الفنادق وأنا مبهور بالمناظر الجميلة النضرة الخالية من جمود المدينة وناطحاتها التي أغلقت بوجهنا السماء حتى حجبت عنّا أشعة الشمس والهواء النظيف, حقول الأرز ومسطحات مائية, غابات المطاط تحيط بنا من كل صوب, والشمس من فوقنا تطل علينا خجلة حيناً وأحيانا كثيرة تختبئ وراء الغيوم, وطوال طريقنا الزلق كان يظهر لنا بين الحين والآخر مسجد لسكان بوكيت المسلمين يتبعه بعد قليل معهد للبوذيين, ويبلغ إجمالي تلك الدور العبادية: (38 مسجداً و 29 معبداً تايلاندياً و 16 معبداً صينياً), المطر بدأ يتوقف شيئاً فشيئاً, ومع تزايد حركة الناس والسيارات علمت أننا قد وصلنا إلى شاطئ الباتونغ السياحي.
جزيرة بوكيت غابة استوائية مليئة بأشجار المطاط والمانجو وجوز الهند, والأهم من ذلك هي غنية بمناجم النحاس الذي لا يصدأ, ولا يحتاج إلى جهود خارقة لاستخراجه, ومكانة النحاس في قلوب التايلانديين مثل مكانة النار في قلب الإنسان الأول, هي مصدر دفئه وغذائه وحمايته, وقد استخدموه في صنع أنصال الحراب للصيد, وكالعادة, جرت تلك المناجم النحاسية منذ اكتشافها على تايلاند الغزاة والطامعين, وخصوصاً جيرانهم البورميين الذين حاولوا غزو تايلاند أربع مرات خلال الفترة ما بين عامي (1782و1812) لم يحالفهم الحظ في كل مرة, إما بسبب كتائب المقاومة التايلاندية المستبسلة أو بسبب عدم استقرار الأوضاع الداخلية في بورما نفسها, ولعل المفارقة التاريخية هنا هي أن تايلاند من بين دول المنطقة في الشرق الأدنى التي لم تتعرض للاستعمار الأوربي, مع أن جارتها بورما احتلت من قبل القوات البريطانية عام 1824, وأصبح تعاملها مع تايلاند منذ ذلك الوقت سلمياً في مجال تبادل النحاس!
والنحاس التايلاندي الخام المستخرج من بوكيت نقي بدرجة 70 % إلى 75%, وتلك النسبة لا تفي بالغرض من أجل الحصول على نحاس ممتاز, ولكن مع خلطه كيميائياً ببعض المواد المعدنية الأخرى يكاد يتحوّل إلى ذهب في قيمته وجودته, وجميع الدول الصناعية تستخدمه في صناعة الوصلات الإلكترونية, كما أن أغلب مناجم النحاس تمتلكها أوربا, وبسبـب زيادة الطلب وقلة العاملين في تلك المناجم نزح الآلاف من العمال الصينيين إلى تلك الجزيرة الصغيرة حتى وصل عددهم إلى 25 ألف عامل منتصف القرن التاسع عشر, ويقول أحد المراقبين الإنجليز ويدعى الدكتور ديبي برادلي واصفاً حالة هؤلاء العمال (في موسم المطر يجدون الكثير من العمل, وأما في موسم الجفاف فتبدأ المشاكل والاضطرابات فيما بينهم, ولا يجدون غير القمار والمراهنات وسيلة لكسب الرزق حتى فاقت بوكيت العاصمة بانكوك في حجم المراهنات ولعب القمار).
وصلت إلى الفندق, أخذت مفاتيح غرفتي, دخلت وقذفت بحقيبتي على السرير, أخرجت منها ملابس البحر وخرجت راكضاً نحو البحر والناس متسلحاً بالكاميرا لتسجيل هذه اللحظات النادرة. الجميل في شواطئ جزيرة بوكيت أنها ليست ممتدة وطويلة يصعب حصرها بالعين المجردة, ولكن جميع شواطئها تأخذ شكل الهلال أو حرف (u) وهو ما يعني سباحة ممتعة خالية من أمواج المحيط الهندي العاتية وكلما كثُرت الجزر الصغيرة أمام الشواطئ هدأت المياه وتحسنت حالتها.
ازدادت قناعتي أكثر فأكثر في مسألة خضوع المناطق السياحية لسيطرة عادات وأمزجة الغالبية من روّادها, فمثلاً في دول أمريكا اللاتينية نجد الطراز الأمريكي هو السائد عموماً في منتجعاتها ومحلاتها, الشيء نفسه يحدث في المستعمرات الفرنسية سابقاً, أما في بوكيت فكفّة الميزان تميل نحو الأستراليين أكثر مع حصص متناثرة لليابانيين والألمان والهنود, وهذا ما شاهدته يومياً, فأسماء بعض المحال التجارية تحمل أسماء مناطق مختلفة في تلك الدول لها مفعول السحر في عملية الجذب السياحي, وأغلب المقاهي والبارات تكتظ بالأستراليين عندما يحين موعد عرض مباراة ما في لعبة الرجبي أو مباراة من الدوري الإنجليزي لكرة القدم, ومع تبدّل المواسم تتغير موازين القوى نحو أطراف جديدة, ومع حلول أشهر الصيف تبدأ ملصقات (السلام عليكم), و (حلال) بالانتشار على واجهات المحال وزجاج عربات (التك تك) إيذاناً بوصول السياح العرب.
وتتركز حركة السياحة في جزيرة بوكيت في هلال الباتونغ فقط, كما تنتشر على شاطئ الباتونغ مئات الكراسي المظللة للتأجير, بأسعار زهيدة ولمدد غير محددة, ومرتادو ذلك الشاطئ في الغالب لا يتركونه إلا قبل الغروب بسويعات قليلة, وكل شيء من أدوات الراحة والمتعة متوافر على ذلك الشاطئ, المشروبات الاستوائية الباردة, حصص المساج, البرشوت, الجت سكي, تجديل الشعر على الطريقة الإفريقية لطويلات الشعر الراغبات في التخلص من هم التسريح والتشطيف واقتناص المزيد من ساعات المتعة.
شدّت انتباهي حركة دءوب تحدث يومياً أمام محلات المأكولات البحرية المكشوفة, تبدأ من الساعة الرابعة عصراً ولمدة ثلث ساعة تقريباً, شاحنات صغيرة مملوءة بالثلج المبشور وأخرى بالأسماك تتوقف ويخرج منها العمال دالفين إلى تلك المحال, وسرعان ما يخرجون منها, لحظات قليلة ثم يبدأ بعض العاملين بإحضار الصناديق التي اخترقتها شوارب اللوبستر الطويلة (أم الربيان) مع الأنواع الأخرى, ويقومون برصّها بعناية على قاعدة من الجص على شكل محارة كبيرة لجذب الزبائن, ومن ثم طمرها بكميات هائلة من الثلج المبشور ما عدا أجزاء بسيطة منها, وأخيراً غرس علامة صغيرة بجانب كل نوع مبين عليها النوع وسعر الكيلو… لقد بدأ موعد تناول وجبة الغداء.
عند الغروب, تبدأ حركة التسوّق ويكتظ الشارع بمئات الأجساد المحمرة والمسمرة ذهاباً وجيئة على شارع الباتونغ, على يمينهم الدكاكين والمطاعم والمقاهي وبائعو الأفلام المنسوخة, وعلى يسارهم رمال شاطئ الباتونغ الذي غادروه قبل ساعات قليلة, الموسيقى الحية تصدح بأغنيات (معولمة) وكل طير على أشكاله يقع, الأسترالي نحو الأسترالي والألماني نحو الألماني.
وتنقسم أنواع المحلات في سوق الباتونغ إلى ثلاثة, محلات ثابتة باستمرار, أي مبنية بالإسمنت, محلات مؤقتة مثل الموجودة في سوق الليل, وأخيراً محلات صغيرة متراصّة داخل أزقة متفرّعة من الشارع الرئيسي وجميعها يحرص على وقاية بضاعته من المطر بقطع من الأغطية البلاستيكية الشفافة.
أثناء تجوالي بين الناس والدكاكين المتناثرة, تذكرت رغماً عني حكايات عواجيز الكويت عن الأمان الخرافي الذي كانت تتمتع به أسواق الكويت القديمة, ويومها كان صاحب المحل يكتفي بقطعة قماش لتغطية بضاعته قبل الذهاب إلى المسجد, في أسواق بوكيت رأيت ما سمعته عن أسواق الكويت مع بعض الاختلافات في نوعية البضائع المعروضة والباعة, وبعد العاشرة, كان يمكن الحصول على ما أريد من بضائع بالمجان سبق لي أن ساومت عليها ولم يرقني سعرها.
ومن بين العشرات من الدكاكين التي يبيع أغلبها التحف والتذكارات الجميلة, توقفت عند أحدها قاصداً شراء بعض التحف, بحثت وبحثت حتى وقعت عيناي على تماثيل متشابهة لرجل أصلع بدين مكشوف الكرش وضاحك باستمرار يمسك في يمناه كتاباً, ويتخذ في كل تمثال أوضاعاً مختلفة, بصراحة أعجبني شكله وسألت البائع ويدعى محمد (تايلاندي من أصول هندية) عن سعره, فأجاب هذا (بوذا) هل تريده?, ولكن لكوني أعرف شكل بوذا جيداً, خصوصاً الموجود في الهند ذي الثعابين, سألت محمد ومن يكون هذا? وأشرت إلى الموجود في يدي, قال لي هذا بوذا الصيني!
هنا أدركت أن هذا الموضوع لن ينتهي عند هذا الحد, وبالفعل واصل محمد: (وهذا التايلاندي) و (هذا الهندي) والياباني حتى وصل إلى ستة بوذات موزعة على دول شرق آسيا تشترك بعض الدول في عبادة واحد منهم, مع اتفاق عام على أن الستة كلهم نفس البوذا, اشتريت من كل بوذا واحداً على سبيل البحث والتثبت.
إن بوذا الذي ولد قبل الميلاد بأربعمائة عام في الهند, بالأساس ليس إلها بل كان حكيماً, لا بل إنه أول من تجرّأ وهاجم العقيدة الهندوسية واعتبر الصلاة لآلهتها (حمقا وهراء) لأنها لا تملك القدرة على تغيير أي شيء, وأما المعابد والكهان وكل هالات التقديس لبوذا التي ظهرت بعد وفاته بمئات السنين, فهي متأرجحة ما بين التأليه والتوقير له ولتعاليمه العقلانية, والغريب حقاً هنا هو أن تقام المعابد والتماثيل لمن حاربها !!
إن البقاء في منطقة شاطئ الباتونغ طوال فترة الإقامة في بوكيت, يعني تفويت الكثير من الرحلات التي لا تنسى داخل وحول الجزيرة, وأهمها رحلتان لابد من القيام بهما, جولة الجزيرة بالسيارة ورحلة إلى جــزيرة (في في), وكل واحدة منهما تستغرق يوما بكامله, وفي الصباح حجزت التذاكر واستعدت لأول رحلة وهي انفرادية, فقط أنا والسائق, وتبدأ في اليوم نفسه في الثانية عشرة ظهراً.
من سوء حظي, ظلت الشمس طـوال اليوم, على غير العادة. وصـلنا محطتـنا الأولى وكانت عند محل يؤجر الفيلة في رحلة بين أشجار المطاط, في البداية لم ترق لي فكرة ركوب الفيل خشية ضياع الوقت في رحلة بطيئة ومهزوزة جداً, ولكني تغلبت على ذلك الشعور وخرجت من السيارة وإذا بالشمس تأمرني بالعودة إليها مرة أخرى, وهذا ما قمت به بالفعل, ومن بعيد كان أحد الفيلة, التي كان العمال يرشونها بالماء لتبريدها من حر النهار, ينظر إلي وكأنه ينصحني بالمغادرة.
وبعد مسافة قصيرة, قطعناها لم تتجاوز ثلث الساعة وصلنا إلى غابة المطاط ذات الأشجار الرشيقة والمصفوفة بعناية فائقة, وبجانبها توقفنا لأخذ جولة فيها على الأقدام, وبينما كنا نخترق الطريق الضيق بين الأشجار كان السكان المحليون يمرون بجوارنا على دراجاتهم الهوائية دون اكتراث, ولم تكن جميع أشجار المطاط قد تم استغلالها, ولكن شاهدنا مجموعات مختارة تم نحرها بدقة ووضع وعاء تجميع السائل المطاطي أسفلها, وفي طريق العودة شاهدنا بعض العمال يقومون بعملية تفريغ أوعية السائل المطاطي من هذه الأوعية وتجميعه في برميل صغير, ويوجد في الجزيرة الكثير من غابات المطاط كالتي قمنا بزيارتها.
وأثناء الطريق شاهدت هلالاً شبيهاً بهلال الباتونغ, ولكن دون مبان ومحلات, وهو مليء بالجزر القريبة جداً من الشاطئ, والتي بسببها وجد بعض الناس عملاً في توصيل السياح الراغبين في استكشاف تلك الأراضي بقواربهم الضيقة وبتكلفة زهيدة جداً.
في المحطة التالية, توقفنا عند مكان مرتفع جداً يعرف بنقطة التصوير تم بناؤه خصيصاً لهواة التصوير ورؤية مساحات شاسعة من جزيرة بوكيت من الأعلى, والحقيقة كان مشهد الشواطئ العذراء والأشجار الكثيفة من الأعلى مشهداً لا يُنسى, وعلى الصعيد ذاته, علمنا بأنه توجد نقطة أخرى للتصوير في مكان آخر مخصصة فقط لمشاهدة جمال غروب الشمس في بوكيت.
ومع انكسار حدة أشعة الشمس وانخفاض درجة الحرارة, بدت الفصول الأخيرة من الجولة الاستكشافية لمعالم بوكيت أكثر جاذبية ومتعة, خصوصاً في حديقة الحيوانات الوحيدة في الجزيرة, حيث أبدعت الفيلة المدربة على تسجيل الأهداف في عرض لعبة القدم, في حين كانت القردة المرحة أكثر تجاوباً مع تعليمات مدربها وتصفيق الجمهور الحار لها, وتقدم حديقة بوكيت للحيوانات أنواعاً متعددة من العروض, كما تضم أحواضاً عدة للأسماك وأقفاصاً ضخمة للطيور, وأخيراً والأهم, حديقة مغلقة للفراشات يمكن الدخول لها ومشاهدة الفراشات عن كثب وسط أشجار ونباتات كثيرة, وشلالا صناعيا, وبين كل تلك الحيوانات النادرة قضينا معظم الوقت إلى أن جاء موعد المغادرة نحو مدينة بوكيت الخالية من السياح والفنادق المخصصة لاستقبالهم, ومنها إلى شاطئ الباتونغ حيث مقر إقامتنا.
لم يتبق على جدول رحلاتنا خارج جزيرة بوكيت, سوى الرحلة البحرية إلى جزيرة (في في) وهي من بين جميع الرحلات موجودة ضمن برنامج جميع المكاتب السياحية التي استطلعناها, ويعود سبب شهرة هذه الرحلة إلى أنها تمر بجزيرة قام فيها بطل فيلم تايتانيك (دي كابريو) بتصوير بعض مشاهد فيلمه الأخير على أحد شواطئها, وأما قبل تصوير ذلك الفيلم , فقد كانت الرحلة نمطية ويوجد مثلها الكثير, ولكن من يستطيع اليوم مقاومة سحر أبطال فيلم (تايتانيك) أينما ذهبوا وأينما حلّوا?!
ويبدأ برنامج هذه الرحلة منذ الصباح الباكر, وتقوم حافلة المكتب السياحي بتجميع أعضاء الرحلة من مقار وجودهم وتوصيلهم إلى ميناء بوكيت حيث ينتظرهم هناك قارب سريع يتسع لاثني عشر راكباً غير الطاقم الرباعي, وقبل ركوب القارب يتم تسليم كل فرد عدة غوص مكوّنة من زعانف ونظارة وعود التنفس, انطلق القارب السريع بنا وسط مياه صفراء ممتزجة بالتراب والطين شديدة الضحالة, ثم تغير الوضع شيئاً فشيئاً, ودخلنا في المياه العميقة الزرقاء, وأثناء الطريق, مررنا ببعض القوارب الصغيرة المتجهة نحو المياه الإقليمية لدولة بورما المجاورة, وقد أبلغنا قائد الرحلة أن الصيادين التايلانديين مسموح لهم بالدخول إلى المياه البورمية حيث يكثر هناك اللبوستر, وبعد ساعتين من التجوال بين الجزر الصغيرة المتناثرة, دخلنا بين مجموعة من الجزر المستطيلة والمربعة الشكل كأنها أشبه بالحوائط, وكلما تعمّقنا بالداخل أكثر, ازداد هدوء الماء واختفت عنا أشعة الشمس اللاهبة, وأجمل شيء شاهدته هناك هو الكمية الهائلة من الأسماك الملوّنة التي تستقبل كل قارب زائر بإلحاح شديد وكأنها تعلم أن رزقها مرهون به, وفجأة وجدنا ساحة مائية بها عدة مراكب صغيرة مليئة بالسياح وعشاق الغوص وكل يلقي بنفسه إلى الداخل, قائد مركبنا أعلن أننا وصلنا إلى جزيرة (دي كابريو) وبإمكاننا الآن الغوص والسباحة كيفما نشاء لمدة ساعة كاملة, هكذا فجأة نقوم بالسباحة ألن نرسو على شاطئ (دي كابريو)? الإجابة لا, لأن الزيارة محظورة لذلك الشاطئ, حقيقة كانت أول مرة أسبح فيها من مركب مباشرة إلى الماء.
انتهت الساعة وغادرنا شاطئ (دي كابريو), متجهين إلى جزيرة (في في) المليئة بالمسلمين, بعد أربع ساعات من الهبوط والصعود, ونحن على ظهر القارب السريع, بفعل اشتداد حركة الموج وسرعة القارب الكبيرة وصلنا إلى الجزيرة الهادئة (في في), رمال بيضاء نقية خلفها أشجار جوز الهند, وغابات من أشجار المطاط, الكراسي المظللة بجانب الشاطئ, ووجبة الغداء التي أعدتها أياد مسلمة كانت بانتظارنا, وحقاً كانت وجبة لذيذة وساخنة لن نعاني فيها من روائح الطبخ التايلاندي النفاذة, حتى الأجانب الذين كانوا برفقتنا كانوا في سعادة لأن الوجبة التي تناولوها (طبيعية) إلى حد كبير.
وجزيرة (في في) من الجزر التي يمكن للراغب في اعتزال الناس لفترة أن يمكث بها, وفيها عدة أكواخ صغيرة مجهزة بوسائل العيش المريحة وبأجرة خيالية, والمسافة بينها وبين البحر عدة أمتار لا أكثر, وعملية اكتشاف جزيرة (في في) تمت هذه المرة على أقدام حافية, فأجواؤها العذرية تدفع بالمرء نحو التخلي عن كل أساليب الحياة المدنية ولو للحظات قليلة وهذا ما حاولنا القيام به طوال الساعتين اللتين قضيناهما على أرض تلك الجزيرة الرائعة, وكم حاولنا إقناع قائد الرحلة تأخير موعد الرحيل, ولكن لا حياة لمن تنادي مع مرشد لا يعرف غير لغة نشرة أحوال الطقس.
لعل التاريخ يشهد لتايلاند وشعبها بعشقهم الأسطوري للسلام ونبذ الحروب والنزعات التوسعية, وهو الأمر الذي دفع بامبراطور الصين قبلاي خان إلى إجلاء فئة من شعبه كانت تتمتع بتلك المواصفات, وتلك الفئة التي أبعدت جنوباً هي النواة التي شكّلت لاحقاً تايلاند اليوم, وقد عانت من عمليات النزوح المتكررة جنوباً كلما واجه أفرادها قبيلة متوحشة في طريقهم, حتى وصلوا إلى الشاطئ وهناك استقر بهم المقام حتى تمكنوا من تأسيس مملكتهم القائمة حتى يومنا هذا.
ما دعاني إلى سرد هذه النبذة هو اللعبة العنيفة التي ابتكرها التايلانديون دون سواهم في جنوب شرق آسيا وهي (المصارعة التايلاندية), فالتايلانديون نادراً ما تجدهم يتعاركون أو تتعالى أصواتهم في الشوارع والأسواق حتى يكاد المرء يصدق أنهم خلقوا دون نزعة ما للعنف والانتقام, فكيف إذن هم يخالفون ما اعتادوا عليه منذ مئـات السنين ويخترعون مصارعة لا تكتفي بلكمات اليد فقط وإنما بركلات الأقدام!
ولكن مع حلول ليل الجمعة سرعان ما تتبدد تلك الأوهام ونكتشف مدى عشق وهيام التايلانديين بما يسمى المصارعة التايلاندية, وتقع حلبة (سبان هين) على مقربة من مدينة بوكيت, والذي يصل متأخراً يعود باكراً إلى منزله من شدة الزحام وسخونة المتراهنين.
والعشق التايلاندي للمصارعة لم يتوقف عند حد البشر, بل وصل إلى الديكة التي أقيمت من أجلها حلبات خاصة يحضرها جمهور غفير من أجل التراهن على أقواها, ذلك الجمهور يتابع الصراع الديكي مشدوهاً متأثراً ولا يكاد يرى أصحاب العيون الزرقاء الذين اندسّوا بين صفوفهم, وعموماً التايلنديون لا يزعجون السياح بنظرات الفضول والاستغراب مهما كانت درجة اختلاف ملامحهم عنهم كبيرة.
******** منقول للإستفاده ***********
thaaaaaaaaaaaaanx realy i like it
الموضوع شكله قصير وآيد .. ههههههه
بقرآه عقب ..
تسلم أخووي ع الموضوع ..
تسلم ع المرور
شكرايا اخي, موضوع مشيق بالحق