بسم الله الرحمن الرحيم

توقعت ان لايقرأ الكثير من الإخوة هذه الحلقة إذا ما كتبتها كتكملة في نفس رابط الحلقة الأولى, لهذا ها أنا أعيد طرحها بشكل منفصل.

جزا الله خيرا كل الإخوة والأخوات الذين لولا تشجيعهم لتوقفت عن إكمال هذا الموضوع المتعب جسديا الجميل والممتع عقليا وروحيا فكل خطوة من خطوات البحث والمراجعة والدراسة لعشرات الكتابات حتى أصل لتصور أمثل لأحداث وقعت قبل 200 سنة من ولادة المسيح عليه السلام الخص من خلالها الحرب البونية الثانية متمثلة في عبقرية هنيبعل الذي تمكن من تحقيق معجزة من خلال اجتياز جبال الألب, وهي المعجزة العسكرية التي أثارث خيال العسكريين والأدباء ومازالت تدرس حتى يومنا هذا.

جزاكم الله خيرا

اليوم نحن على موعد مع الجزء الثاني من قصة الأسطورة الخالدة هنيبعل, في هذا الجزء سوف أعود قليلا لأغطي بشيء من التفصيل قصة عبور الجيش القرطاجي لجبال الألب والمصاعب التي عاناها والخسائر التي تكبدها حتى تحقق له ما أراد ووطئت إقدامه أرض الرومان في شمال إيطاليا.

وكذلك عن أولى معركتين خاضهما هنيبعل ضد القوات الرومانية لنتعرف على عبقرية هنيبعل الذي أطلقت عليه الكثير من الألقاب فتارة هو الساحر, وتارة هو أبو الإستراتيجية العسكرية نعم هنيبعل يسمى لدى الكثير من المراجع العسكرية أبو الإستراتيجية العسكرية.

هلموا إذا لنعيش هذه الأحداث معا

——————————————————————————–

دعونا الآن نفتح نافذة على التاريخ لنطل منها على الأحداث التي رافقت سير هنيبعل على جبال الألب.

بعد أن اجتاز هنيبعل وجيشه نهر الرون كان قد بلغ عدد جيشه في ذلك الوقت 38,000 من المشاة و 8,000 فارس و 37 فيلا حربيا.

في ذلك الوقت, وصلت أنباء عن إرسال روما لجيش بقيادة سكيبيو الذي سوف يعرف بعد ذلك ب سكيبيو الأفريقي لكي يقطع الطريق على هنيبعل ويواجهه في ليبيريا ( أسبانيا) , لكن سرعة تحرك هنيبعل أدهشت الرومان.

فكر هنيبعل كثيرا , هل يغير من خط سيره وينزل أدنى نهر الرون لكي يواجه سكيبيو, أم يتركه وشأنه لينفذ ما عزم على تنفيذه دون تأخير؟

قائد في عبقرية هنيبعل كان يعرف أهمية الوقت وأهمية الحرب على الأرض الرومانية, بينما الجنود كانوا يفضلون مواجهة سكيبيو على صعود جبال الألب, فهم في النهاية جنود ولا يهابون المعارك لكن تلك المرتفعات الشاهقة والمجهولة لديهم كانت تبث الذعر والخوف بينهم, كانوا يخافون من الإنزلاقات من القمم, وانزلا قات الصخور عليهم, وكانوا يخشون من صعود هذه القمم الموحشة وهم مثقلين بأحمالهم وعتادهم في جبال تكسوها الثلوج والصقيع.

عندما شعر هانيبال بخوف جنوده من الصعود إلى الجبال استدعى المجموعة القيادية في الجيش وتحدث إليهم عن مخاوفهم الغير واقعية بعد أن وصلوا إلى هذا الحد في تنفيذ خطتهم الجسورة وصاح بهم:

لقد تجاوزتم البيرينية (Pyrenees) وعبرتم نهر الرون وأنتم الآن وقد تراءت لكن جبال الألب وهي البوابة لدخول بلد الأعداء. ماذا تتصورون أن تكون جبال الألب؟ إنها لا تعدوا عن كونها جبال مرتفعة بأي حال, بافتراض أنها أعلى من البيرينية, هذه الجبال لن يصل ارتفاعها إلى السماء, ومادام أنها لا تصل إلى السماء, إذا هي لا يمكن أن تكون مستعصية علينا.

في الحقيقة هذه الجبال تقطع كل يوم , وحتى أنها أصبحت سكنا , وموئلا للكثيرين, والمسافرين يقطعونها كل يوم من طرفها إلى الآخر, وما يمكن لرجل بمفرده أن يقوم به, يمكن لجيش أن يقوم به, إن الجيش يتكون من مجموعة أكبر من الأفراد, في الحقيقة بالنسبة للجندي الذي ليس لديه ما يحمله سوى العتاد الحربي لا يمكن بأي حال أن يكون عبور الألب صعبا إذا امتلكنا العزيمة والقوة.
بعد أن انهي هنيبعل حديثة, وجد رجاله وقد تشبعوا عزيمة وقوة وإصرار , عندها أمرهم بالذهاب لخيامهم ليرتاحوا استعداد للمسير في اليوم التالي.

لم يكن هنيبعل يود لقاء سكيبيو خارج الأرض الرومانية, كان متلهفا لملاقاة الرومان على الأرض الرومانية , لهذا وحتى يصل هنيبعل لهدفه , قرر أن يسير نحو أعلى نهر الرون , في طريق غير مباشرة توصله لداخل منطقة جبال الألب.

عندما علم سكيبيو بأن هنيبعل سبقه في وجهته وأنه من المستحيل أن يلاقيه على ارض ألغال (فرنسا) قام بترحيل جنوده عن طريق البحر إلى إيطاليا استعدادا لأي احتمال غير متوقع.

تحرك هنيبعل باتجاه جبال الألب لمدة أربعة أيام حتى وصل في بدايات سبتمبر إلى رافد من روافد نهر الرون (إيسير– Isere) ومن الممن أن يكون داي Die, وفي ذلك الموقع استراح الجيش القرطاجي يومين وليلتين, ثم أستأنف بعد ذلك مسيره محاذيا لضفة إيسير اليسرى, وفي عشرة أيام من السير المتواصل بلغ جيش هنيبعل مونمليان واجتازها حتى وصل إلى جبال الألب.

أحداث اليوم الأول (1):

من دورونتيا , تقدم هنيبعل نحو جبال الألب سالكا طريق السهول المفتوحة دون أن يواجه أي معارضة من القبائل المحلية, ولقد كانت طبيعة جبال الألب مجهولة تماما لدى رجال هنيبعل, منهم من سمع عنها من خلال بعض ما كتب عنها , ومنهم من سمع عنها من خلال الكثير من الشائعات التي راجت في ذلك الوقت, وبالرغم من أن مجال الإشاعات يفتح المجال للمبالغة إلا أنهم يعلمون أنهم بدأو يدقون أبواب الحقيقية التي سوف تفتح لهم أبوابها لكي يتحققوا من الأمر بأنفسهم في الأيام القادمة.

إن الصور المرعبة التي تكونت في أذهانهم عن وعورة جبال الألب هي الآن أمامهم, القمم الشاهقة, المرتفعات المكسورة بالجليد والتي ترتفع لتعانق السماء, الطرق المنزلقة هناك في الأعالي, وليس آخرا سكان هذه القبائل من الرجال الشعث الذين لا تبدو على هيئاتهم غير النظرات الحادة, وحتى الحيوانات الجبلية الضارية, كل هذا وأكثر مما تخبئه لهم جبال الألب كان على مرمى بصر منهم وهو أكثر مما يمكن للكلمات أن تصفه, إن هذه الصور هي لمحة لما تخزن في إدراك وعقول الرجال الذين لم يخبروا من قبل جبال الألب.

تحرك هنيبعل والجيش سيرا باتجاه جبال الموريان, وهناك عند أول منحدر, كان اللقاء مع قبائل الألوبروج (The Allobroges) وهي من قبائل السلتيك الحربية القوية المعروفة ببأسها الشديد في القتال, لقد كانت هذه القبائل تراقب جيش هنيبعل وهو يدخل منطقة جبال الألب فتربصت به رغبة منها في اصطياد الجيش بين الممرات الضيقة مما يعطيها فرصة كبيرة لمهاجمته وسلب غنائمه.

هنيبعل الذي لم يكن يترك شاردة وواردة ولم يكن ليتكل على أدلائه الذين وعدوه بإرشاد الجيش إلى مسالك آمنه, قام بإعداد خطة محكمة وأمر الجيش بالتخييم في منطقة كانت عبارة عن سهل واسع بين الجبال ثم اختار وفدا من أفراد القبائل الغولية ( الفرنسية) الذي هم بأنفسهم رجال قبائل تعيش في الطرف الآخر من نهر الرون وكانوا يعرفون لغة وعادات الألوبروج.

لقد أرسل هنيبعل الوفد للقيام بمهمتين الأولى التفاوض مع هذه القبائل للمرور بسلام أو هكذا أراد هنيبعل أن يعتقد أعدائه, والثانية وهي المهمة الحقيقة , كانت تهدف إلى التعرف على هذه القبائل ومواطن قوتها وضعفها وعاداتهم في الحرب.

أحداث اليوم الثاني:

السير نحو سد قمة دي كابري (March Towards Blocked Col de Cabre) :

نجح الوفد في مسعاه وعاد وأخبر هنيبعل بنتائج الزيارة , ومن ضمن النقاط التي ذكروها لهنيبعل أن الألوبروج مصممون على القتال إلا أنهم لا يقاتلون إلا نهارا فإذا أسدل الليل خيوطه اقفلوا عائدين إلى قراهم وسكناهم حتى صباح اليوم التالي.

كانت هذه المعلومات كافية لهنيبعل لكي يرسم خطته, ولما أقبل الليل, أمر هنيبعل الفرسان بوضع أمتعتهم في المخيم وبشكل واضح ليراهم الألوبروج, ثم أمر بإيقاد النيران حتى أوقد الجنود نيرانا أكثر من المعتاد في سبيل تضليل قبائل الألوبروج ثم أمر الجنود بالبقاء في خيامهم حتى يعتقد الألوبروج أن هنيبعل سوف يخيم ولن يتحرك في المساء.

انطلت الحيلة على قبائل الألوبروج التي ما أن رأت النيران حتى انسحبت من مواقعها وعادت إلى قراها, وكانت هذه فرصة هنيبعل التي انتظرها إذ ما أن انسحب الألوبروج وتأكد من تخليهم عن أماكنهم حتى أمر الجيش بالتحرك على عجل حتى اجتاز الأماكن الخطرة التي كانت تمثل خطر على جيش محمل بالعتاد العسكري.

أحداث اليوم الثالث:

(هجوم ألألو بروج على مؤخرة الجيش, ووصول هنيبعل ل جاب Enemy attack on baggage train; Capture of Gap).

ما أن أشرقت شمس اليوم الثالث حتى عادت قبائل الألوبروج لمواقعها التي كانت قد تركتها في الليلة الماضية فتفاجأت بعدم وجود المخيم حيث تركته, بل وأصيبت بحالة من الصدمة وهم يرون جزءا من جيش هنيبعل هناك في الأعلى وقد ارتقى في سيره مكانا أعلى من الذي كانوا يتجمعون فيه , بينما مازال بقية من الجيش تسير أدنى منهم.

راقبت هذه القبائل الصعوبات التي يمر خلالها جيش هنيبعل في الممرات الضيقة , هذه الممرات التي فرقت الجيش بحكم ضيقها وكذلك عملت على إجفال الخيول التي لم تتعود السير على المرتفعات, والحقيقة وجد الجيش القرطاجي نفسه أمام عدوين الأول كان القبائل العنيدة المقاتلة التي تتربص به شرا, والثاني كانت الظروف الصعبة التي تفرزها طبيعة جبال الألب خصوصا عند المرور في تلك الممرات الضيقة التي كانت تقطع الجيش إلى فرق بحكم ضيق المساحة المتوفرة للتحرك, حتى أصبح الأمر وكأنه على كل رجل من رجال هنيبعل أن يحمي نفسه بنفسه.

وكانت الخيول الغير مدربة على مثل هذه المواطن , قد اعتراها الخوف من الضجيج الذي خلقه تحرك جيش في منطقة ضيقة بين الجبال مما خلق صدى ضل يتردد بين جنبات الجبال المحيطة الأمر الذي أفزع الخيل وخلق بعد ذلك فوضى عارمة في الجيش.

عندما رأى قبائل الألوبروج هذه المصاعب التي يمر بها جيش هنيبعل , زالت حالة الصدمة, ومن ثم استجمعت هذه القبائل تركيزها وثقتها وقواها مرة أخرى وبدأت في رمي مؤخرة الجيش بالحجارة من مواقعهم العالية , فتسببت هذه الحجارة المتساقطة بزيادة جفول الخيول وبالتالي المزيد من الفوضى التي تسببت في سقوط الكثير من الرجال من على أطراف السفوح إلى الأرض وتسبب بالتالي بالكثير من الخسائر.

هنيبعل راقب الموقف بهدوء وقد أبقى مقاتليه الأشداء معه, بالرغم من أن الموقف كان يصدم كل من يراه من الأعلى, إلا أنه علم أن النزول في تلك الممرات الضيقة لن يضيف الموقف إلا تعقيدا, حتى بدأ الرتل يتفكك وشعر أنه لا فائدة من مرور الرجال دون عدتهم وعتادهم عندها أيقن أن الوقت حان للتحرك, لهذا نزل هنيبعل مع فرقة من الجنود الأشداء من الأعلى وشق صفوف الألوبروج الذي انهزموا وانكفأو خاسرين, وبالرغم من أن نزوله إلى مؤخرة الجيش أضاف شيئا من الإرباك إلا أن هذا لم يدم إلا دقائق معدودة حتى عاد النظام للجيش , وعاد الهدوء , وانفتحت أمام الجيش الطريق ليخرج من هذا المأزق بأمان.

قبض هنيبعل على قائد القرية التي تمثل حصن هذه المقاطعة , بالإضافة للقرى المجاورة ووضعه تحت الحراسة, وكانت الغنائم التي غنمها من الأبقار والحبوب كافية لتغذية الجيش لمدة ثلاثة أيام متتالية. وهكذا علم هنيبعل رجال القبائل درسا آخر في عدم التصدي له.

أحداث الأيام من اليوم الرابع وحتى السادس:

المسير دون عوائق نحو قمة مونتجينيفر Easy march towards col du Montgenevre)

استمر الجيش في مسيره بعد هذه الواقعة لمدة ثلاثة أيام دون أي مشاكل تذكر وهو الأمر الذي أعطى فرصة للجيش لكي يعوض ما فاته ويحرز تقدما كبيرا في مسيره.

أحداث اليوم السابع:

(مبعوثون من قبيلة قرب برينكون Envoys from tribe near Briancon).

مع وصول هنيبعل إلى القمم الشاهقة, وإلى مناطق نفوذ قبائل جبلية أخرى كاد هنيبعل أن يقع في فخ تم نصبه وكاد أن يفقد حياته, لولا الخبرة التي اكتسبها هو ورجاله من التعامل مع رجال هذه القبائل المخادعة.

إذ بينما هنيبعل يسير بالجيش , تقدم إليه رجال مسنين من أفراد القبائل التي تقطن تلك المنطقة وهم يحملون في أيديهم أغصان الأشجار وعلى رؤوسهم أكاليل من الأزهار. عرض هؤلاء الرجال تقديم أبنائهم رهائن وإدلاء لكي يعينوا هنيبعل على استكشاف خط سيره, وكانت هذه الطريقة معروفة في ذلك الوقت كتعبير عن الخضوع والتماس الرفق والرحمة.

استمع هنيبعل لأقوالهم وهو يقرأ في عيونهم غير ذلك, إلا أنه شكرهم على قدومهم وعلى عرضهم, لم يكن هنيبعل يريد أن يبدأ هو المعركة لأنه كان يفضل المرور بسلام دون أن يجهد رجاله في قتال لا طائل منه ولا يخدم أهدافه. لهذا رد على القوم بطريقة ودية, فوافق على الاحتفاظ بالرهائن واستخدم ما قدم له من مؤن كان يحتاجها جيشه, وتبع دليلهم الذي عرضوه لكي يدل هنيبعل على انسب الطرق للوصول إلى هدفه.

علم هنيبعل إنهم ينوون الغدر به, لهذا قدم هنيبعل الفرسان إلى المقدمة مع الأفيال ثم بقي هو مع قوة ضاربة من الفرسان والمشاة الأشداء لحماية مؤخرة الجيش. وما أن أشرقت الشمس, وتحرك هنيبعل حتى أظهرت الأحداث بعد ذلك صدق حدسه, لقد تحول أولائك الخاضعين إلى ذياب جائعة تتبع مؤخرة الجيش القرطاجي, وما أن دخل جيش هنيبعل في ممر اسيون ذي الممرات الضيقة الصعبة حتى ظهر رجال القبائل من مخابئهم وقد شنوا هجوما على الجيش من المقدمة والمؤخرة وقد وثبوا وثبة واحدة وهم يرمون بنبالهم وحرابهم الجيش.

في ليلة اليوم الثامن:

في ذلك المساء اشتد هجوم تلك القبائل وكان الضغط الأكبر موجها نحو هنيبعل في المؤخرة, وتمكنت القبائل من فصل مقدمة الجيش عن المؤخرة, مستغلة الطرق الضيقة , ولأول ليلة وجد هنيبعل نفسه مفصولا عن فرسانه في المقدمة مع عتادهم الحربي, إلا أن هنيبعل تكفل وهو وفرسانه بصد الهجوم الذي شنته هذه القبائل وكبدها الكثير من الخسائر.

أحداث اليوم الثامن:

التحام جيش هنيبعل بالقرب من برينكون والمسير بإتجاه قمة جينيفر
Hanniabl’s army united near Briancon: March towards col du mont Genevre.

في اليوم الثامن وبعد ظهور بوادر الهزيمة على هذه القبائل, تحولت جموع منهم إلى ذياب جريحة جائعة ضلت تتبع الجيش القرطاجي من على سفوح الجبال لكي تتحين الفرصة لترمي الجيش بالصخور من الجبال العالية أو تبطش بكل من تأخر عن الجيش لمرض أو لسبب آخر.

عندها قرر هنيبعل بنفسه الدفاع عن مؤخرة الجيش, فصعد بهم إلى السفح المطل على الوادي الذي يسير فيه الجيش, وجعل ظهره مواجها للجبال والصخور متأهبا لأي تحرك من تلك الفلول التي مازالت تطارد جيشه حتى مر الجيش وحتى آخر جندي من ممرات اسيون الضيقة.

والحقيقة لولا براعة هنيبعل وعبقريته الحربية وفطنته لما تمثله هذه القبائل من خطر, ولولا اختياره المؤخرة لما أمكن حماية الجيش القرطاجي من بطش هذه القبائل المتمرسة على الحرب في تلك التضاريس القاسية.

أحداث في اليوم التاسع:

وصول جيش هنيبعل لقمة مونتجينيفر Hannibal’s army reaches the col du(Montgenevre.

بعد أن اجتاز هنيبعل ممر اسيون في صباح اليوم العشرين من شهر سبتمبر, استمر في السير عبر معابر جبلية لم تطرق من قبل, أحيانا لخطأ الإدلاء, وأحيانا كانت طرق مدروسة, حتى ظهرت له قمة جبل سنيس الشامخة, عندها أمر الجيش بالاستراحة حتى الظهر ثم استأنف مسيره من الظهر حتى وصل للقمة قبل الغروب.

أحداث اليومين العاشر والحادي عشر:

التوقف التخييم على قمة مونتجينيفر Halt on the summit of col du montgenevre

في الصباح قام هنيبعل فرأى منضرا غريبا, عودة العشرات بل المئات من رجاله الذين حسبوا مفقودين في حين أنهم تأخروا من التعب والإرهاق والتيه بسبب الظلام وهم يعبرون الممرات الضيقة , بالإضافة إلى هجمات القبائل على مؤخرة الجيش التي ولاشك أنها فرقت البعض منهم.

لم يكن الأمر مقتصرا على الرجال فقط, بل تبعهم عدد لا يقل من الخيول والبغال والأبقار التي كانت قد طرحت أحمالها ونفرت بين الأودية والجبال إلا أنها عادت مدفوعة بالغريزة الحيوانية حتى استهدت لموقع الجيش.

خيم هنيبعل لمدة يومين على القمة, حتى يعطي رجاله الوقت لكي يرتاحوا من المصاعب الجمة التي رافقت رحلة الصعود وكذلك من المعارك التي خاضها هنيبعل ورجاله ضد رجال القبائل الشرسين في الممرات الضيقة.

أحداث اليوم الثاني عشر:

قمة جبل سنيس Summit of Cenis

كان الجو في ذلك اليوم صافيا جميلا تمكن هنيبعل من خلاله من أن يلاحظ من بعيد خضرة السهول الإيطالية البديعة ووادي نهر بو يلوح في الأفق, ولأول مرة يرى هنيبعل ارض أعدائه أمامه بمروجها وحقولها ومراعيها فانشرح قلبه وامتلأ سعادة لا توصف, إلا أنه وعندما شاهد رجاله سواء من وصل لتوه أو من بات في مخيمهم وقد اكتساهم القلق والوهن والشرود, فأمرهم بالتجمع هناك على جبل سنيس.

هناك في مكان عال على جبل سنيس (Mount Cenis) وقفت مجموعات من البشر غريبة على المكان, يبدو عليهم الوهن والشرود, يرتدون أسمالا ويجرون أثقالا على كواهلهم ورؤوسهم لا تكاد ترتفع عن صدورهم من المشقات والمصاعب التي واجهوها وهم يسيرون في رحم المجهول حتى لفظهم في نهاية الأمر على جبل سنيس.

وأمام هذه الجموع الشاردة كان هنيبعل بهمة ونشاط دون كلل أو ملل تحسبه لم يمر بما مر به القوم من أهوال وصعاب, هو من ذاك المعدن الأصيل الذي كلما دعكته الظروف ازداد بريقا ولمعانا.

وعلى مرتفع يطل على إيطاليا, أوقف هنيبعل الجموع, ثم أشار بيده إلى السهول والوديان وصرخ بهم

انظروا …………..

وساد الصمت المكان, ورفع الفرسان والجنود إبصارهم نحو الأفق بعيدا, وكأنهم يقولون أي هنيبعل إلى ماذا ننظر؟ لم تكن تظهر لديهم غير سهول بعيدة خالية من أي لون بهيج, ولم يكن يظهر لهم منها شي بعد.

لكن هنيبعل لم يكن ليترك لليأس فرصة ليجد مكانا له في قلوب رجاله بل استطرد وهو يعرف ما في نفوسهم وقد خبرهم منذ زمن بعيد قائلا:

يا رجالي

أيها الجنود البواسل

لقد تجاوزتم الحدود التي كانت تحمي إيطاليا, ليس هذا وحسب, بل إنكم تمشون على أسوار روما العالية, من الآن وصاعدا لن يكون هناك جبال تتسلقونها, وبعد معركة أو اثنتين سوف تكون لكم عاصمة إيطاليا, حصن روما لتحتظنونها بذراعيكم.

لقد وصلتم إلى مشارف إيطاليا وهي تلوح أمامكم, أنتم اليوم جائعون خائرو القوى, لكن هناك ستدخلون مدنا عامرة تزخر باللذائذ من أصناف من الطعام والشراب وتعج بالكنوز والتحف الثمينة. أنتم هنا تفترشون التراب وتتوسدون الحجارة والصخور, بينما تنتظركم هناك الأسرة الوثيرة لتمنحكم السعادة والدفء عوضا عن الليالي الباردة والمطيرة التي قضيتموها في سيركم.

ومد يده نحو الأفق وهو يقول: كل هذا ينتظركم هناك, كل هذا سيكون لكم, وهاهي الطريق مفتوحة أمامكم لتركعوا روما ولتكونوا أبطالا تستحقون المجد.

أي سحر هذا ياهنيبعل

ما أن أكمل هنيبعل كلامه حتى عادت الألوان للصورة, وعادت الحياة تذب في نفوس وعقول الجنود, وبدؤوا يرون ما لم يكن يرونه قبل دقائق وكأن كلماته مطايا امتطوها فجالوا من خلالها على كل سهول ووديان ومدن إيطاليا.

أي سحر هذا ياهنيبعل

لقد لامست هذه الكلمات شغاف قلوب الرجال, وملأتهم عزيمة وقوة وإصرار على تحقيق المستحيل. تحرك الجيش بعدها وواصل المسير نزولا من جبال الألب دون أي اعتراض وكل منهم يمني نفسه بالنصر والمجد.

هنيبعل كان قائدا فذا وعبقريا في فهم نفسية رجاله, وكان يعرف متى يتحدث إليهم كصديق ومتى يصدر لهم الأوامر كقائد, كيف لا وهو قد عاشرهم طويلا وخبر نفوسهم وروحهم القتالية حتى أصبح يعرف كيف يقودهم إلى المجهول دون خوف من أي اعتراض منهم.

النزول من سفوح جبال الألب الشرقية وكما ذكر المؤرخين كان في أحيان كثيرة أصعب من الصعود من الجهة الغربية لجبال الألب خصوصا أن الوقت كان في آخر أسبوع من شهر سبتمبر حيث الرياح القوية التي تهب من الشمال , وهو موسم بداية سقوط الثلوج التي كانت تعيق حركتهم, وبالتالي واجهت الجيش الكثير من المشاكل مع الأرض الزلقة التي لم يكن أي منهم قد تعود عليها.

وكما كان الحال إثناء الصعود كانت كذلك الممرات إثناء الهبوط ضيقة وزلقة وتعرض بعض الرجال للسقوط منها وهم ينزلون من القمم, وسرعان ما وجد الجيش نفسه يسير في ممر له منحدر سحيق من كلا الجانبين , وهو أمر يستعصى حتى على الأفراد الذين لا يحملون معهم أي متاع فما بالك بجيش أخذ منه الجهد كل مأخذ, حتى توقفت مقدمة الجيش أمام انهيار سد عليهم الطريق وهو أمر معتاد في تلك المناطق الجبلية, وعندما توقف الجيش ووصل الخبر إلى هنيبعل ذهب ليرى بنفسه الموقف, عندها علم أنه يجب أن يتخذ طريقا يلتف به من هذه المعضلة حتى يكمل المسير وهو ماقام به إلا أن هذا الالتفاف ادخل الجيش في طريق من المنحدرات الأكثر صعوبة.

في تلك المنحدرات كانت الأرض قد اكتستها طبقتين من الجليد, الجليد القديم والجليد الجديد الذي سقط مؤخرا في إشارة لدخول فصل الشتاء, وبالرغم من أن هذا الوضع في البداية أتاح موطئ قدم للسير, لكن ما أن كانت تدوسها وتفرقها أقدام كل هؤلاء الرجال والحيوانات المصاحبة لهم من الخيول , والبغال والأبقار حتى أدت إلى تفرقها وبالتالي ذوبان تلك الطبقة من الجليد, وكانت النتيجة مروعة, إذ خلق هذا الأمر جليد غير مستقر تحت إقدام الجيش وهو ما أدى للكثير من الإنزلاقات حيث لم يكن هناك أشجار يمكن أن تستخدم جذوعها لتثبيت الأرضية التي يسير عليها الجيش, وفي النهاية لم يكن أمام الأغلبية من أفراد الجيش سوى التدحرج والانزلاق مع الجليد الذائب.

وعانت البغال كثيرا من هذا الوضع, إذ أنها كانت تغوص بحوافرها في طبقة الجليد, وكانت في مسعاها للخروج من هذه الطبقة ترافس وتتحرك بقوة الأمر الذي كان يزيد من غرزها في طبقة الجليد أدنى منها, حتى تم احتجاز الكثير منها في تلك المنطقة لتلاقي مصيرها المحتوم.

ومع حلول المساء, أمر هنيبعل الجيش بالتوقف والحفر لخلق مساحة مناسبة للعبور بالرغم من حجم الجليد الذي تساقط على المنطقة حتى يخفف العبء على الجنود وعلى الحيوانات ثم خيم الجيش ذلك المساء على قمة تلة عالية.

أحداث الأيام من الثالث عشر وحتى الخامس عشر:

في صباح اليوم الثالث عشر استكمل الجيش مهمته في بناء طريق يمكن للجيش العبور عليه دون أن يتعرض للغوص في الجليد, حتى ظهرت مشكلة صخرة أعاقت تقدم الجيش وكان من الضروري أن يمر الجيش عبرها, وهي المشكلة التي تصدى لها هنيبعل بحل ذكي عندما طلب من بعض الجنود بتشذيب بعض أغصان الأشجار وقطعها ووضعها حوالي الصخرة, ثم وبمساعدة الرياح تم إضرام النيران حوالي الصخرة العظيمة حتى اشتدت حرارتها ثم أمرهم بصب النبيذ عليها حتى تفتت, فانفتحت الطريق أمام هنيبعل وجيشه لكي يكمل مسيره.

لكن هنيبعل أمر جيشه بالتخييم هناك وأعطى الجيش فترة ثلاثة أيام ليستريح فيها من عناء ما كابد بالرغم من عدم توفر الطعام والشراب في تلك المنطقة التي كانت تغطيها الجليد, وبعد انقضاء الثلاثة أيام نزل هنيبعل بجيشه ووصل إلى وادي نوفاليز وقد بلغ عددهم 26,000 مقاتل.

عملية التصعيد والهبوط وبالتالي اجتياز جبال الألب لم تستغرق أكثر من 15 يوما كما يقول أغلب المؤرخين وهي معجزة عسكرية مازالت تخلب لب الكثير من الباحثين في الإستراتيجيات العسكرية قديما وحديثا والذين أطلقوا على هنيبعل بعد ذلك لقب أبو الإستراتيجية العسكرية.

معركة تريبيا (217 ق.م.):

بعد نزول هنيبعل من سفوح الجبال إلى شمال إيطاليا بدأ يسير في السهول متجها نحو وادي نهر بو , ظهوره المفاجئ للرومان في وادي نهر بو مكنه من فصل تلك القبائل التي كانت قد ألزمت حديثا بمعاهدة مع روما عن الرومان.

وادي بو يظهر باللون الأزرق

بوبليوس سكيبيو ((Publius Cornelius Scipio الذي قاد القوة الرومانية التي أرسلت لإيقاف هنيبعل والتي عادت بعد ذلك لإيطاليا عندما لم تتمكن من اللحاق به, لم يكن يتوقع أن يقوم هنيبعل بمحاولة اجتياز جبال الألب لكن هنيبعل أحدث المفاجأة وتمكن من الوصول لشمال إيطاليا.

بعد أن أعطى هنيبعل لجنوده قسطا من الراحة, قام هنيبعل بحماية مؤخرة الجيش من خلال إخضاع القبائل التورينية (نسبة إلى مدينة تورين), بينما كان يتحرك نزولا نحو وادي نهر بو, التحم الطرفان في معركة صغيرة في تيسينوس (Ticinus), في هذه المعركة اجبر هنيبعل الرومان من خلال فعالية وقوة فرسانه من إخلاء سهل لومباردي الخالي, هذا الانتصار , بالرغم من أنه يعتبر معركة صغيرة إلا أن كان لها تأثير كبير على سيطرة الرومان على قبائل الغولز, لأنه نتيجة لهزيمة الرومان في تيسينوس, بدأت هذه القبائل تركز نظرها على هنيبعل وعلى دعوته لها بالإنظمام إليه والتخلص من الحكم الروماني.

في نفس الوقت كان سكيبيو الذي أصيب بجرح كبير في المعركة, انسحب قاطعا نهر تريبيا بجيشه وأقام مخيما في بلدة بلاسنثيا (Placentia) بانتظار الدعم من روما.

القائد الروماني الآخر أسرع لوادي نهر بو , حتى قبل أن تصل أخبار الهزيمة في تسيسنوس لروما. قام مجلس الشيوخ بإصدار الأمر ل سمبورينوس لونقوس (Longus Sempronius ), بإعادة جيشه من سيسلي , ليجتمع بسكيبيو ومواجهة هنيبعل.

بعد هذه المعركة كان هنيبعل قد أعلن تحرر القبائل الجرمانية (Germanic) من سيطرة الرومان حتى انضم إليه قلة منهم.

سنحت الفرص لهنيبعل الآن من تحقيق هدفه ومن إبراز مهاراته العالية في وضع الإستراتيجية المناسبة للمعركة في تريبيا,كان هنيبعل يريد انتصارا سريعا حتى يعطي الثقة لرجال القبائل للإنظمام إليه لأنها كانت تخاف إن انضمت إليه من نقمت روما.

هنيبعل ومن خلال مناورات ماهرة, وضع نفسه في موقف مكنه من التواجد في منطقة بين بلاسنثيا و ارمينيوم, وهو الأمر الذي اجبر سمبورينوس للسير حتى يلتحم بسكيبيو. عندها تمكن هنيبعل من السيطرة على كلاستيديوم مما مكنه من تزويد جيشه بالمؤن التي كان يحتاج إليها, لكن هذا الانتصار لم يكن بدون ثمن, وذلك لأن سمبورينوس تمكن من تجنب هنيبعل والتحم بسكيبيو في مخيمة بالقرب من نهر تريبيا بالقرب من بلاسنثيا.

الرومان الآن كانوا قد استنفروا جميعهم لمواجهة خطر هنيبعل الذي تمكن من النجاة من الكثير من الشراك التي أعدت له وتمكن من وضع هالة وسمعة كبيرة وضعت تقريبا في مستوى الهي من البراعة التي كان يمتلكها.

كل من القائدين الرومانيين كان تحت إمرته تقريبا 20,000 رجل أي أن مجموع الجيش الروماني كان يقارب 40,000 رجل, بينما هنيبعل كان تحت إمرته تقريبا 26,000 رجل, بالإضافة إلى ذلك الرومان اتخذوا موقعا على طول نهر تريبيا, لهذا لم يجرؤ هنيبعل من اجتياز النهر في مواجهة خيرة الفرسان الرومان, ولم يملك المساحة الكافية من المناورة. وكان عليه تحقيق انتصار قوي وسريع إذا ما أراد فعلا تأكيد الجانب السياسي من إستراتيجيته.

تمكن هنيبعل مرة أخرى من تلطيخ سمعة الرومان من خلال إستراتيجيته التي قامت على نصب فخ آخر للرومان جعلهم يعبرون النهر وذلك من خلال إرسال قوة من المشاة للاشتباك مع الرومان بعد أن قطعوا النهر, وما أن هاجم الرومان هذه القوة حتى بدأت القوة القرطاجية بالانسحاب الاستراتيجي حتى عبروا إثناء تراجعهم النهر الأمر الذي أغرى الرومان بعبور النهر ضنا أنهم أنها فرصة للإجهاز على القرطاجيين.

لقد كان الوقت شتاء حالك البرودة من شهر ديسمبر, وكان الجو ماطرا, وكانت مياه النهر تصل تقريبا لصدور الرجال, وبالتالي ما أن وصل الرومان للضفة الثانية حتى كانوا نصف مجمدين. وكان هنيبعل قد بدا هجومه في الصباح في نفس الوقت لم يعطي قائد الرومان فرصة لأفراد الجيش لتناول الغداء بينما كان الجيش القرطاجي قد تغدوا بشكل ممتاز, وكانوا يتدفئون بالنار التي أوقدوها وبعد أن دلكوا أجسادهم بالزيوت لتحميهم من البرد.

بالإضافة إلى ذلك, قام هنيبعل بإخفاء أكثر من ألف فارس وألف من المشاة, خلف الأشجار, وبعد أن احتدم القتال كشف هنيبعل عن الكمين الذي نصبه للرومان وظهر الفرسان والمشاة من خلف خطوط الرومان فأحاطوا بهم من كل جانب.

النتيجة كانت انتصارا مدويا لهنيبعل وهزيمة ساحق للرومان, لقد كانت مذبحة للقوات الرومانية لم ينجو منها سوى 10,000 جندي روماني تمكنوا من العودة لروما.

عندما رأت القبائل الغاليك هذا الانتصار بدأت تنظم لهنيبعل وبانضمامها تحققت أهداف هنيبعل من تحقيق انتصار مدوي على روما, وكذلك زرع ثقة القبائل في مقدراته على قيادتهم لهزيمة روما.

بعد فترة قصيرة أصبح الشمال الإيطالي وبشكل غير مباشر حليفا لهنيبعل , لهذا قامت قبائل الغولز , والليقوريان (Ligurian) بضخ دماء جديدة للجيش القرطاجي حتى اكتمل لهنيبعل 40,000 ألف جندي, وأصبح جيش هنيبعل الآن جاهزا لإجتياج إيطاليا.

معركة بحيرة تراسيمين (Lake of Trasimene)

بعد أن أمن هنيبعل موقفه في الشمال الإيطالي من خلال انتصاره المدوي في معركة تريبيا, قام هنيبعل بتجميع جيشه باحثا عن معسكر أكثر أمانا’ لهذا تحرك هنيبعل جنوبا, في نفس الوقت خاف الرومان من أن يكون هنيبعل تحرك باتجاه روما, فقام كل من كناوس سرفاليوس (Cnaeus Servilius) و جيوس (Gaius Flaminius), القائدين الجديدين لروما, بأخذ جنودهما لسد الطريق الشرقي والغربي على هنيبعل التي من الممكن أن يستخدمها هنيبعل لغزو روما.

وكان الطريق الوحيد المؤدي إلى وسط إيطاليا يقع في أرنو, هذا الطريق كان بشكل عملي واسعا وكان في ذلك الوقت قد طمر بالمياه أكثر من المعتاد في مثل هذا الموسم من السنة. كان هنيبعل يعلم أن هذا الطريق ملئ بالمصاعب لكنه بقي الحل الأمثل لديه لأنه أسرع طريق لوسط ايطاليا.

وكما يدعي بوليبيوس (Polybius) المؤرخ, أن رجال هنيبعل ساروا في هذا الطريق لمدة أربعة أيام وثلاثة ليال وهو يعانون من الفطريات والرغبة في النوم, وما أن قطع هنيبعل ابينوس (Apennines) حتى أصيب بالتهاب في باطن الجفن في عينه اليمنى افقدها البصر, إنتزع هنيبعل عينه اليمنى حتى لاتعيقه وأكمل المسير, وخسر هنيبعل في هذا الطريق الكثير من رجاله وبقية الفيلة التي جلبها معه.

وصل هنيبعل إلى اتروريا (Etruria), في ربيع سنة 217 ق.م. عندها قرر هنيبعل إغراء الجيش الروماني الأساسي بقيادة فلامينيوس (Flaminius) إلى معركة سريعة, وكما يقول بوليبوس, أن هنيبعل كانت حساباته تقوم على أساس انه لو تجاوز المخيم الروماني وتمكن من الانتقال إلى منطقة خلف قوات فلامينوس من الممن أن يصيبهم بالإحباط ويجعلهم يلاحقونه الأمر الذي سوف يوفر له فرصة للهجوم عليها.

في نفس الوقت, حاول هنيبعل أن يحطم ولاء حلفاء روما من خلال إثبات أن روما غير قادرة على حمايتهم.

بالرغم من ذلك, وجد هنيبعل أن فلومينيس لم يحرك ساكنا وبقي في معسكره في اريتيوم (Arretium) غير قادر على سحب فلومينيس إلى معركة من خلال أعمال التخريب التي قام بها في مناطق حلفاء روما, عندها قام هنيبعل بالسير بشكل جرئ حول ميسرة الجيش الرومي وتمكن وبشكل حاسم من فصل فلومينس عن روما وتمكن من تسجيل أول حركة التفاف في التاريخ العسكري. متقدما نحو اتوريا, أجبر خلالها هنيبعل عدوه فلومينيس على مطاردته

بعد أن اجتاز هنيبعل بحيرة تراسيمين, وصل إلى منطقة مناسبة جدا لوضع كمين , وما أن سمع أن فلومينيس قد أزال معسكره وتعقبه حتى قام بعمل التجهيزات الملائمة للمعركة التي أوشكت على أن تبدأ. في الشمال كانت توجد مجموعة من الأحراش والغابات الكثيفة على طول الجزء الشمالي من البحيرة, وعلى طول حدود التلة التي تلتف حول البحيرة أقام هنيبعل معسكره من الموقع الذي يتيح له أفضل رؤيا لساحة المعركة المرتقبة ولكل من يدخل من الممر الشمالي الضيق, واستغرق هنيبعل الليل وهو ينظم صفوفه للمعركة المرتقبة. وأسفل المعسكر, قام هنيبعل بوضع المشاة من الليبيريين, ألسلتك, والأفارقة على منحدر صغير وهو الأمر الذي يسمح لها بالحركة والنزول سريعا حسب مقتضيات المعركة, أمام مقدمة الجيش الروماني.

في نفس الوقت وضع هنيبعل فرسانه الأشداء, والمشاة من الجاليك مختبئين في الأحراش والغابات المجاورة في الوادي الذي يفترض أن يدخل منه الجيش الروماني حتى يتمكنوا بسرعة من الدخول وإقفال الطريق حتى يمنعون الجيش الروماني من التراجع. ثم قام بوضع بعض القوات الخفيفة على فتحة على طول التلة حتى يطلون منها على الأرض , مع أوامر بالاختباء بين الأشجار حتى تأتيهم الإِشارة بالهجوم.

بالإضافة إلى ذلك, في الليلة التي سبقت المعركة, قام هنيبعل بإعطاء الأوامر بإيقاد نار المخيم على تلال تورينو في مسافات ليست بعيدة, حتى يقنع الرومان أن قواته بعيدا جدا عن الموقع الحقيقي الذي هم مخيمين فيه.

في صباح اليوم التالي, وصلت الفرق الرومانية إلى الجانب الشرقي, وعلى طول الطريق وهي مسرعة في عبورها للجهة الشمالية من البحيرة, وكان فلامينيوس يدفع رجاله بدون رحمه للقتال, وكان يستعجل القوات في المؤخرة على المضي قدما.

عندها أرسل هنيبعل مجموعة قتالية صغيرة للمناوشة ولكي تسحب طلائع الجيش بعيدا عن مقدمة الصفوف, حتى تسمح لبقية الجيش الروماني من للانقضاض إلى الشرق. وما أن تحرك الجيش الروماني خلال الوادي الطويل والذي اكتسى بالضباب ودخلوا الأرض المنبسطة حتى تعالت أصوات الأبواق معلنة بداية الهجوم.

عندها نزل الفرسان القرطاجيون والمشاة من التلال المحيطة, واقفلوا الممر الضيق وانقضوا على الرومان من كل اتجاه, وتحت وطأة المفاجأة والمناورة المتقنة من القرطاجيين لم يكن لدى الرومان الوقت للانسحاب بطريقة منظمة وأجبروا على القتال يدا بيد في وضع لا أمل فيه في وضع مكشوف. انقسم الرومان بسرعة إلى ثلاثة فرق. الفرقة التي كانت في الغرب هاجمها الفرسان القرطاجيين وتم دفعها إلى البحيرة تاركة الفرقتين الأخريين مطوقة من جميع الجهات. المركز ومعهم قائدهم فلامينسوا التزما أماكنهم حتى قطعها الغول التابعين لهنيبعل بعد ثلاثة ساعات من القتال الشرس.

في ثلاث ساعات, كان الجيش القرطاجي قد قضى على الجيش الروماني ملحقا به هزيمة شنيعة, وعندما رأت مقدمة الجيش أن المؤخرة تداعت حاولت الهرب من خلال إيجاد طريق لها مخترقة القوة التي أرسلها هنيبعل لمناوشتها ولم يتمكن عدا 6,000 رجل فقط من النزوح بسلام تحت غطاء من الضباب ليتم إلقاء القبض عليها في اليوم التالي. ومن ضمن مجموع الجيش الروماني الذي بلغ 30,000 تم قتل النصف إما على ارض القتال أو غرقا في البحيرة ومن ضمنهم قائد الجيش فلامينسو, بينما تم إلقاء القبض على النصف الآخر كأسرى حرب. بينما لم تتعدى خسائر هنيبعل أكثر من 1,500 رجل ( وهو ما يمثل نسبة خسارة رجل إلى عشرة من الجيش الروماني).

لكن الخسارة الرومانية لم تنتهي عند هذا الحد, إذا بعد يوم أو يومين وصلت قوة رومية مكونة من 4,000 رجل للتعزيز تمت مواجهتها والقضاء عليها.

بعد نهاية المعركة كان هنيبعل قد حطم القوة الوحيدة التي كان من الممكن أن تعيق تقدمه نحو روما, وكان هنيبعل يعلم انه بدون حصار عسكري قوي لن يتمكن من السيطرة على العاصمة الرومانية’ لهذا فضل هنيبعل أن يستثمر انتصاره من خلال العبور إلى وسط و جنوب ايطاليا لتشجيع جميع المدن على الثورة ضد القوة السيادية لروما.

بعد معركة بحيرة تراسيمينوس, صرح هنيبعل بأنه لم يقدم إلى إيطاليا لمحاربة الإيطاليين, ولكن لمحاربة روما نيابة عن الإيطاليين.

ودمتم

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

11 thoughts on “هنيبعل الأسطورة الخالدة ( الحلقة الثانية)

  1. اسلوبك رائع في كتابة التاريخ….انا رايح الحج صباح الاربعاء وان شاء الله نتابع وياك القصة بعد العودة ….وتستاهل دعوة يوم وقفة عرفة

  2. انها معجزة عسكرية ان يصعد هنيبعل بجيش كامل فيه عدد كبير من الفيلة جبال الألب. ولكن كما قال استاذنا درهم بن دينار لا مستحيل مع الارادة والعزيمة.

    شكراً على الموضوع وعلى السرد والتوثيق التاريخي.

  3. بسم الله الرحمن الرحيم

    جزاك الله خيرا اخي العيناوي على مرورك وعلى تعليقك الجميل

    التاريخ علمنا دروس مهمة في الحياة, والي مايتعلم من التاريخ مابيعرف كيف يتعامل مع الحاظر والمستقبل

    ومثل ما نقول نحن في التحليل الفني: التاريخ يعيد نفسه

    هذه القاعدة صالحة للتطبيق في كل مناحي الحياة ولا تقتصر على التحليل الفني

    ودمتم

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

  4. بسم الله الرحمن الرحيم

    توقعت ان لايقرأ الكثير من الإخوة هذه الحلقة إذا ما كتبتها كتكملة في نفس رابط الحلقة الأولى, لهذا ها أنا أعيد طرحها بشكل منفصل.

    جزا الله خيرا كل الإخوة والأخوات الذين لولا تشجيعهم لتوقفت عن إكمال هذا الموضوع المتعب جسديا الجميل والممتع عقليا وروحيا فكل خطوة من خطوات البحث والمراجعة والدراسة لعشرات الكتابات حتى أصل لتصور أمثل لأحداث وقعت قبل 200 سنة من ولادة المسيح عليه السلام الخص من خلالها الحرب البونية الثانية متمثلة في عبقرية هنيبعل الذي تمكن من تحقيق معجزة من خلال اجتياز جبال الألب, وهي المعجزة العسكرية التي أثارث خيال العسكريين والأدباء ومازالت تدرس حتى يومنا هذا.

    جزاكم الله خيرا

    اليوم نحن على موعد مع الجزء الثاني من قصة الأسطورة الخالدة هنيبعل, في هذا الجزء سوف أعود قليلا لأغطي بشيء من التفصيل قصة عبور الجيش القرطاجي لجبال الألب والمصاعب التي عاناها والخسائر التي تكبدها حتى تحقق له ما أراد ووطئت إقدامه أرض الرومان في شمال إيطاليا.

    وكذلك عن أولى معركتين خاضهما هنيبعل ضد القوات الرومانية لنتعرف على عبقرية هنيبعل الذي أطلقت عليه الكثير من الألقاب فتارة هو الساحر, وتارة هو أبو الإستراتيجية العسكرية نعم هنيبعل يسمى لدى الكثير من المراجع العسكرية أبو الإستراتيجية العسكرية.

    هلموا إذا لنعيش هذه الأحداث معا

    ——————————————————————————–

    دعونا الآن نفتح نافذة على التاريخ لنطل منها على الأحداث التي رافقت سير هنيبعل على جبال الألب.

    بعد أن اجتاز هنيبعل وجيشه نهر الرون كان قد بلغ عدد جيشه في ذلك الوقت 38,000 من المشاة و 8,000 فارس و 37 فيلا حربيا.

    في ذلك الوقت, وصلت أنباء عن إرسال روما لجيش بقيادة سكيبيو الذي سوف يعرف بعد ذلك ب سكيبيو الأفريقي لكي يقطع الطريق على هنيبعل ويواجهه في ليبيريا ( أسبانيا) , لكن سرعة تحرك هنيبعل أدهشت الرومان.

    فكر هنيبعل كثيرا , هل يغير من خط سيره وينزل أدنى نهر الرون لكي يواجه سكيبيو, أم يتركه وشأنه لينفذ ما عزم على تنفيذه دون تأخير؟

    قائد في عبقرية هنيبعل كان يعرف أهمية الوقت وأهمية الحرب على الأرض الرومانية, بينما الجنود كانوا يفضلون مواجهة سكيبيو على صعود جبال الألب, فهم في النهاية جنود ولا يهابون المعارك لكن تلك المرتفعات الشاهقة والمجهولة لديهم كانت تبث الذعر والخوف بينهم, كانوا يخافون من الإنزلاقات من القمم, وانزلا قات الصخور عليهم, وكانوا يخشون من صعود هذه القمم الموحشة وهم مثقلين بأحمالهم وعتادهم في جبال تكسوها الثلوج والصقيع.

    عندما شعر هانيبال بخوف جنوده من الصعود إلى الجبال استدعى المجموعة القيادية في الجيش وتحدث إليهم عن مخاوفهم الغير واقعية بعد أن وصلوا إلى هذا الحد في تنفيذ خطتهم الجسورة وصاح بهم:

    لقد تجاوزتم البيرينية (Pyrenees) وعبرتم نهر الرون وأنتم الآن وقد تراءت لكن جبال الألب وهي البوابة لدخول بلد الأعداء. ماذا تتصورون أن تكون جبال الألب؟ إنها لا تعدوا عن كونها جبال مرتفعة بأي حال, بافتراض أنها أعلى من البيرينية, هذه الجبال لن يصل ارتفاعها إلى السماء, ومادام أنها لا تصل إلى السماء, إذا هي لا يمكن أن تكون مستعصية علينا.

    في الحقيقة هذه الجبال تقطع كل يوم , وحتى أنها أصبحت سكنا , وموئلا للكثيرين, والمسافرين يقطعونها كل يوم من طرفها إلى الآخر, وما يمكن لرجل بمفرده أن يقوم به, يمكن لجيش أن يقوم به, إن الجيش يتكون من مجموعة أكبر من الأفراد, في الحقيقة بالنسبة للجندي الذي ليس لديه ما يحمله سوى العتاد الحربي لا يمكن بأي حال أن يكون عبور الألب صعبا إذا امتلكنا العزيمة والقوة.
    بعد أن انهي هنيبعل حديثة, وجد رجاله وقد تشبعوا عزيمة وقوة وإصرار , عندها أمرهم بالذهاب لخيامهم ليرتاحوا استعداد للمسير في اليوم التالي.

    لم يكن هنيبعل يود لقاء سكيبيو خارج الأرض الرومانية, كان متلهفا لملاقاة الرومان على الأرض الرومانية , لهذا وحتى يصل هنيبعل لهدفه , قرر أن يسير نحو أعلى نهر الرون , في طريق غير مباشرة توصله لداخل منطقة جبال الألب.

    عندما علم سكيبيو بأن هنيبعل سبقه في وجهته وأنه من المستحيل أن يلاقيه على ارض ألغال (فرنسا) قام بترحيل جنوده عن طريق البحر إلى إيطاليا استعدادا لأي احتمال غير متوقع.

    تحرك هنيبعل باتجاه جبال الألب لمدة أربعة أيام حتى وصل في بدايات سبتمبر إلى رافد من روافد نهر الرون (إيسير– Isere) ومن الممن أن يكون داي Die, وفي ذلك الموقع استراح الجيش القرطاجي يومين وليلتين, ثم أستأنف بعد ذلك مسيره محاذيا لضفة إيسير اليسرى, وفي عشرة أيام من السير المتواصل بلغ جيش هنيبعل مونمليان واجتازها حتى وصل إلى جبال الألب.

    أحداث اليوم الأول (1):

    من دورونتيا , تقدم هنيبعل نحو جبال الألب سالكا طريق السهول المفتوحة دون أن يواجه أي معارضة من القبائل المحلية, ولقد كانت طبيعة جبال الألب مجهولة تماما لدى رجال هنيبعل, منهم من سمع عنها من خلال بعض ما كتب عنها , ومنهم من سمع عنها من خلال الكثير من الشائعات التي راجت في ذلك الوقت, وبالرغم من أن مجال الإشاعات يفتح المجال للمبالغة إلا أنهم يعلمون أنهم بدأو يدقون أبواب الحقيقية التي سوف تفتح لهم أبوابها لكي يتحققوا من الأمر بأنفسهم في الأيام القادمة.

    إن الصور المرعبة التي تكونت في أذهانهم عن وعورة جبال الألب هي الآن أمامهم, القمم الشاهقة, المرتفعات المكسورة بالجليد والتي ترتفع لتعانق السماء, الطرق المنزلقة هناك في الأعالي, وليس آخرا سكان هذه القبائل من الرجال الشعث الذين لا تبدو على هيئاتهم غير النظرات الحادة, وحتى الحيوانات الجبلية الضارية, كل هذا وأكثر مما تخبئه لهم جبال الألب كان على مرمى بصر منهم وهو أكثر مما يمكن للكلمات أن تصفه, إن هذه الصور هي لمحة لما تخزن في إدراك وعقول الرجال الذين لم يخبروا من قبل جبال الألب.

    تحرك هنيبعل والجيش سيرا باتجاه جبال الموريان, وهناك عند أول منحدر, كان اللقاء مع قبائل الألوبروج (The Allobroges) وهي من قبائل السلتيك الحربية القوية المعروفة ببأسها الشديد في القتال, لقد كانت هذه القبائل تراقب جيش هنيبعل وهو يدخل منطقة جبال الألب فتربصت به رغبة منها في اصطياد الجيش بين الممرات الضيقة مما يعطيها فرصة كبيرة لمهاجمته وسلب غنائمه.

    هنيبعل الذي لم يكن يترك شاردة وواردة ولم يكن ليتكل على أدلائه الذين وعدوه بإرشاد الجيش إلى مسالك آمنه, قام بإعداد خطة محكمة وأمر الجيش بالتخييم في منطقة كانت عبارة عن سهل واسع بين الجبال ثم اختار وفدا من أفراد القبائل الغولية ( الفرنسية) الذي هم بأنفسهم رجال قبائل تعيش في الطرف الآخر من نهر الرون وكانوا يعرفون لغة وعادات الألوبروج.

    لقد أرسل هنيبعل الوفد للقيام بمهمتين الأولى التفاوض مع هذه القبائل للمرور بسلام أو هكذا أراد هنيبعل أن يعتقد أعدائه, والثانية وهي المهمة الحقيقة , كانت تهدف إلى التعرف على هذه القبائل ومواطن قوتها وضعفها وعاداتهم في الحرب.

    أحداث اليوم الثاني:

    السير نحو سد قمة دي كابري (March Towards Blocked Col de Cabre) :

    نجح الوفد في مسعاه وعاد وأخبر هنيبعل بنتائج الزيارة , ومن ضمن النقاط التي ذكروها لهنيبعل أن الألوبروج مصممون على القتال إلا أنهم لا يقاتلون إلا نهارا فإذا أسدل الليل خيوطه اقفلوا عائدين إلى قراهم وسكناهم حتى صباح اليوم التالي.

    كانت هذه المعلومات كافية لهنيبعل لكي يرسم خطته, ولما أقبل الليل, أمر هنيبعل الفرسان بوضع أمتعتهم في المخيم وبشكل واضح ليراهم الألوبروج, ثم أمر بإيقاد النيران حتى أوقد الجنود نيرانا أكثر من المعتاد في سبيل تضليل قبائل الألوبروج ثم أمر الجنود بالبقاء في خيامهم حتى يعتقد الألوبروج أن هنيبعل سوف يخيم ولن يتحرك في المساء.

    انطلت الحيلة على قبائل الألوبروج التي ما أن رأت النيران حتى انسحبت من مواقعها وعادت إلى قراها, وكانت هذه فرصة هنيبعل التي انتظرها إذ ما أن انسحب الألوبروج وتأكد من تخليهم عن أماكنهم حتى أمر الجيش بالتحرك على عجل حتى اجتاز الأماكن الخطرة التي كانت تمثل خطر على جيش محمل بالعتاد العسكري.

    أحداث اليوم الثالث:

    (هجوم ألألو بروج على مؤخرة الجيش, ووصول هنيبعل ل جاب Enemy attack on baggage train; Capture of Gap).

    ما أن أشرقت شمس اليوم الثالث حتى عادت قبائل الألوبروج لمواقعها التي كانت قد تركتها في الليلة الماضية فتفاجأت بعدم وجود المخيم حيث تركته, بل وأصيبت بحالة من الصدمة وهم يرون جزءا من جيش هنيبعل هناك في الأعلى وقد ارتقى في سيره مكانا أعلى من الذي كانوا يتجمعون فيه , بينما مازال بقية من الجيش تسير أدنى منهم.

    راقبت هذه القبائل الصعوبات التي يمر خلالها جيش هنيبعل في الممرات الضيقة , هذه الممرات التي فرقت الجيش بحكم ضيقها وكذلك عملت على إجفال الخيول التي لم تتعود السير على المرتفعات, والحقيقة وجد الجيش القرطاجي نفسه أمام عدوين الأول كان القبائل العنيدة المقاتلة التي تتربص به شرا, والثاني كانت الظروف الصعبة التي تفرزها طبيعة جبال الألب خصوصا عند المرور في تلك الممرات الضيقة التي كانت تقطع الجيش إلى فرق بحكم ضيق المساحة المتوفرة للتحرك, حتى أصبح الأمر وكأنه على كل رجل من رجال هنيبعل أن يحمي نفسه بنفسه.

    وكانت الخيول الغير مدربة على مثل هذه المواطن , قد اعتراها الخوف من الضجيج الذي خلقه تحرك جيش في منطقة ضيقة بين الجبال مما خلق صدى ضل يتردد بين جنبات الجبال المحيطة الأمر الذي أفزع الخيل وخلق بعد ذلك فوضى عارمة في الجيش.

    عندما رأى قبائل الألوبروج هذه المصاعب التي يمر بها جيش هنيبعل , زالت حالة الصدمة, ومن ثم استجمعت هذه القبائل تركيزها وثقتها وقواها مرة أخرى وبدأت في رمي مؤخرة الجيش بالحجارة من مواقعهم العالية , فتسببت هذه الحجارة المتساقطة بزيادة جفول الخيول وبالتالي المزيد من الفوضى التي تسببت في سقوط الكثير من الرجال من على أطراف السفوح إلى الأرض وتسبب بالتالي بالكثير من الخسائر.

    هنيبعل راقب الموقف بهدوء وقد أبقى مقاتليه الأشداء معه, بالرغم من أن الموقف كان يصدم كل من يراه من الأعلى, إلا أنه علم أن النزول في تلك الممرات الضيقة لن يضيف الموقف إلا تعقيدا, حتى بدأ الرتل يتفكك وشعر أنه لا فائدة من مرور الرجال دون عدتهم وعتادهم عندها أيقن أن الوقت حان للتحرك, لهذا نزل هنيبعل مع فرقة من الجنود الأشداء من الأعلى وشق صفوف الألوبروج الذي انهزموا وانكفأو خاسرين, وبالرغم من أن نزوله إلى مؤخرة الجيش أضاف شيئا من الإرباك إلا أن هذا لم يدم إلا دقائق معدودة حتى عاد النظام للجيش , وعاد الهدوء , وانفتحت أمام الجيش الطريق ليخرج من هذا المأزق بأمان.

    قبض هنيبعل على قائد القرية التي تمثل حصن هذه المقاطعة , بالإضافة للقرى المجاورة ووضعه تحت الحراسة, وكانت الغنائم التي غنمها من الأبقار والحبوب كافية لتغذية الجيش لمدة ثلاثة أيام متتالية. وهكذا علم هنيبعل رجال القبائل درسا آخر في عدم التصدي له.

    أحداث الأيام من اليوم الرابع وحتى السادس:

    المسير دون عوائق نحو قمة مونتجينيفر Easy march towards col du Montgenevre)

    استمر الجيش في مسيره بعد هذه الواقعة لمدة ثلاثة أيام دون أي مشاكل تذكر وهو الأمر الذي أعطى فرصة للجيش لكي يعوض ما فاته ويحرز تقدما كبيرا في مسيره.

    أحداث اليوم السابع:

    (مبعوثون من قبيلة قرب برينكون Envoys from tribe near Briancon).

    مع وصول هنيبعل إلى القمم الشاهقة, وإلى مناطق نفوذ قبائل جبلية أخرى كاد هنيبعل أن يقع في فخ تم نصبه وكاد أن يفقد حياته, لولا الخبرة التي اكتسبها هو ورجاله من التعامل مع رجال هذه القبائل المخادعة.

    إذ بينما هنيبعل يسير بالجيش , تقدم إليه رجال مسنين من أفراد القبائل التي تقطن تلك المنطقة وهم يحملون في أيديهم أغصان الأشجار وعلى رؤوسهم أكاليل من الأزهار. عرض هؤلاء الرجال تقديم أبنائهم رهائن وإدلاء لكي يعينوا هنيبعل على استكشاف خط سيره, وكانت هذه الطريقة معروفة في ذلك الوقت كتعبير عن الخضوع والتماس الرفق والرحمة.

    استمع هنيبعل لأقوالهم وهو يقرأ في عيونهم غير ذلك, إلا أنه شكرهم على قدومهم وعلى عرضهم, لم يكن هنيبعل يريد أن يبدأ هو المعركة لأنه كان يفضل المرور بسلام دون أن يجهد رجاله في قتال لا طائل منه ولا يخدم أهدافه. لهذا رد على القوم بطريقة ودية, فوافق على الاحتفاظ بالرهائن واستخدم ما قدم له من مؤن كان يحتاجها جيشه, وتبع دليلهم الذي عرضوه لكي يدل هنيبعل على انسب الطرق للوصول إلى هدفه.

    علم هنيبعل إنهم ينوون الغدر به, لهذا قدم هنيبعل الفرسان إلى المقدمة مع الأفيال ثم بقي هو مع قوة ضاربة من الفرسان والمشاة الأشداء لحماية مؤخرة الجيش. وما أن أشرقت الشمس, وتحرك هنيبعل حتى أظهرت الأحداث بعد ذلك صدق حدسه, لقد تحول أولائك الخاضعين إلى ذياب جائعة تتبع مؤخرة الجيش القرطاجي, وما أن دخل جيش هنيبعل في ممر اسيون ذي الممرات الضيقة الصعبة حتى ظهر رجال القبائل من مخابئهم وقد شنوا هجوما على الجيش من المقدمة والمؤخرة وقد وثبوا وثبة واحدة وهم يرمون بنبالهم وحرابهم الجيش.

    في ليلة اليوم الثامن:

    في ذلك المساء اشتد هجوم تلك القبائل وكان الضغط الأكبر موجها نحو هنيبعل في المؤخرة, وتمكنت القبائل من فصل مقدمة الجيش عن المؤخرة, مستغلة الطرق الضيقة , ولأول ليلة وجد هنيبعل نفسه مفصولا عن فرسانه في المقدمة مع عتادهم الحربي, إلا أن هنيبعل تكفل وهو وفرسانه بصد الهجوم الذي شنته هذه القبائل وكبدها الكثير من الخسائر.

    أحداث اليوم الثامن:

    التحام جيش هنيبعل بالقرب من برينكون والمسير بإتجاه قمة جينيفر
    Hanniabl’s army united near Briancon: March towards col du mont Genevre.

    في اليوم الثامن وبعد ظهور بوادر الهزيمة على هذه القبائل, تحولت جموع منهم إلى ذياب جريحة جائعة ضلت تتبع الجيش القرطاجي من على سفوح الجبال لكي تتحين الفرصة لترمي الجيش بالصخور من الجبال العالية أو تبطش بكل من تأخر عن الجيش لمرض أو لسبب آخر.

    عندها قرر هنيبعل بنفسه الدفاع عن مؤخرة الجيش, فصعد بهم إلى السفح المطل على الوادي الذي يسير فيه الجيش, وجعل ظهره مواجها للجبال والصخور متأهبا لأي تحرك من تلك الفلول التي مازالت تطارد جيشه حتى مر الجيش وحتى آخر جندي من ممرات اسيون الضيقة.

    والحقيقة لولا براعة هنيبعل وعبقريته الحربية وفطنته لما تمثله هذه القبائل من خطر, ولولا اختياره المؤخرة لما أمكن حماية الجيش القرطاجي من بطش هذه القبائل المتمرسة على الحرب في تلك التضاريس القاسية.

    أحداث في اليوم التاسع:

    وصول جيش هنيبعل لقمة مونتجينيفر Hannibal’s army reaches the col du(Montgenevre.

    بعد أن اجتاز هنيبعل ممر اسيون في صباح اليوم العشرين من شهر سبتمبر, استمر في السير عبر معابر جبلية لم تطرق من قبل, أحيانا لخطأ الإدلاء, وأحيانا كانت طرق مدروسة, حتى ظهرت له قمة جبل سنيس الشامخة, عندها أمر الجيش بالاستراحة حتى الظهر ثم استأنف مسيره من الظهر حتى وصل للقمة قبل الغروب.

    أحداث اليومين العاشر والحادي عشر:

    التوقف التخييم على قمة مونتجينيفر Halt on the summit of col du montgenevre

    في الصباح قام هنيبعل فرأى منضرا غريبا, عودة العشرات بل المئات من رجاله الذين حسبوا مفقودين في حين أنهم تأخروا من التعب والإرهاق والتيه بسبب الظلام وهم يعبرون الممرات الضيقة , بالإضافة إلى هجمات القبائل على مؤخرة الجيش التي ولاشك أنها فرقت البعض منهم.

    لم يكن الأمر مقتصرا على الرجال فقط, بل تبعهم عدد لا يقل من الخيول والبغال والأبقار التي كانت قد طرحت أحمالها ونفرت بين الأودية والجبال إلا أنها عادت مدفوعة بالغريزة الحيوانية حتى استهدت لموقع الجيش.

    خيم هنيبعل لمدة يومين على القمة, حتى يعطي رجاله الوقت لكي يرتاحوا من المصاعب الجمة التي رافقت رحلة الصعود وكذلك من المعارك التي خاضها هنيبعل ورجاله ضد رجال القبائل الشرسين في الممرات الضيقة.

    أحداث اليوم الثاني عشر:

    قمة جبل سنيس Summit of Cenis

    كان الجو في ذلك اليوم صافيا جميلا تمكن هنيبعل من خلاله من أن يلاحظ من بعيد خضرة السهول الإيطالية البديعة ووادي نهر بو يلوح في الأفق, ولأول مرة يرى هنيبعل ارض أعدائه أمامه بمروجها وحقولها ومراعيها فانشرح قلبه وامتلأ سعادة لا توصف, إلا أنه وعندما شاهد رجاله سواء من وصل لتوه أو من بات في مخيمهم وقد اكتساهم القلق والوهن والشرود, فأمرهم بالتجمع هناك على جبل سنيس.

    هناك في مكان عال على جبل سنيس (Mount Cenis) وقفت مجموعات من البشر غريبة على المكان, يبدو عليهم الوهن والشرود, يرتدون أسمالا ويجرون أثقالا على كواهلهم ورؤوسهم لا تكاد ترتفع عن صدورهم من المشقات والمصاعب التي واجهوها وهم يسيرون في رحم المجهول حتى لفظهم في نهاية الأمر على جبل سنيس.

    وأمام هذه الجموع الشاردة كان هنيبعل بهمة ونشاط دون كلل أو ملل تحسبه لم يمر بما مر به القوم من أهوال وصعاب, هو من ذاك المعدن الأصيل الذي كلما دعكته الظروف ازداد بريقا ولمعانا.

    وعلى مرتفع يطل على إيطاليا, أوقف هنيبعل الجموع, ثم أشار بيده إلى السهول والوديان وصرخ بهم

    انظروا …………..

    وساد الصمت المكان, ورفع الفرسان والجنود إبصارهم نحو الأفق بعيدا, وكأنهم يقولون أي هنيبعل إلى ماذا ننظر؟ لم تكن تظهر لديهم غير سهول بعيدة خالية من أي لون بهيج, ولم يكن يظهر لهم منها شي بعد.

    لكن هنيبعل لم يكن ليترك لليأس فرصة ليجد مكانا له في قلوب رجاله بل استطرد وهو يعرف ما في نفوسهم وقد خبرهم منذ زمن بعيد قائلا:

    يا رجالي

    أيها الجنود البواسل

    لقد تجاوزتم الحدود التي كانت تحمي إيطاليا, ليس هذا وحسب, بل إنكم تمشون على أسوار روما العالية, من الآن وصاعدا لن يكون هناك جبال تتسلقونها, وبعد معركة أو اثنتين سوف تكون لكم عاصمة إيطاليا, حصن روما لتحتظنونها بذراعيكم.

    لقد وصلتم إلى مشارف إيطاليا وهي تلوح أمامكم, أنتم اليوم جائعون خائرو القوى, لكن هناك ستدخلون مدنا عامرة تزخر باللذائذ من أصناف من الطعام والشراب وتعج بالكنوز والتحف الثمينة. أنتم هنا تفترشون التراب وتتوسدون الحجارة والصخور, بينما تنتظركم هناك الأسرة الوثيرة لتمنحكم السعادة والدفء عوضا عن الليالي الباردة والمطيرة التي قضيتموها في سيركم.

    ومد يده نحو الأفق وهو يقول: كل هذا ينتظركم هناك, كل هذا سيكون لكم, وهاهي الطريق مفتوحة أمامكم لتركعوا روما ولتكونوا أبطالا تستحقون المجد.

    أي سحر هذا ياهنيبعل

    ما أن أكمل هنيبعل كلامه حتى عادت الألوان للصورة, وعادت الحياة تذب في نفوس وعقول الجنود, وبدؤوا يرون ما لم يكن يرونه قبل دقائق وكأن كلماته مطايا امتطوها فجالوا من خلالها على كل سهول ووديان ومدن إيطاليا.

    أي سحر هذا ياهنيبعل

    لقد لامست هذه الكلمات شغاف قلوب الرجال, وملأتهم عزيمة وقوة وإصرار على تحقيق المستحيل. تحرك الجيش بعدها وواصل المسير نزولا من جبال الألب دون أي اعتراض وكل منهم يمني نفسه بالنصر والمجد.

    هنيبعل كان قائدا فذا وعبقريا في فهم نفسية رجاله, وكان يعرف متى يتحدث إليهم كصديق ومتى يصدر لهم الأوامر كقائد, كيف لا وهو قد عاشرهم طويلا وخبر نفوسهم وروحهم القتالية حتى أصبح يعرف كيف يقودهم إلى المجهول دون خوف من أي اعتراض منهم.

    النزول من سفوح جبال الألب الشرقية وكما ذكر المؤرخين كان في أحيان كثيرة أصعب من الصعود من الجهة الغربية لجبال الألب خصوصا أن الوقت كان في آخر أسبوع من شهر سبتمبر حيث الرياح القوية التي تهب من الشمال , وهو موسم بداية سقوط الثلوج التي كانت تعيق حركتهم, وبالتالي واجهت الجيش الكثير من المشاكل مع الأرض الزلقة التي لم يكن أي منهم قد تعود عليها.

    وكما كان الحال إثناء الصعود كانت كذلك الممرات إثناء الهبوط ضيقة وزلقة وتعرض بعض الرجال للسقوط منها وهم ينزلون من القمم, وسرعان ما وجد الجيش نفسه يسير في ممر له منحدر سحيق من كلا الجانبين , وهو أمر يستعصى حتى على الأفراد الذين لا يحملون معهم أي متاع فما بالك بجيش أخذ منه الجهد كل مأخذ, حتى توقفت مقدمة الجيش أمام انهيار سد عليهم الطريق وهو أمر معتاد في تلك المناطق الجبلية, وعندما توقف الجيش ووصل الخبر إلى هنيبعل ذهب ليرى بنفسه الموقف, عندها علم أنه يجب أن يتخذ طريقا يلتف به من هذه المعضلة حتى يكمل المسير وهو ماقام به إلا أن هذا الالتفاف ادخل الجيش في طريق من المنحدرات الأكثر صعوبة.

    في تلك المنحدرات كانت الأرض قد اكتستها طبقتين من الجليد, الجليد القديم والجليد الجديد الذي سقط مؤخرا في إشارة لدخول فصل الشتاء, وبالرغم من أن هذا الوضع في البداية أتاح موطئ قدم للسير, لكن ما أن كانت تدوسها وتفرقها أقدام كل هؤلاء الرجال والحيوانات المصاحبة لهم من الخيول , والبغال والأبقار حتى أدت إلى تفرقها وبالتالي ذوبان تلك الطبقة من الجليد, وكانت النتيجة مروعة, إذ خلق هذا الأمر جليد غير مستقر تحت إقدام الجيش وهو ما أدى للكثير من الإنزلاقات حيث لم يكن هناك أشجار يمكن أن تستخدم جذوعها لتثبيت الأرضية التي يسير عليها الجيش, وفي النهاية لم يكن أمام الأغلبية من أفراد الجيش سوى التدحرج والانزلاق مع الجليد الذائب.

    وعانت البغال كثيرا من هذا الوضع, إذ أنها كانت تغوص بحوافرها في طبقة الجليد, وكانت في مسعاها للخروج من هذه الطبقة ترافس وتتحرك بقوة الأمر الذي كان يزيد من غرزها في طبقة الجليد أدنى منها, حتى تم احتجاز الكثير منها في تلك المنطقة لتلاقي مصيرها المحتوم.

    ومع حلول المساء, أمر هنيبعل الجيش بالتوقف والحفر لخلق مساحة مناسبة للعبور بالرغم من حجم الجليد الذي تساقط على المنطقة حتى يخفف العبء على الجنود وعلى الحيوانات ثم خيم الجيش ذلك المساء على قمة تلة عالية.

    أحداث الأيام من الثالث عشر وحتى الخامس عشر:

    في صباح اليوم الثالث عشر استكمل الجيش مهمته في بناء طريق يمكن للجيش العبور عليه دون أن يتعرض للغوص في الجليد, حتى ظهرت مشكلة صخرة أعاقت تقدم الجيش وكان من الضروري أن يمر الجيش عبرها, وهي المشكلة التي تصدى لها هنيبعل بحل ذكي عندما طلب من بعض الجنود بتشذيب بعض أغصان الأشجار وقطعها ووضعها حوالي الصخرة, ثم وبمساعدة الرياح تم إضرام النيران حوالي الصخرة العظيمة حتى اشتدت حرارتها ثم أمرهم بصب النبيذ عليها حتى تفتت, فانفتحت الطريق أمام هنيبعل وجيشه لكي يكمل مسيره.

    لكن هنيبعل أمر جيشه بالتخييم هناك وأعطى الجيش فترة ثلاثة أيام ليستريح فيها من عناء ما كابد بالرغم من عدم توفر الطعام والشراب في تلك المنطقة التي كانت تغطيها الجليد, وبعد انقضاء الثلاثة أيام نزل هنيبعل بجيشه ووصل إلى وادي نوفاليز وقد بلغ عددهم 26,000 مقاتل.

    عملية التصعيد والهبوط وبالتالي اجتياز جبال الألب لم تستغرق أكثر من 15 يوما كما يقول أغلب المؤرخين وهي معجزة عسكرية مازالت تخلب لب الكثير من الباحثين في الإستراتيجيات العسكرية قديما وحديثا والذين أطلقوا على هنيبعل بعد ذلك لقب أبو الإستراتيجية العسكرية.

    معركة تريبيا (217 ق.م.):

    بعد نزول هنيبعل من سفوح الجبال إلى شمال إيطاليا بدأ يسير في السهول متجها نحو وادي نهر بو , ظهوره المفاجئ للرومان في وادي نهر بو مكنه من فصل تلك القبائل التي كانت قد ألزمت حديثا بمعاهدة مع روما عن الرومان.

    وادي بو يظهر باللون الأزرق

    بوبليوس سكيبيو ((Publius Cornelius Scipio الذي قاد القوة الرومانية التي أرسلت لإيقاف هنيبعل والتي عادت بعد ذلك لإيطاليا عندما لم تتمكن من اللحاق به, لم يكن يتوقع أن يقوم هنيبعل بمحاولة اجتياز جبال الألب لكن هنيبعل أحدث المفاجأة وتمكن من الوصول لشمال إيطاليا.

    بعد أن أعطى هنيبعل لجنوده قسطا من الراحة, قام هنيبعل بحماية مؤخرة الجيش من خلال إخضاع القبائل التورينية (نسبة إلى مدينة تورين), بينما كان يتحرك نزولا نحو وادي نهر بو, التحم الطرفان في معركة صغيرة في تيسينوس (Ticinus), في هذه المعركة اجبر هنيبعل الرومان من خلال فعالية وقوة فرسانه من إخلاء سهل لومباردي الخالي, هذا الانتصار , بالرغم من أنه يعتبر معركة صغيرة إلا أن كان لها تأثير كبير على سيطرة الرومان على قبائل الغولز, لأنه نتيجة لهزيمة الرومان في تيسينوس, بدأت هذه القبائل تركز نظرها على هنيبعل وعلى دعوته لها بالإنظمام إليه والتخلص من الحكم الروماني.

    في نفس الوقت كان سكيبيو الذي أصيب بجرح كبير في المعركة, انسحب قاطعا نهر تريبيا بجيشه وأقام مخيما في بلدة بلاسنثيا (Placentia) بانتظار الدعم من روما.

    القائد الروماني الآخر أسرع لوادي نهر بو , حتى قبل أن تصل أخبار الهزيمة في تسيسنوس لروما. قام مجلس الشيوخ بإصدار الأمر ل سمبورينوس لونقوس (Longus Sempronius ), بإعادة جيشه من سيسلي , ليجتمع بسكيبيو ومواجهة هنيبعل.

    بعد هذه المعركة كان هنيبعل قد أعلن تحرر القبائل الجرمانية (Germanic) من سيطرة الرومان حتى انضم إليه قلة منهم.

    سنحت الفرص لهنيبعل الآن من تحقيق هدفه ومن إبراز مهاراته العالية في وضع الإستراتيجية المناسبة للمعركة في تريبيا,كان هنيبعل يريد انتصارا سريعا حتى يعطي الثقة لرجال القبائل للإنظمام إليه لأنها كانت تخاف إن انضمت إليه من نقمت روما.

    هنيبعل ومن خلال مناورات ماهرة, وضع نفسه في موقف مكنه من التواجد في منطقة بين بلاسنثيا و ارمينيوم, وهو الأمر الذي اجبر سمبورينوس للسير حتى يلتحم بسكيبيو. عندها تمكن هنيبعل من السيطرة على كلاستيديوم مما مكنه من تزويد جيشه بالمؤن التي كان يحتاج إليها, لكن هذا الانتصار لم يكن بدون ثمن, وذلك لأن سمبورينوس تمكن من تجنب هنيبعل والتحم بسكيبيو في مخيمة بالقرب من نهر تريبيا بالقرب من بلاسنثيا.

    الرومان الآن كانوا قد استنفروا جميعهم لمواجهة خطر هنيبعل الذي تمكن من النجاة من الكثير من الشراك التي أعدت له وتمكن من وضع هالة وسمعة كبيرة وضعت تقريبا في مستوى الهي من البراعة التي كان يمتلكها.

    كل من القائدين الرومانيين كان تحت إمرته تقريبا 20,000 رجل أي أن مجموع الجيش الروماني كان يقارب 40,000 رجل, بينما هنيبعل كان تحت إمرته تقريبا 26,000 رجل, بالإضافة إلى ذلك الرومان اتخذوا موقعا على طول نهر تريبيا, لهذا لم يجرؤ هنيبعل من اجتياز النهر في مواجهة خيرة الفرسان الرومان, ولم يملك المساحة الكافية من المناورة. وكان عليه تحقيق انتصار قوي وسريع إذا ما أراد فعلا تأكيد الجانب السياسي من إستراتيجيته.

    تمكن هنيبعل مرة أخرى من تلطيخ سمعة الرومان من خلال إستراتيجيته التي قامت على نصب فخ آخر للرومان جعلهم يعبرون النهر وذلك من خلال إرسال قوة من المشاة للاشتباك مع الرومان بعد أن قطعوا النهر, وما أن هاجم الرومان هذه القوة حتى بدأت القوة القرطاجية بالانسحاب الاستراتيجي حتى عبروا إثناء تراجعهم النهر الأمر الذي أغرى الرومان بعبور النهر ضنا أنهم أنها فرصة للإجهاز على القرطاجيين.

    لقد كان الوقت شتاء حالك البرودة من شهر ديسمبر, وكان الجو ماطرا, وكانت مياه النهر تصل تقريبا لصدور الرجال, وبالتالي ما أن وصل الرومان للضفة الثانية حتى كانوا نصف مجمدين. وكان هنيبعل قد بدا هجومه في الصباح في نفس الوقت لم يعطي قائد الرومان فرصة لأفراد الجيش لتناول الغداء بينما كان الجيش القرطاجي قد تغدوا بشكل ممتاز, وكانوا يتدفئون بالنار التي أوقدوها وبعد أن دلكوا أجسادهم بالزيوت لتحميهم من البرد.

    بالإضافة إلى ذلك, قام هنيبعل بإخفاء أكثر من ألف فارس وألف من المشاة, خلف الأشجار, وبعد أن احتدم القتال كشف هنيبعل عن الكمين الذي نصبه للرومان وظهر الفرسان والمشاة من خلف خطوط الرومان فأحاطوا بهم من كل جانب.

    النتيجة كانت انتصارا مدويا لهنيبعل وهزيمة ساحق للرومان, لقد كانت مذبحة للقوات الرومانية لم ينجو منها سوى 10,000 جندي روماني تمكنوا من العودة لروما.

    عندما رأت القبائل الغاليك هذا الانتصار بدأت تنظم لهنيبعل وبانضمامها تحققت أهداف هنيبعل من تحقيق انتصار مدوي على روما, وكذلك زرع ثقة القبائل في مقدراته على قيادتهم لهزيمة روما.

    بعد فترة قصيرة أصبح الشمال الإيطالي وبشكل غير مباشر حليفا لهنيبعل , لهذا قامت قبائل الغولز , والليقوريان (Ligurian) بضخ دماء جديدة للجيش القرطاجي حتى اكتمل لهنيبعل 40,000 ألف جندي, وأصبح جيش هنيبعل الآن جاهزا لإجتياج إيطاليا.

    معركة بحيرة تراسيمين (Lake of Trasimene)

    بعد أن أمن هنيبعل موقفه في الشمال الإيطالي من خلال انتصاره المدوي في معركة تريبيا, قام هنيبعل بتجميع جيشه باحثا عن معسكر أكثر أمانا’ لهذا تحرك هنيبعل جنوبا, في نفس الوقت خاف الرومان من أن يكون هنيبعل تحرك باتجاه روما, فقام كل من كناوس سرفاليوس (Cnaeus Servilius) و جيوس (Gaius Flaminius), القائدين الجديدين لروما, بأخذ جنودهما لسد الطريق الشرقي والغربي على هنيبعل التي من الممكن أن يستخدمها هنيبعل لغزو روما.

    وكان الطريق الوحيد المؤدي إلى وسط إيطاليا يقع في أرنو, هذا الطريق كان بشكل عملي واسعا وكان في ذلك الوقت قد طمر بالمياه أكثر من المعتاد في مثل هذا الموسم من السنة. كان هنيبعل يعلم أن هذا الطريق ملئ بالمصاعب لكنه بقي الحل الأمثل لديه لأنه أسرع طريق لوسط ايطاليا.

    وكما يدعي بوليبيوس (Polybius) المؤرخ, أن رجال هنيبعل ساروا في هذا الطريق لمدة أربعة أيام وثلاثة ليال وهو يعانون من الفطريات والرغبة في النوم, وما أن قطع هنيبعل ابينوس (Apennines) حتى أصيب بالتهاب في باطن الجفن في عينه اليمنى افقدها البصر, إنتزع هنيبعل عينه اليمنى حتى لاتعيقه وأكمل المسير, وخسر هنيبعل في هذا الطريق الكثير من رجاله وبقية الفيلة التي جلبها معه.

    وصل هنيبعل إلى اتروريا (Etruria), في ربيع سنة 217 ق.م. عندها قرر هنيبعل إغراء الجيش الروماني الأساسي بقيادة فلامينيوس (Flaminius) إلى معركة سريعة, وكما يقول بوليبوس, أن هنيبعل كانت حساباته تقوم على أساس انه لو تجاوز المخيم الروماني وتمكن من الانتقال إلى منطقة خلف قوات فلامينوس من الممن أن يصيبهم بالإحباط ويجعلهم يلاحقونه الأمر الذي سوف يوفر له فرصة للهجوم عليها.

    في نفس الوقت, حاول هنيبعل أن يحطم ولاء حلفاء روما من خلال إثبات أن روما غير قادرة على حمايتهم.

    بالرغم من ذلك, وجد هنيبعل أن فلومينيس لم يحرك ساكنا وبقي في معسكره في اريتيوم (Arretium) غير قادر على سحب فلومينيس إلى معركة من خلال أعمال التخريب التي قام بها في مناطق حلفاء روما, عندها قام هنيبعل بالسير بشكل جرئ حول ميسرة الجيش الرومي وتمكن وبشكل حاسم من فصل فلومينس عن روما وتمكن من تسجيل أول حركة التفاف في التاريخ العسكري. متقدما نحو اتوريا, أجبر خلالها هنيبعل عدوه فلومينيس على مطاردته

    بعد أن اجتاز هنيبعل بحيرة تراسيمين, وصل إلى منطقة مناسبة جدا لوضع كمين , وما أن سمع أن فلومينيس قد أزال معسكره وتعقبه حتى قام بعمل التجهيزات الملائمة للمعركة التي أوشكت على أن تبدأ. في الشمال كانت توجد مجموعة من الأحراش والغابات الكثيفة على طول الجزء الشمالي من البحيرة, وعلى طول حدود التلة التي تلتف حول البحيرة أقام هنيبعل معسكره من الموقع الذي يتيح له أفضل رؤيا لساحة المعركة المرتقبة ولكل من يدخل من الممر الشمالي الضيق, واستغرق هنيبعل الليل وهو ينظم صفوفه للمعركة المرتقبة. وأسفل المعسكر, قام هنيبعل بوضع المشاة من الليبيريين, ألسلتك, والأفارقة على منحدر صغير وهو الأمر الذي يسمح لها بالحركة والنزول سريعا حسب مقتضيات المعركة, أمام مقدمة الجيش الروماني.

    في نفس الوقت وضع هنيبعل فرسانه الأشداء, والمشاة من الجاليك مختبئين في الأحراش والغابات المجاورة في الوادي الذي يفترض أن يدخل منه الجيش الروماني حتى يتمكنوا بسرعة من الدخول وإقفال الطريق حتى يمنعون الجيش الروماني من التراجع. ثم قام بوضع بعض القوات الخفيفة على فتحة على طول التلة حتى يطلون منها على الأرض , مع أوامر بالاختباء بين الأشجار حتى تأتيهم الإِشارة بالهجوم.

    بالإضافة إلى ذلك, في الليلة التي سبقت المعركة, قام هنيبعل بإعطاء الأوامر بإيقاد نار المخيم على تلال تورينو في مسافات ليست بعيدة, حتى يقنع الرومان أن قواته بعيدا جدا عن الموقع الحقيقي الذي هم مخيمين فيه.

    في صباح اليوم التالي, وصلت الفرق الرومانية إلى الجانب الشرقي, وعلى طول الطريق وهي مسرعة في عبورها للجهة الشمالية من البحيرة, وكان فلامينيوس يدفع رجاله بدون رحمه للقتال, وكان يستعجل القوات في المؤخرة على المضي قدما.

    عندها أرسل هنيبعل مجموعة قتالية صغيرة للمناوشة ولكي تسحب طلائع الجيش بعيدا عن مقدمة الصفوف, حتى تسمح لبقية الجيش الروماني من للانقضاض إلى الشرق. وما أن تحرك الجيش الروماني خلال الوادي الطويل والذي اكتسى بالضباب ودخلوا الأرض المنبسطة حتى تعالت أصوات الأبواق معلنة بداية الهجوم.

    عندها نزل الفرسان القرطاجيون والمشاة من التلال المحيطة, واقفلوا الممر الضيق وانقضوا على الرومان من كل اتجاه, وتحت وطأة المفاجأة والمناورة المتقنة من القرطاجيين لم يكن لدى الرومان الوقت للانسحاب بطريقة منظمة وأجبروا على القتال يدا بيد في وضع لا أمل فيه في وضع مكشوف. انقسم الرومان بسرعة إلى ثلاثة فرق. الفرقة التي كانت في الغرب هاجمها الفرسان القرطاجيين وتم دفعها إلى البحيرة تاركة الفرقتين الأخريين مطوقة من جميع الجهات. المركز ومعهم قائدهم فلامينسوا التزما أماكنهم حتى قطعها الغول التابعين لهنيبعل بعد ثلاثة ساعات من القتال الشرس.

    في ثلاث ساعات, كان الجيش القرطاجي قد قضى على الجيش الروماني ملحقا به هزيمة شنيعة, وعندما رأت مقدمة الجيش أن المؤخرة تداعت حاولت الهرب من خلال إيجاد طريق لها مخترقة القوة التي أرسلها هنيبعل لمناوشتها ولم يتمكن عدا 6,000 رجل فقط من النزوح بسلام تحت غطاء من الضباب ليتم إلقاء القبض عليها في اليوم التالي. ومن ضمن مجموع الجيش الروماني الذي بلغ 30,000 تم قتل النصف إما على ارض القتال أو غرقا في البحيرة ومن ضمنهم قائد الجيش فلامينسو, بينما تم إلقاء القبض على النصف الآخر كأسرى حرب. بينما لم تتعدى خسائر هنيبعل أكثر من 1,500 رجل ( وهو ما يمثل نسبة خسارة رجل إلى عشرة من الجيش الروماني).

    لكن الخسارة الرومانية لم تنتهي عند هذا الحد, إذا بعد يوم أو يومين وصلت قوة رومية مكونة من 4,000 رجل للتعزيز تمت مواجهتها والقضاء عليها.

    بعد نهاية المعركة كان هنيبعل قد حطم القوة الوحيدة التي كان من الممكن أن تعيق تقدمه نحو روما, وكان هنيبعل يعلم انه بدون حصار عسكري قوي لن يتمكن من السيطرة على العاصمة الرومانية’ لهذا فضل هنيبعل أن يستثمر انتصاره من خلال العبور إلى وسط و جنوب ايطاليا لتشجيع جميع المدن على الثورة ضد القوة السيادية لروما.

    بعد معركة بحيرة تراسيمينوس, صرح هنيبعل بأنه لم يقدم إلى إيطاليا لمحاربة الإيطاليين, ولكن لمحاربة روما نيابة عن الإيطاليين.

    ودمتم

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

Comments are closed.