تفسير الطبري:
وقوله : {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} يقول : لا تأثم آثمة إثم آثمة أخرى غيرها , ولا تؤاخذ إلا بإثم نفسها , يعلم عز وجل عباده أن على كل نفس ما جنت , وأنها لا تؤاخذ بذنب غيرها . ذكر من قال
ذلك : 23153 - حدثنا محمد , قال : ثنا أحمد , قال : ثنا أسباط , عن السدي {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال : لا يؤخذ أحد بذنب أحد .
2- تفسير القرطبي:
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى , أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها , بل كل نفس مأخوذة بجرمها ومعاقبة بإثمها . وأصل الوزر الثقل ; ومنه قوله تعالى : " وَوَضَعْنَا عَنْك
وِزْرك " [ الشرح : 2 ] . وهو هنا الذنب ; كما قال تعالى : " وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارهمْ عَلَى ظُهُورهمْ " [ الأنعام : 31 ] . وقد تقدم . قال الأخفش : يقال وزر يوزر , ووزر يزر , ووزر يوزر وزرا .
ويجوز إزرا , كما يقال : إسادة . والآية نزلت في الوليد بن المغيرة , كان يقول : اتبعوا سبيلي أحمل أوزاركم ; ذكره ابن عباس . وقيل : إنها نزلت ردا على العرب في الجاهلية من مؤاخذة الرجل بأبيه وبابنه
وبجريرة حليفه .
قلت : ويحتمل أن يكون المراد بهذه الآية في الآخرة , وكذلك التي قبلها ; فأما التي في الدنيا فقد يؤاخذ فيها بعضهم بجرم بعض , لا سيما إذا لم ينه الطائعون العاصين , كما تقدم في حديث أبي بكر في قوله : "
عَلَيْكُمْ أَنْفُسكُمْ " [ المائدة : 105 ] . وقوله تعالى : " وَاتَّقُوا فِتْنَة لَا تُصِيبَن الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة " [ الأنفال : 25 ] . " إِنَّ اللَّه لَا يُغَيِّر مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " [ الرعد : 11 ] . وقالت زينب بنت جحش : يا رسول الله , أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : ( نعم إذا كثر الخبث ) . قال العلماء : معناه أولاد الزنى . والخبث ( بفتح الباء ) اسم
للزنى . فأوجب الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم دية الخطإ على العاقلة حتى لا يطل دم الحر المسلم تعظيما للدماء . وأجمع أهل العلم على ذلك من غير خلاف بينهم في ذلك ; فدل على ما قلناه . وقد
يحتمل أن يكون هذا في الدنيا , في ألا يؤاخذ زيد بفعل عمرو , وأن كل مباشر لجريمة فعليه مغبتها . وروى أبو داود عن أبي رمثة قال ; انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم , ثم إن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لأبي : ( ابنك هذا ) ؟ قال : أي ورب الكعبة . قال : ( حقا ) . قال : أشهد به . قال : فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ضاحكا من ثبت شبهي في أبي , ومن حلف أبي علي . ثم قال : ( أما إنه لا يجني عليك
ولا تجني عليه ) . وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . ولا يعارض ما قلناه أولا بقوله : "وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ " [ العنكبوت :
13 ] ; فإن هذا مبين في الآية الأخرى قوله : " لِيَحْمِلُوا أَوْزَارهمْ كَامِلَة يَوْم الْقِيَامَة وَمِنْ أَوْزَار الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْم " [ النحل : 25 ] . فمن كان إماما في الضلالة
ودعا إليها واتبع عليها فإنه يحمل وزر من أضله من غير أن ينقص من وزر المضل شيء , على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
3- تفسير ابن كثير:
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله تعالى وحكمه وعدله أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيرا فخير وإن شرا فشر وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد وهذا من
عدله تعالى كما قال" وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَة إِلَى حِمْلهَا لَا يُحْمَل مِنْهُ شَيْء وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى " وقوله تعالى " فَلَا يَخَاف ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا " قال علماء التفسير : أي فلا يظلم بأن
يحمل عليه سيئات غيره ولا تهضم بأن ينقص من حسناته وقال تعالى " كُلّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة إِلَّا أَصْحَاب الْيَمِين " معناه كل نفس مرتهنة بعملها السيئ إلا أصحاب اليمين فإنه قد يعود بركة
أعمالهم الصالحة على ذرياتهم وقراباتهم كما قال في سورة الطور "وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتهمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتهمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلهمْ مِنْ شَيْء
" أي ألحقنا بهم ذريتهم في المنزلة الرفيعة في الجنة وإن لم يكونوا قد شاركوهم في الأعمال بل في أصل الإيمان وما ألتناهم أي أنقصنا أولئك السادة الرفعاء من أعمالهم شيئا حتى ساويناهم وهؤلاء الذين هم أنقص
منهم منزلة بل رفعهم تعالى إلى منزلة الآباء ببركة أعمالهم بفضله ومنته ثم قال " كُلّ اِمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِين " أي من شر
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية:
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} هذه بيان ما في صحف إبراهيم وموسى{ألا تزر وازرة وزر أخرى} أي: لا تحمل إثم {وزر أخرى} أي: أن الإنسان لا يحمل ذنب غيره، إلا أنه يستثنى من ذلك، إذا كان صاحب سنة
آثمة فإن عليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ولكن الحقيقة أن هذا لا يتحمل وزر غيره، لأن غيره قد وزر وأثم، لكن هو تحمل إثم السنة السيئة والبدء بالشر، فيكون حقيقة أنه لم يوزر وزر غيره ولكنه
وزر بوزر نفسه {ألا تزر وازرة وزر أخرى } وقد كذَّب الله تعالى قول الذين كفروا للذين آمنوا {اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} فقال الله تعالى: {وما هم بحاملين من خطـاياهم من شيء إنهم لكاذبون } حتى لو قال
لك القائل: افعل هذا الذنب والإثم عليَّ فإنه لا يتمكن من هذا، ولا يمكن، فإن فعل هذا، وقيل له: الإثم عليَّ فالإثم على الفاعل، ثم إن كان الفاعل ممن يغتر بالقول ولا يفهم، فعلى القائل إثم التغرير، أي أنه
غرر وخدع {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } يعني ليس للإنسان من الثواب إلا ثواب ما سعى وما عمل، فلا يمكن أن يعطى من ثواب غيره، يعني لا يمكن أن نأخذ من أجر زيد ونعطيه عمراً، كما لا يمكن أن نأخذ من سيئات
زيد ونضيفها إلى سيئات عمرو، فهذا لا يمكن إلا ما ورد من اقتصاص المظلوم من الظالم، فصار الإنسان مرتهن بكسبه: {كل امرئ بما كسب رهين } {كل نفس بما كسبت رهينة} فلا يمكن أن يؤخذ من حسناته إلى غيره، ولا أن
يؤخذ من أوزار غيره فيحمل عليها إلا ما ورد من اقتصاص المظلوم من الظالم.
قال الشيخ عبد العزيز الراجحي في هذه الآية:
قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} هذه الآية عامة يخصصها: حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ
يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ متفق عليه وهذا العذاب الله أعلم بنوعه وكيفيته، وجاء في بعض الأحاديث أنه يقال له: "أنت كذا وأنت كذا" لما يقوله النائحون والباكون: إنه كذا إنه كذا.
وقال الجمهور من أهل العلم: وهو اختيار البخاري كما في تراجمه في كتاب الجنائز: إنه يعذب إذا أوصى بذلك