الوطن في شعر نزار قباني
عبد الله شاهر
بداية لنتفق على أن آلاف الموهوبين يتمنون لو نالهم من أضواء نزار قباني ولو جزءاً بسيطاً بصرف النظر عن القدرة الإبداعية وهذا يعني أنه لا بد من الاعتراف، أنه ليس من السهل اقتحام عالم شاعر مترامي
الأطراف، كعالم الشاعر نزار قباني، محصن بقلاع عالية من الشهرة والذيوع وفيه من التنوع ما يبهر ومن الانسجام ما يُسحر وفيه من الارتقاء وما يحيل القارئ إلى فضاءات لا حدود لها.
إنه عالم ثري متسع لكل مجالات الحياة والكتابة عنه مغامرة بحد ذاتها، لأنه تجربة شعرية حافلة، تتميز بنوع من الاستثناء في تاريخ الشعر العربي المعاصر بسبب الموضوعات التي أثارها في شعره وبسبب الإشكاليات
التي أثيرت حول شعره، لكن تبقى المغامرة كشفاً وتوغلاً في هذا العالم الجميل الذي ترك بصماته واضحة في ذوات أجيالنا، وخبّأ فيها فوانيس لا زالت تنير الطريق للعشق والثورة في آن معاً.
الشاعر الذي اقتحم علينا خلوتنا وفاجأنا بأحاسيس لم نعهدها، وبنواميس لم نتعامل معها من قبل، وبطقوس لم نمارسها إلا في عالمنا المظلم، لم يهادن ولم يداهن ولذا جاء شعره من قناعات شخصية خاصة غير آبه بعادات
وتقاليد أو بمواقف ولذلك هوجم بشراسة منذ ديوانه الأول. وكان لحمه- على حد تعبيره- في سيرته الذاتية "قصتي مع الشعر" يومئذ طرياً وسكاكينهم حادة. ومنذ ذلك الوقت بدأت "حفلة الرَّجم" ومع هذا كله ظل يباغتنا
مباغتة الفاتح حتى اخترق حياتنا وأشياءنا وأولادنا ونساءنا وكان في كل ما يفعل يلقى استجابة صريحة أو ضمنية. لم يترك لنا بيتاً لم يدخله، ولا طفلاً لم يلعب معه، ولا حديقة لم يجلس تحت أشجارها، ولا عاشقاً
إلا احتضنه، ولا عاشقة إلا أهداها ديواناً من شعره وعلَّمها كيف تكتشف الأنوثة.
لقد كسر السائد فينا، وانتهك المحرم الاجتماعي الذي نخشاه لامتلاكه الجرأة في احتواء الضمير المقموع، فعلى يديه أصبحت مساحة الجمال أكبر من مساحة القبح، ومساحة الحب أكبر من مساحة الكراهية، وعلى يديه صار
الشارع العربي أكثر شجاعة في مواجهة المتخاذلين والمهرولين فكان الناطق الرسمي بلسان من لا لسان لهم لأنه عالج قضايا كبرى شابها كثير من التعقيد.
إنه الشاعر الجريء الذي يجيد الوخز بالكلمات في فيض من الانفعالات والأفكار التي تبدو جارحة من فرط جرأتها، فهز كثيراً من القيم الفكرية والاجتماعية والسياسية الموروثة من عصور الانحطاط.
على هذا كان نزار قباني لغة خاصة، وإشكالية ما زالت تثير الصخب، وظاهرة تحتاج إلى بحث متأن فالشاعر كان شديد الوعي بالشروخ التي كان يحدثها في جدران المجتمع لأنه كان يعتبر نفسه صاحب مدرسة خاصة في الشعر
وعليه أن يعيد تشكيل الوجدان العربي معتبراً نفسه "مقاتلاً حتى يصبح البحر أكثر زرقة، وعصافير الحرية أكثر تناسلاً، وقامة الإنسان أكثر ارتفاعاً" ولذلك استخدم أحكام تعميم متطرفة وأدان حالات في الواقع
العربي إدانات بالغة القسوة وصلت إلى حد الهجاء.
ومع ذلك غفر له الناس شتمه بالغ القسوة لأمته وتاريخها بل على العكس فقد لعب شعره دوراً في صنع الوجدان الشعبي ورفع درجة الحساسية في الوعي الوطني عموماً. وهنا نرى الوطن حاضراً في ذاته وشعره وإن- اعتبر
شاعر المرأة- فقد أعطى المرأة بعداً وطنياً وحمل الوطن عشقاً دائماً في ذاته فكتب شعراً للحب أخرج فيه علاقات الحب في المجتمع العربي من "مغائر القهر- والكبت، والباطنية، إلى ضوء الشمس ومنحها العلنية
والشرعية.. وكسر صورة المرأة الجارية، وحوّل جسد المرأة العربية من وليمة بدائية تستعمل فيها الأنياب والأظافر إلى وردة ونجمة وقصيدة" يقول الشاعر:
ثوري، أحبُّكِ أن تثوري
ثوريْ على شرقِ السَّبايا والتَّكايا والبُخورِ
لا تَرْهبي أحداً
فإنَّ الشمسَ مقبرةُ النسورِ
ثوري على شرقٍ يراكِ وليمةً فوقَ السريرِ
وعندما بدأ بخضِّ الحياة الاجتماعية والسياسية العربية عرف قطاره الشعري محطات صاخبة "خبز وحشيش وقمرْ" في وجه شرق الخمسينات الغائب في البخور والتكايا والهوامش على دفتر النكسة، مع نهاية الستينات وانكسار
الحلم العربي تتالت قصائده الحزيرانية التي نقلت همومه، وكتب شعراً للحرية حفظه الناس وتناقلوه، بلغة سلسة ومأنوسة وبشعرية رائدة وفي كل ما كتب كان قريباً من لغة الحوار اليومي الذي كان جواز سفر إلى جميع
طبقات الشعب.
لقد عاش الشاعر لبلاده تهزه أفراحها وتبكيه مصائبها، وغنَّى البطولة، وهاجم التخاذل والضعف. إنه يلخص عصراً بكامله، عاشته أمتنا عبر إشراقاته وانهياراته، تمرد على التقاليد واختط طريقاً فيه الحب هو العنوان
وكان مدرسة تستعصي على التقليد لأنه ساكن في قصائده فهل ننكر على شاعر بمثل هذه المواصفات وطنيته أو حمل الوطنية في أحادية الشكل، ولنلاحظ كيف يرى الشاعر نزار قباني الوطن حتى نستطيع أن نقرر شكل الوطن في
شعر نزار يقول نزار قباني:
"إن مفهومي للوطن والوطنية مفهوم تركيبي وبانورامي، وصورة الوطن عندي تتألف كالبناء السمفوني من ملايين الأشياء، ابتداءً من حبة المطر إلى ورقة الشجر إلى رغيف الخبز، إلى مزراب الماء، إلى مكاتيب الحب، إلى
طيارات الورق، إلى حوار الصراصير الليلية، إلى المشط المسافر في شعر حبيبتي، إلى سجادة صلاة أمي، إلى الزمن المحفور على جبين أبي، من هذه الشرفة الواسعة أرى الوطن، وأحتضنه وأتوحد معه، فالكتابة عن الوطن
ليست موعظة، ولا خطبة ولا افتتاحية جريدة يومية تتحدث بطريقة دراماتيكية عن خيوله وبيارقه وفرسانه وأعدائه الذين (نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب) وعن بطولات أمير المؤمنين الذي يمد رجليه فوق (جفن الردى
وهو نائم) هذا نوع من أنواع الوطنية التي تعتمد النقل الفوتوغرافي لأداة الحرب".
وهنا يبدو لنا الوطن عند نزار قباني الحياة بحركتها المادية والاجتماعية والنفسية، إنه الوطن النابض بالحركة والوجود. يقول الشاعر:
"الوطن ليس أداة حربية فقط ولا هو جيب أمير المؤمنين فقط، بل هو مسرح بشري كبير، يضحك الناس فيه ويبكون، ويضجرون ويتشاجرون، ويعشقون ويمارسون الجنس، ويسكرون ويصلون، ويؤمنون ويكفرون، وينتصرون وينهزمون، من
هذه الزاوية المنفتحة على الإنسان من الداخل والخارج أسمح لنفسي أن أقول بصوت عالٍ: إن شعري كله ابتداء من أول فاصلة حتى آخر نقطة فيه، وبصرف النظر عن المواد الأولية التي تشكله والبشر الذين يملؤونه من
رجال ونساء والتجربة التي تضيئه، سواء كانت تجربة عاطفية أو سياسية، هو شعر وطني، إنني مقتنع بوطنيتي هذه وحسبي في تاريخ الشعر شاعران عظيمان أعطيا الحب والثورة شعرهما وحياتهما بايرون ولوركا".
من هذا المسرح البشري الكبير تنبثق الوطنية التي تحمل عرق الكادحين وبسمة الفرحين، وحلم العاشقين، وبأس الثائرين. فالوطن في نظر الشاعر ليس الأداة الحربية أو المعركة. فالمعركة موقف وطني وليس الوطن. إن
الوطن يعني الحياة والحب والبقاء وليس الحرب والدمار. يقول الشاعر:
كلَّما غنَّيت باسمِ امرأةٍ
أسقَطوا قوميَّتي مني وقالوا:
"كيف لا يكتُبُ شِعراً للوَطْن؟"
فهل المرأة شيءٌ آخرُ غير الوطَنْ
آهِ- لو يُدركُ من يقرؤُني
أنَّ ما أكتُبُه في الحبِّ...
مكتوبٌ لتحريرِ الوطَنْ...
لقد وضع نزار قباني المرأة في موقع العلاقة مع الوطن بالرغم من أنه غاص في جسد المرأة بلغة لم تخل من الجنسية ووصف كل شيء من أشيائها وحوَّله إلى عالم شعري. مع علمنا أن جسد المرأة في الأنساق الأخلاقية
التقليدية يتخذ شكل مستودع اجتماعي رمزي للقيم، مغلق على نفسه وقد اقتحم نزار أكثر الزوايا خصوصية في هذا المستودع وهو في رؤيته هذه يعتبر نفسه أنه يسمو بالمرأة ويكتشف أبعادها المتسامية التي إذا ما أخذت
مداها ارتقت بالوطن إلى مستوى حضاري كبير. يقول الشاعر:
أريدُكِ أنثى
لتبقى الحياةُ على أرضِنا ممكنهْ
وتبقى الكواكبُ والأزمنهْ
فما دُمتِ أنثى فنحنُ بخيرٍ
وما دمتِ أنثى
فليسَ هنالكَ خوفٌ على المدنيَّهْ
إذن فنزار يدعو إلى إعادة الحوار الطبيعي بيننا وبين أجسادنا، وإعادة الحب الطبيعي كفعالية إنسانية مبدعة وخلاقة إنه يردم الهوة بين الروح والجسد ويخرج جسد المرأة من منطقة الصمت إلى منطقةا لصوت، ومن منطقة
الغياب إلى منطقة الحضور كي تكون المرأة فاعلة ومؤثرة ويكون لها كيانها الاجتماعي الذي من خلاله تستطيع أن تبني الإنسان الحر لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وما دامت المرأة مكبلة فقدرات الوطن تبقى دون مستوى
الطموح.
لقد عرف نزار قباني كيف يمزج بين المرأة والوطن وأن لا يتحرج من تهمة شاعر المرأة التي رافقته طوال حياته الشعرية وهو لا ينكر ذلك لكنه ينكر هذا التجزيء الذي يحدثه المشككون وهذا الفصل المفتعل بين الوطن
والمرأة. يقول الشاعر:
" تسعون بالمئة من الأحاديث الصحفية التي تجري معي تطرح ذات السؤال الذي أصبح بالنسبة لي صداماً يومياً لا يحتمل: لماذا اخترت المرأة موضوعاً رئيسياً لشعرك ونسيت الوطن؟
وإن طرح السؤال بهذا الشكل العدواني يدل على أن طارحيه لا يعرفون شيئاً عن المرأة ولا عن الوطن. يتصورون أن المرأة عنصر مضاد للوطن ومتناقض معه، وبالتالي فإن كل كتابة عنها، أو محاولة لدخول عالمها، وكشف
الستائر عن أحزانها وعذاباتها، ومسح التراب المتراكم على وجهها وجسدها عبر ألوف السنين يعتبر عملاً ضد الوطن، مسكين هذا الوطن كم نختصر ساحته حتى يصبح أصغر من قمحة. إننا نضيُّقه ونعصره بين أيدينا حتى لا
يبق