بين الحَيْرَةِ والذُّهول
لكل إنسان حرية كاملة في قول رأيه بصراحة وفي أي موضوع، ولكن قول الآراء يختلف كثيراً عن التنظير وطرح الرؤى الشمولية لمواضيع الحياة المختلفة. فلقد استلمتُ قبل مدة رسائل كثيرة عبر البريد الإلكتروني محمّلة بمقاطع فيديو وأخرى صوتية لمشايخ فُضلاء يتحدثون عن أحداث تونس ومصر، وشدّني أن مرسلوا تلك الرسائل ادّعوا بأنها تدلّ على الطريق الصحيح للخروج من الأزمات السياسية والتنموية، ووصفوها بأنها «المنهج» الذي يجب على الشعوب العربية اتباعه حتى تعود الأمة عظيمة مرة أخرى. وبعد أن اطلعت على مجموعة من الرسائل، وجدتُها لا تتعدى نصائح عامة وأقوال مكررة يمكن إيجادها في الكتب الإرشادية، وليس ذلك عيباً أو خطأ، ولكن الخطأ هو أن نصف تلك النصائح بأنها «منهاج عمل» لمعالجة مشكلات الأمة. فبناء الأمم لا يقوم على التوجيهات الدعوية الفاضلة، التي على رغم أهميتها، إلا أنها تنحصر في حضّ العامة على الممارسات الأخلاقية والعمل الصالح، أما بِناء الدول فهو عملية شاقة ومعقدة لا يمكن حصرها في نصائح دعوية.
وقد يسأل سائل عن المانع من اعتبار هذه النصائح منهجا؟ والسبب هو أننا عندما نُضخّم تلك النصائح فإننا نُقزّم دَور الجامعات ونُهمّش الإنتاج الإنساني المتفرع والمتخصص، الذي اجتهد فيه أساتذة وطلبة متخصصون وعلماء ومفكرون، لنختزل التنمية البشرية في خُطبةٍ أو محاضرة، ونُلغي العلوم الإنسانية الحيوية التي تُبنى عليها المجتمعات والدول، كالاقتصاد بتفرعاته والعلوم السياسية بتشابكاتها وعلوم الاجتماع والتكنولوجيا والإدارة وغيرها من العلوم الحديثة، وبذلك فإننا نرتكب جريمة في حق الفكر البشري المُتراكم منذ مئات السنين.
عندما يذهب أحدنا إلى أفضل طبيب عيون ليطلب منه دواء للقلب فإنه سيحصل على الدواء الخاطئ ولا شك، ولذلك علينا ألا نُحمّل الدُعاة والمشايخ الأفاضل أكثر من طاقتهم ولا نهرع إليهم كلّما ألمّ بالأمة خطب لنبحث عندهم عن إجابات شافية. فكم من عالمٍ ومثقفٍ ومفكرٍ ومتخصص هُمّشَ دوره في مقابل شيخ بسيط لا حظّ له إلا أنه ينتمي إلى طائفة مذهبية معينة، يقول قولهم ويلبس لباسهم! وكم أعجبُ من المجتمع الذي يرسل أبناءه إلى أفضل الجامعات ليتعلموا ويبحثوا، ثم يتخلى عن اختراعاتهم وكتبهم وأبحاثهم من أجل فتوى أو نصيحة يصدرها إمام مسجد!
قد يكون كلام بعض هؤلاء الدعاة الأفاضل مهما لتحريك المشاعر، ولكن ذلك لا يكفي، بل نريد للعقول أيضاً أن تتحرك، ونريدها أن تسأل وتتساءل، فالمعرفة لا قاع لها، وكلما غرفنا منها أكثر، اتسعت آفاقنا وتمدد إدراكنا حتى يعانق الأفق. الناس في مجتمعاتنا العربية ثلاث مجموعات: مجموعة لا يهمّها أن تعرف، وهي شريحة كبيرة ولكنها غير مؤثرة جداً، ومجموعة لا تعرف ولكنها ترفض أن يقال عنها أنها لا تعرف، فتجدها تسعى لمعرفة أي شيء عن طريق الإنترنت أو من الصحف والفضائيات، ثم تتنطّع به في التجمعات البشرية حتى يُقال عنها بأنها تعرف، وهذه شريحة خطيرة، فمعرفة جزء من الحقيقة أخطر من عدم معرفتها أبداً. أما النوع الثالث فهم الذين يعرفون ويريدون أن يعرفوا أكثر، وهؤلاء هم الأقلية التي يُحب المجتمع أن يصنّفهم بمسميات مختلفة مثل «النخبة» ويُفضّل أن يعزلهم في بوتقة بعيدة حتى يتخلص من إزعاجهم، وهم من نحتاج إلى استشارتهم واللجوء إليهم والاستماع والقراءة لهم، كلٌ في مجاله، حتى ننجوا من طائلة العموميات التي تُعشش تحتها عقولنا منذ زمن.
إن اختزال الإنسان لمبادئ التنمية البشرية في مقطع فيديو أو في مقال عاطفي يُلغي الحاجة إلى الاستدلالات العقلية، لأننا بذلك ننقل المعلومات التي تلقيناها دون أن نحللها أو نضيف عليها من خبراتنا وآرائنا، فنحن شعوب تُحب التسليم بما يقوله رجال الدين دون نقاش، فتصبح عقولنا حينها رهينة المحبسين، الجهل والتاريخ. فعندما يَقول رجل دين بأن سبب غرق مدينة ما جرّاء السيول هو افتتاح منتدى نسائي في تلك المدينة، وليس إهمال المسؤولين وتقصيرهم في تأسيس بنية تحتية لتجنب تلك الكوارث، فإن العقل البشري يتحول حينها إلى أضحوكة، فيضج المجتمع بالفوضى المعرفية، وتسوده العبثية الفكرية.
إن القناعات الإنسانية التي تُبنى على العواطف لا على الأفكار، تبث العصبية وتنشر العنف بين أفراد المجتمع، فالعقول القاصرة تكون أقل قدرة على استيعاب أفكار العصر، وأقل قدرة على تقبل الآراء المخالفة لها، فتلجأ إلى العنف اللفظي أو الجسدي لتدافع عن ضعفها وجهلها. كلما زاد اطلاع الإنسان زادت قدرته على استخدام الأدوات الحضارية التي بين يديه، مثل التكنولوجيا والإعلام، لكي يطوّر نفسه ومجتمعه، وعندما ينحسر اطلاعه وتضعف رغبته في المعرفة، فإنه يستخدم تلك الأدوات للتسلية وتنفيس الغضب، فالجهل غضب صامت، والمعرفة هي أولى الركائز الحضارية التي تسير بالإنسان في طريق البناء والنهضة، وتمنحه الوسائل الحيوية، كالثقة بالنفس والقدرة على التفكير الحر والمبدع، ليتمكن من بناء أمّة عظيمة.
يقول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغار: «عندما لا نتعمّق في قراءاتنا ولا نتأمل في معلوماتنا، وعندما لا ندري لماذا نقرأ وماذا نقرأ، فإننا لن نفهم العالم من حولنا، ولذلك نعيش دائماً بين الحَيْرَةِ والذهول».