“الموت أو الهلاك” هذه هي الصيحة التي أطلقها محافظ البنك المركزي الأمريكي معبرًا عن عمق الأزمة التي ضربت الاقتصاد الأمريكي قاطرة الاقتصاد العالمي .. وتركته مترنحًا بالكاد يقف على قدميه بعد أن كان جامحًا جشعًا لا يلوى على شيء …

بداية الأزمة الجديدة كانت في “وول ستريت” مع إعلان مؤسسة مالية عملاقة هي “ليمان براذرز” عن إفلاسها الوقائي، وهذه كانت بداية رمزية خطرة، لأن هذه المؤسسة العريقة كانت من الشركات القليلة التي نجت من مذبحة الكساد الكبير في عام 1929، وتعتبر من أقدم المؤسسات المالية الأمريكية، التي تأسست في القرن التاسع عشر..
وهو ما حذر منه الاقتصادي ألن غرسيبان، رئيس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي السابق، عندما قال : إن مؤسسات مالية كُـبرى جديدة ستسير على درب “ليمان براذرز”.

لكن ما أسباب هذه الأزمة؟ وهل هي عابرة سببها اضطراب سوق العقار؟ أو انفصال الاقتصاد المالي عن الاقتصاد الحقيقي؟ أو انخفاض ثم ارتفاع أسعار الفائدة؟ أو “مجرّد حركة تصحيحية في الأسواق المالية” كما قال الرئيس الأمريكي بوش قبل يومين؟ أم أنها معضلة بنيوية (كما ترى “فاينانشال تايمز” الرأسمالية) سببها الأعمق العولمة النيو ـ ليبرالية المُنفلتة من عقالها والفجوة التي لا تنفك تتوسّع في داخل الدول بين الفقراء والأغنياء، والتضخم الكبير في أسعار المواد الغذائية والطاقة؟

أنصار الرأسمالية الليبرالية يعتقدون جازمين ـ في محاولة منهم لتخفيف وقع الصدمة ـ بأنها أزمة عابرة ويتساءلون: ألَـم يشهد النظام الرأسمالي مرات عديدة طيلة المائتي سنة الماضية من عمره، سلسلة أزمات دورية كان يخرج منها دومًا، ليس فقط سالمًا، بل أقوى؟ أليست الأزمات تعبيرًا عن السرّ الكبير الذي يمنح النظام الرأسمالي طاقته الهائلة على التجدّد والانبعاث من جديد .
كل هذا قد يكون صحيحًا، لكن الصحيح أيضًا أن الأزمة الرّاهنة قد لا تشبه تمامًا الأزمات السابقة. كيف؟ فمنذ سبعينات القرن العشرين بدأت مرحلة انتقالية ضخمة انتقلت بموجبه المراكز التصنيعية من الدول الرأسمالية الكبرى وخاصة الولايات المتحدة إلى مراكز جديدة فى الصين والهند وشرق آسيا .. وتفرغت تلك المراكز الرأسمالية للمضاربات المالية ..

وهو ما جعل البعض يعزى أسباب الأزمة الحالية إلى جذور أخلاقية متمثلة فى انتشار المضاربات والتي باتت أشبه شيء بطاولات القمار .. فليندن لاروش ـ وهو أحد كبار المفكرين السياسيين والاقتصاديين الأمريكيين ـ يرى أن المجتمع الأمريكي تحول من مجتمع منتج إلى مجتمع “استهلاكي” طفيلي .. وكان قد حذر فى مؤتمر فى الفاتيكان عام 1995 من ارتفاع حجم المضاربات المالية، وكمية النقد المتداول في النظام المالي العالمي ، دون أن يرافقه أي نمو في الإنتاج المادي الفعلي للاقتصاد ..

ويجب علينا ألا ننسى أن معظم اقتصاد العالم اليوم بات مركزًا في يدي حفنة قليلة من البشر ؛ فقد أشارت أحد الدراسات أن هناك الآن خمس شركات عملاقة تُسيطر على 50 % من الأسواق العالمية في مجالات صناعات الفضاء والمكونات الإلكترونية والسيارات والطائرات المدنية والفولاذ والإلكترونيات.

ـ وهناك خمس شركات أخرى تسيطر على 70 % من السلع الاستهلاكية ذات الديمومة.
ـ وثمة خمس شركات غيرها تهيمن على 40 % من النفط والعقول الإلكترونية الخاصة والإعلام، و51 % من أكبر الاقتصاديات في العالم اليوم هي شركات لا دُول.
ـ مبيعات 200 شركة، تمثّل 28.3 % من الإنتاج الخام العالمي .
أرقام مخيفة .. تعني ببساطة أن السوق العالمي الموحّـد ومعه القرية العالمية وحتى مفهوم الحضارة العالمية الواحدة، سيكون عمّـا قريب “مِـلكية خاصة” لحفنة من البشر قد لا يتجاوز عددهم عدد مجالس الإدارة في واحدة من الشركات الخمس المذكورة أعلاه.

ولكن .. خلف كل هذه الأسباب المتقدمة تكمن أسباب خفية هي أقوى من كل ما تقدم نجملها فى الآتي :
• أولاً : النظام الربوي الذي يقوم عليه اقتصاد اليوم ، والذي يمثل عدوانًا صارخًا على مفهوم الإنسانية وما يتفرع منها من قيم التسامح والتكافل .. فهذا النظام محكوم بالفشل حتى وإن حقق نجاحات جزئية وقتية ، لأن الله تعالى تكفل بإفشاله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [٢٧٨] فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [٢٧٩]} [البقرة] ؛ والمجتمعات الرأسمالية بيان واضح للظلم الناشئ من النظام الربوي السائد .. وأوضح مثال على ذلك تعثرات السداد فى مجال القروض العقارية فى أمريكا ، وتلك التعثرات جاءت نتيجة زيادة الأعباء المالية على المقترضين مما دفعهم إلى التوقف عن السداد .. ناهيك عن المثالب العديدة التي يحتويها النظام الربوي ..
• ثانيًا : حروب الولايات المتحدة فى العراق ومن قبلها أفغانستان .. وهو الأمر الذي توقعناه تمامًا منذ أن بدأت الولايات المتحدة توسعها الإمبراطوري على حساب الدول الإسلامية .. فالتوسع يقابله استنزاف للموارد والإمكانيات .. ولم تترك المقاومة العراقية الفرصة لبوش وإدارته لالتقاط الأنفاس وتعويض مصاريف الغزو من نفط العراق وخيراته .. وهو الأمر الذي تسبب في إرهاق الخزانة الأمريكية .. فحرب العراق تستنزف مليارات الدولارات شهريًا، وقد وصلت تكلفتها خلال العام 2008 إلى نحو 12 مليار دولار شهريًا، وذلك بحسب الخبير الاقتصادي الأمريكي البارز “جوزيف ستيجليتز”. وانتهت دراسة أعدها “جوزيف ستيجليتز”، الحائز على جائزة نوبل، إلى أن تكلفة الحرب في العراق يمكن أن تُقدر بـ 3 تريليون دولار على الأقل !!
• ثالثاً : الحرب الضروس التي شنتها الولايات المتحدة على المؤسسات الخيرية الإسلامية مما تسبب فى إغلاق العديد منها وتوقف أعمالها الخيرية مما أدى إلى حرمان الآلاف من الجائعين والمحتاجين من الطعام والكساء .. فكان أن ضربها الله فى اقتصادها {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [الأنفال].

وبعد فإن أهم آثار الانهيار الاقتصادي الأمريكي هو دخول الولايات المتحدة مرحلة الانكماش السياسي والعسكري .. فلن تقوى فى القريب المنظور ـ على الأقل ـ في الدخول في مغامرات عسكرية جديدة كتلك التي قامت بها فى أفغانستان والعراق .. بل إن المتوقع أن تقوم الولايات المتحدة بسحب تدريجي لقواتها العاملة فى العراق تخفيفًا لضغط النفقات ، وهو ما سيعنى ببساطة وأد فكرة الشرق الأوسط الجديد وتخلى أمريكا عن أحلام الغزو والتوسع .. خاصة وأن هذه الأزمة قد تضعف من فرص المرشح الجمهوري “ماكين” للوصول إلى البيت الأبيض مما سيؤدى بدوره إلى تراجع اليمين المحافظ وتراجع أطروحاته اللاهوتية …

وأخيرًا …..
فإن هذه الأزمة الاقتصادية ـ إضافة إلى نتائج حرب القوقاز الأخيرة ـ ستؤدى إلى تشكيل عالم جديد مغاير لعالم ما بعد 11 سبتمبر .. فهل سيستطيع النظام العربي الإقليمي تعظيم استفادته من هذه التغيرات ؟!
وهل سيتمكن من التملص من الضغط الأمريكي الخانق عليه وبناء استراتيجية موحدة تراعى مصالحه وتحقق آماله ؟! أكبر ظني … لن يحدث ذلك !! لأن الكثيرين ـ ببساطة شديدة ـ لا يريدون !!!

http://www.islamtoday.net/albasheer/show_articles_content.cfm?id=72&catid=76&artid=143 43

7 thoughts on ““الموت أو الهلاك”… قراءة مغايرة للانهيار الاقتصادي القادم… لننتبه قبل فوات الأوان

  1. موضوعك رائع يا ( اماراتي مجتهد ) ……………
    نتمنى أن تقف غطرسة امريكا على الشعوب العربية و الاسلامية و كفاية من السنوات الظلم و الاحتقار التي كانت تمارسها امريكار على الدول الفقيرة وتنهب الثروات بلادهم . وآن الأوان أن تفكر الدول العربية بتطبيق الشريعة الاسلامية في كل الامور و خاصة في الامور المالية … لو يعرف المسلم ما جزاء أكل الربا, في الدنيا و الاخرة ما كان يفكر أن يتعامل مع الربا . خزي في الدنيا و عذاب في الاخرة ……
    و كل هذا دعوات المساكين اللذين فقدوا أعز ما عندهم من الاطفال والنساء والرجال في العراق والافغانستان وفلسطين في الحرب على الارهاب كما يدعي الارهابي الاكبر وهو الامريكا……
    و سبحان الله تعالى ضرب امريكا في الصميم اقتصادهم ( ويحبون المال حبا جما )… . اللهم أرينا الحق و أرزقنا اتباعه وأرينا الباطل وأرزقنا اجتنابه
    ودمتم سالمين


  2. وأخيرًا …..
    .. فهل سيستطيع النظام العربي الإقليمي تعظيم استفادته من هذه التغيرات ؟!
    وهل سيتمكن من التملص من الضغط الأمريكي الخانق عليه وبناء استراتيجية موحدة تراعى مصالحه وتحقق آماله ؟! أكبر ظني … لن يحدث ذلك !! لأن الكثيرين ـ ببساطة شديدة ـ لا يريدون !!!

    طبعا النظام العربى سيعظم استفادته من هذه التغيرات ….

    انا اتوقع حصول منتخب عربى على كأس العالم القادم شفتوا احلى من كده تغيرات…….

Comments are closed.