على نحو يشبه مئات القرارات التي اتخذتها منظمة اوبك علي مدي 47 عاما من وجودها، فان قرارها قبل اسبوعين في عدم الاستجابة للطلب الامريكي زيادة انتاج النفط ـ حظي بانتقاد لاذع من جانب الادارة الامريكية، ولكن خلافا لحالات كثيرة في الماضي امتنعت فيها اوبك عن المواجهة العالمية مع الولايات لمتحدة، فقد اختار اتحاد النفط هذه المرة ان يصد بحزم استثنائي الدعاوي الامريكية.
رئيس اوبك، شكيب خليل، ادعي بان الانفعال في سوق النفط ينبع من الادارة الفاشلة للاقتصاد الامريكي وان الارتفاع في اسعار النفط لا يعكس نقصا في العرض، بل هو نتيجة ضعف الدولار وانعدام اليقين السائد في الاسواق المالية.
الرد الحازم من رئيس اوبك، وتركيزه علي الوضع المشوه للدولار ليس صدفة. فهذا يعكس الاحباط العميق للدول المنتجة للنفط ـ ولا سيما في الخليج ـ من الضرر الذي يلحقه باقتصادها التآكل في قيمة الدولار. ومع ان دول الخليج تشهد نموا اقتصاديا استثنائيا في ضوء الارتفاع في اسعار النفط (بعضه ينبع من انخفاض قيمة الدولار) ولكن هذا النمو يترافق وتضخم مالي من المتوقع أن يتعاظم طالما واصل الدولار الهبوط وحافظ البنك الفيدرالي الامريكي علي مستوي فائدة منخفض. معطيات التضخم المالي الرسمية التي نشرت بالنسبة لشهر شباط (فبراير) تفيد بان وتيرة التضخم في العربية السعودية تبلغ نحو 8 في المائة. كما ان آخر المعطيات التي نشرت هذا الشهر تفيد بان وتيرة التضخم في اتحاد الامارات العربية بلغ في العام 2007 معدل 11 في المائة والتضخم المالي في قطر بلغ اكثر من 14 في المائة. البحرين عُمان ايضا، المنتجتان للنفط غير العضوين في اوبك، تعانيان من معدلات تضخم مالي عالية هما ايضا.
العلاقة الوثيقة بين سعر الدولار وبين التضخم المالي الذي يلم بالبلدان المنتجة للنفط في الخليج تنبع، ضمن امور اخري، من نظام سعر التبادل الذي تنتهجه. سعر التبادل لدول الخليج مقرر في الدولار، ولهذا فان ضعفه يجر تآكلا حقيقيا في العملة المحلية ويرفع اسعار منتجات الاستيراد. كما أن تحديد سعر التبادل بالدولار يلزم دول الخليج بتبني السياسة النقدية للبنك المركزي الامريكي، الذي يحاول هذه الايام انقاذ الاقتصاد الامريكي من الازمة من خلال تخفيض ساحق للفائدة. وهكذا نشأ وضع بدلا من رفع الفائدة لتبريد الاقتصاد النامي ومكافحة التضخم المالي، تضطر دول الخليج الي الانجرار وراء البنك الفيدرالي الامريكي فتخفض الفائدة. وفي ظل غياب أدوات نقدية ناجعة تضطر الحكومات الي تخفيف الضرر للاجر الحقيقي للمواطنين من خلال رفع الاجور في القطاع العام ومن خلال توسيع الدعم المالي لسلسلة من المنتجات. بمعني أن دول الخليج تنتهج سياسة تكرارية، يدعي الكثير من الاقتصاديين بانها نفسها تساهم في تسارع التضخم المالي.
نشر معطيات التضخم المالي الاخيرة الي جانب تعاظم مؤشرات الركود في الولايات المتحدة عززت الاصوات في الخليج التي تدعو البنوك المركزية الي محاكاة الخطوة التي اتخذتها الكويت في ايار (مايو) 2007، عندما قررت قطع الدينار عن الدولار وربطه بسلة عملات. ومع أن البنكين المركزيين لقطر واتحاد الامارات نفيا الشائعات في أنهما يعتزمان الانقطاع بشكل مفاجيء عن التحديد بالدولار، ولكن في نفس الوقت لم يترددا في الاعتراف بان التطورات الاخيرة تستدعي اعادة فحص لسياسة سعر التبادل.
اعلان من جانب احدي البلدان المنتجة للنفط في الخليج بتغيير نظام سعر التبادل هو آخر ما تحتاجه الولايات المتحدة هذه الايام. فمثل هذه الخطوة ستدل علي انخفاض واضح في الطلب علي الدولار من جانب الدول التي تقرر الانقطاع عن الدولار، ولكن الاسوأ من ذلك هو أنه ستشير الي مزيد من فقدان الثقة بالعملة الامريكية. وعليه، فان قرارا من جانب دول الخليج بتغيير سعر التبادل لا يجر فقط معضلات اقتصادية بل ومعاضلات سياسية ايضا.
من بين ستة اعضاء مجلس التعاون الخليجي (العربية السعودية، الكويت، اتحاد الامارات العربية، عُمان، قطر والبحرين) فان العربية السعودية هي المحامي الواضح لنظام سعر التبادل الحالي. مثلما سارعت العربية السعودية في تشرين الثاني (نوفمبر) الي صب ماء بارد علي اعلان الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد الذي ادعي بوجوب الكف عن تحديد سعر النفط بالدولار لانه مثل قطعة ورق عديمة القيمة ، هكذا ايضا في الاونة الاخيرة يحاول المندوبون الرسميون للعربية السعودية ابراز المنفعة الكامنة في ربط سعر التبادل بالدولار. وبزعمهم بان الربط بالدولار خدم علي نحو مخلص الاستقرار الاقتصادي لدول الخليج علي مدي السنين وهو ضروري من أجل اجتذاب الاستثمارات الاجنبية المباشرة. وتحوز العربية السعودية باملاك دولارية بمليارات الدولارات وعليه فليس مفاجئا ان تحاول منع خطوة من شأنها أن تمس بالدولار.
ولكن رغم اعلان العربية السعودية بان كل قرار بتغيير نظام سعر التبادل سيتخذ بالاجماع من الاعضاء الخمسة لمجلس التعاون الخليجي والذي لا يزال مرتبطا بالدولار، فبالتأكيد يحتمل أن تجد احدي الاعضاء الاخرين صعوبة في الصمود في وجه الضغط الاقتصادي والسياسي الذي ينبع من التضخم المالي العالي فتقرر التراجع عن الربط بالدولار. التضخم المالي في دول الخليج الصغيرة اكثر حساسية تجاه التغييرات في سعر الدولار منه في العربية السعودية، كون نصيب استيراد منتجات الغذاء عندها أعلي. وعليه، فان النظام لا يمكنه أن يبقي غير مبال لارتفاع بعشرات في المائة في اسعار المنتجات الغذائية الاساسية.
انخفاض آخر في سعر الدولار سيزيد الضغط السياسي الداخلي من جانب محافل عديدة وسيؤدي الي تغيير نظام سعر التبادل، ولكن في نفس الوقت من المعقول الافتراض بان وتيرة الزيارات من المحافل الامريكية رفيعة المستوي الي دول الخليج ستزداد أيضا كلما كان الانخفاض في الدولار أكبر. الشكل الذي ستتصدي له دول الخليج للضغوط السياسية المتضاربة سيؤثر في المدي القصير علي قيمة الدولار وعلي أداء الاقتصاد العالمي. غير أنه خلاف ذلك، فان قرار تغيير نظام سعر التبادل من جانب دول الخليج ينطوي ايضا علي آثار اقتصادية وسياسية بعيدة المدي ذلك أنه كفيل بان يكون مرحلة هامة اولي في فحص متجدد لمنظومة تسعير النفط بالدولار.
نظرة عليا 2/4/2008
و لا رد واحد يعني على الأقل شكرا