مع نهاية الأسبوع الأول من كل رمضان أشعر بوجود دائرة منيرة فوق رأسي وأن جناحان صغيران نبتا لي، أي أحس أنني ملائكي.
تفسيري غالباً لا علاقة له بالإيمانيات، فمع بداية الأسبوع الثاني تكون الرئة قد تحررت من رواسب النيكوتين ، والمعدة قد عادت الى حالة الإتزان المؤقت، والعقل المرتبط بالعينين قد هدأ من مشاهد العنف والإثارة ، وبالطبع تأتي هذه الأفكار أثناء فترة الصوم ظهراً فأتذكر طبخ أمي وهنا تدمع عيناي.
هنا أقرر ما سأندم عليه حتى شهر رمضان القادم …أقرر أن آخذ أمي وأخواتي ومن صلح من ذرياتهم إلى إفطار في أحد المطاعم الفخمة. ندخل فتبادرنا حسناء تعرف بأن عورة الرجل من الصرة الى الركبة فتلتزم بذلك المقياس ، لإيمانها بالمساواة بين الأجناس ، فيفطر من معنا من المراهقين فوراً ، وتسألنا اذا كان لدينا رسيرفايشن (حجز مسبق) … فتبادر جدتي بتحذيري من على كرسيها المتحرك وهي لم تلتقط الا كلمة رسرفايشن : يا ولدي تأكد ان الرسرفايشن حقهم حلال … فتجيبها الجرسونة التي لم تفهم الا كلمة حلال : نعم نعم بالطبع حلال …وهكذا ينتهي حوار جدتي خريجة كتاتيب الزبير مع خريجة كلية همبرشاير للضيافة دون تدخل مني.
نصل الى الطاولة فتتوجه العيون الى أخواتي المنقبات، وبصراحة احترت في أمري، فهذه النظرات تلاحقهن في مطاعم لندن وكوالالمبور وفي مطاعم الدولة ، فأين يمكن ان آخذهن … على أن جوقة المشاهدين تغض الطرف بعد قليل. نبدأ باختيار أصناف الطعام وأنا أحمد الله ألف مرة بأن جدتي نسيت القراءة منذ الحرب العالمية الأولى وإلا لأحرقت المطعم بمجرد رؤيتها قائمة السم الهاري الذي يدللونه (مشروبات روحية).
تصرخ أخواتي بوجهي بسبب الأسعار كأنني صاحب المطعم بدلاً من شكري على كرمي المؤقت، ثم نطلب فتأتي الطلبات الأشبه بالنماذج وأنا أصرخ في وجه الصغار الذين يعادل ربع ضجيجهم الضجيج الصادر عن بقية الطاولات الثلاثمائة في القاعة كلها …
تنظر لي أحدى أخواتي بطرف عينها فأفهم أن علي التزلف وأن آكل بالشوكة والسكين، أمسك بهما فتأتيني نظرة أخرى من أمي بأن علي أن امسك الشوكة باليمين فنحن مسلمون … أمسكها باليمين فنظرة أخرى من شقيقتي الصغرى بأنني فضحتهم … وهكذا، بدلاً من «التزقنب» بالطعام الرديء، يصبح همي «شوية» الإنجليز على الطاولة المقابلة إن كانوا ينظرون إلي من عدمه؟ فإذا حانت التفاتة من أحدهم ابدل الوضعية (يسار – يمين) وإذا كان الجو خالياً من أعينهم أعود إلى (يمين – يسار).
تقف النادلة كالبوم الأجرب فوق رأسنا، ألا تعلم بأننا لا نحب أن يرانا أحد ونحن نأكل؟ ألم تسمع هذه القادمة من مانيلا عن «اليمامحة» فوق جبال الطويين الذين يتركون ضيوفهم أثناء الأكل ليأخذوا راحتهم … تغرب النادلة كي تحضر عدة اطباق بدل التي كسرها الصغار …
تنتبه جدتي فجأة لطعم غريب في اللحم وتصر على أمي أن تستفسر فتطمئنها النادلة بأنه لحم مطبوخ بالنبيذ، يغمى على جدتي، وتتقيأ أخواتي وتبكي أمي …. وأخي الأصغر لا زال يتسلى بكسر المزيد من الأطباق …. والنادلة فوق رأسنا تسجل …. يأتي مدير المطعم قلقاً … تصرخ أخواتي وهن يغطين وجوههن: ريّال! يهرب المدير وهو يتساءل عن سبب تركه وظيفته السابقة في الريفيرا …
الأجانب الملاعين يتهامسون على فتيات النينجا اللواتي يكسر أطفالهن الأطباق ويقيئن في المطاعم الراقية … ألتهم باقي نماذج الطعام وأنا أترحم على مطعم الحضرمي للمندي … واذكر عائلتي بأنني مخطئ وأن رأس مالهم القهوة الشعبية .
أهرب هرباً من الفندق وأنا أدفع كرسي جدتي – التي لا تزال مغشياً عليها – تسعون عاماً في الطاعة لكي تتناول النبيذ في رمضان مع اللحم وفي حضور أحفادها! يحاول مدير القاعة تلطيف الجو فيصافحني … يمد يده ليصافح أمي، فتلطمه على وجهه … ثم تلطمني …
يقرعني الجميع طوال طريق العودة بسبب غلاء المطعم والعشرة بالمئة والموسيقى المصاحبة التي جرحت صيامهم، وتحلفني أمي بأن أتصل بالخط المباشر لأشتكي … وقد نسيت دستة الأطباق المحطمة …
أصحو في اليوم الذي يليه مرهقاً من الضغط الذي أصابني … لأفاجأ بضابط وعسكري على باب منزلي …أبادرهما : والله صايم … اقسم بالله …يزمجر الضابط : صايم وإلا فاطر هذا شي راجعلك…
يقتادني وأنا صامت وألمح الملف تحت ابطه تتوسطه التهمة :8 رمضان – الهروب من الفندق دون دفع الحساب، وأفكّر بيني وبين نفسي: بلادنا تصنع الجزر في الماء والأبراج في الهواء ويتزلج الناس فيها على الجليد وهم في وسط الصحراء، فهل عجزت عن توفير مطاعم راقية خاصة بنا؟
بقلم عبدالله الشويخ
الله المستعان
خياله جميل .. وأسلوبه رائع
الكتابة الساخرة من اصعب انواع الكتابة