( يــا مــــو )

في صباح 21 آذار، كلما سمعت أغنية ”ستّ الحبايب يا حبيبة” على أول محطة راديو افتح عليها، تنفر فوق جلدي قشعريرة غريبة، كقشعريرة رضيع اهتدى في العتمة إلى صدر أمه،كموجة سنابل ماجت مع زفّة ريح ندية ،كزخة سنونو صباحية، في صباح 21 آذار و كلما سمعت صوت ”غوّار” المبحوح وهو يغنّي ”يا مو” أحس بأن عمري يمرّ من أمام عيني بالأبيض والأسود،وأني كبرت على غفلة مني، فأنظر الى مرآتي لأرى شعري الأبيض والأسود أيضاَ،ثم أراني من تحت جفني ذلك الصبي الذي هجر بيت الطين والتهى بلعبة اسمها (الدنيا)..

”يا مو يا ست الحناين يا مو”….ياااااه لو أستطيع!! لعممت هذه الأغنية نشيداً وطنياً في كل دول العالم، وبكل لغات العالم، ولكل أمهات العالم.. لأن الأم هي الوطن الوحيد الذي لا يمكننا الرحيل عنه أو يمكنه الرحيل عنّا..

** سامحونا نحن أبناء ”العجايز”، نحن ”اعمالهن الكاملة”..إن كنا لا نستطيع الكتابة إلا عن ذلك الجيل من الأمهات..ولتسامحنا كل الأمهات الرائعات المربيات المخلصات المتعبات الساهرات…اذا ما كتبنا هذه المرة عن أمهاتنا العتيقات المحمّصات بالتعب والبركة.. ولتسامحنا كل الأمهات اليافعات العذبات اذا ما تُقنا إلى رائحة الثوب الأسود ”الساتان” – دون غيره- هذه المرة أيضاً..والى طيّات ”الشنبر” المعقود بإحكام،والى خصلة الشيب التي تتدلى كعرق ياسمين لحظة الوضوء، و اذا ما كتبنا عن ”الشنكل” المغروز في (قبّة) الثوب، وعن ”زرد” النملية الطويل المعلق صيف شتاء حول العنق..سامحونا اذا ما أغرقنا في وصف البيت القديم وكتبنا عن ”القطيقة” المثبته في ”صدر” الغرفة ، وطاولة (الفراش) ذات الشرشف الأبيض و”الكشكش” الأزرق،و عن الوسائد ذات ”الروّاسيات ” الزهرية والصفراء، اذا ما كتبنا عن ”المصرف” ودرجة البيت وكرسي الخشب الصغير، وعن ابريق الوضوء الأخضر ”ابو زنبعة” مكسورة..

فتلك البيوت ما زالت تسكنني أكثر مما أسكنها، لأنها ”معبد” عاطفتي وذكرياتي، لذا لم ابرح تفصيلا من تفاصيلها ؛ رائحة ”الحلبة” المطحونة، والشراشف ”المبكّتة” ذات الموضة القديمة…وكيس خيط بشكل يدوي وعلى بابه حلقة مطاط فيه أشياء أمي: ”مش العظم وصابونة مفتاحين وكيس حناء جاءها هدية من العمرة”..وعلى الشباك القريب هناك خمس ”مسابح” ذات المئة حبة، وفي خاصرة الستارة ”أبر” كثيرة كانت تستخدمها ذات شباب..وساعة ”تؤخّر” كل يوم عشر دقائق عن موعد الأخبار..لكن أمي تحبّها لأنها تؤخّر من العمر عشر دقائق..

ذلك البيت المكون من ست ”فرشات” وعشر مخدّات قديمة، من برواز فيه صورة أبي..ونملية فيها درج وحيد، يحتوي على دفتر العائلة، وبطاقة الأحوال، وفواتير كهرباء تعود الى شهر أيار ..1981.هو مستودع ذاكرتي..

أمي يا ”زيتونة” الدار..وجهك الطيب ما زال يحفظني كمصحف قديم..اقرأ فيه كل صباح ”فاتحة العمر”..وجهك المفتوح على صفحتي نور ما زال يزيدك خشوعاً و قدسية وبركة..واعشق فيه رائحة الورق الأصفر و رائحة الأرق العتيق والعمر المديد..

كل عام وأنت بخير..

One thought on “( يــا مــــو )

Comments are closed.