دراسة أدبية لحِكَم زهير بن أبى سلمى
النـص:
ثمانينَ حولاً لا أَبـالَـكَ يَسـْأَم
1- سئمتُ تكاليف الحياة ومـن يـَعِـشْ
ولكنني عن علم ما في غـدٍ عـَمِ
2- وأعلمُ ما في اليومِ والأمـسِ قَبْـلَهُ
وإنَّ الفتى بعد السـفاهةِ يَحـْلُم
3- رأيت سِفَاهَ الشيْخِ لا حلـمَ بعـده
يُضَرَّسْ بأنيابٍ ويُـوطـأْ بمَنْـسِمِ
4- ومن لا يصانِـعْ فـي أمـورٍ كثـيرة
على قومه يُسْتَغْن عنه ويُـذْمَـمِ
5- ومن يكُ ذا فضل فيبـخل بفضـلـهِ
يُهدَّمْ ومن لا يظلِم الناسَ يُـظْـلَمِ
6- ومن لا يَذُدْ عن حوضـه بسـلاحـهِ
ولو رامَ أسباب السـماء بِـسـُلَّمِ
7- ومن هاب أسباب المنـايـا يَنَلـْنـَهُ
يطيعُ العوالي رً كِّبَتْ كُـل لَهـْذَم
8- ومن يَعْصِ أطـراف الزِّجـَاجِ فَإنَّـه
إلى مُطْمَئِنِّ البِرَّ لا يَـتَجَمـْـجَم
9- ومن يُوفِ لا يُذْمَمْ ومـن يُفـْضِ قَلْبُهُ
يَفِرْهُ ومن لا يَتقِ الشَّتْـمَ يُشــْتَم
10- ومن يَجْعَلِ المَعرُوفَ من دونِ عِرْضهِ
يَعُدْ حمدُهُ ذمّـاً عليـه ويَـنْـدَمِ
11- ومن يجعل المعروفَ في غـير أهْـلِهِ
ومن لا يُكَرِّم نَفْسـَهُ لـم يكـَرَّم
12- ومن يَغْتَرِبْ يَحْسَبْ عدوّاً صديقَـة
ولا يُعْفِهَا يوماً من الـذُّلِّ يَسـْأَمِ
13- ومن لا يَزَلْ يَسْتَرْحِلِ النّاسَ نَفْسَـهُ
وإن خالها تخفى على الناس تُعْلَمِ[1]
14- ومهما تَكُن عند امرىءٍ من خَلِيقَـةٍ
1- شرح الأبيات:
(1) سئمت: مللت. تكاليف: جمع تكلفة وهي المشقة.
لقد مللت مشقة الحياة وتعبها، ومن عاش مثلي ثمانين سنة لابد أنه سيسأم البقاء في هذه الدنيا.
(2) إن علمي مربوط بما رأيته في الماضي وما أراه في وقتي الحاضر، وأما المستقبل فإنه محجوب عني فكأني بالنسبة له الأعمى الذي لا يبصر ما أمامه.
(3) عندما يصاحب السفه شاباً فإنه يمكن تقويمه، وأما الشيخ عندما يصاحبه السفه فمن الصعب تقويمه وتعديله.
(4) يضرس: يعضض. المنسم: طرف خف البعير.
لابد من مداراة الناس في كثير من الأمور، ومن لم يفعل ذلك فسوف يصله الأذى والشر وربما ناله البطش.
(5) من أعطاه الله الغنى والمال فبخل به ولم ينفقه في وجوهه بل حفظه ولم يعط القريب فإن ذلك القريب سيستغني، وسيصل الذم ذلك المانع لماله.
(6) من تجرأ الناس على حقوقه فنالوا منها، ولم يستطع منعهم فإنهم سيستبيحون ما بقي منها لأن الناس لا تردعهم إلا القوة وقوله "ومن لا يظلم الناس يظلم" نظرة جاهلية.
(7) أسباب: نوا حي.
إن من خاف من الموت لن ينفعه ذلك، ولو حاول الهروب إلى السماء، لأن الموت سيلاقيه لا محالة.
(8) الزجاج: جمع زُجّ وهو أسفل الرمح. العوالي: جمع عالية وهي أعلى الرمح التي يكون فيها السنان. اللهذم: الحاد.
إن من عارض الصلح سيصطلي بنار الحرب، وسوف تناله السنان الحادة التي تمزق جسده.
(9) يفض: يصبر ويطمئن. لا يتجمجم: لا يتردد في الصلح.
إن من أوفى بما وعد به لن يصل إليه الذم ومن اطمأن قلبه إلى طريق البر والخير فإنه لن يتردد في تنفيذ الصلح ونبذ الحرب.
(10) يفره: لا ينقصه.
إن من أراد أن يكون عرضه مصوناً فعليه ببذل المعووف، أما من يعرض نفسه للسباب فإن الذم سيصله.
(11) والباذل للمعروف يجب عليه أن يضعه في من يستحقه لأن بذل المعروف في غير أهله لا يعقبه إلا الذم وندامة باذله.
(12) إن الغريب قد يغتر بالناس فيظن أعداءه أصدقاء له، وإن من أذل نفسه فقد أتاح لغيره أن يذله ويستصغر شأنه.
(13) إن من جعل نفسه عالة على الناس لا يتعفف ولا يترفع وإنما يرمي بنفسه في مواضع الإهانة من كانت هذه صفته فإن الناس سيملونه.
(14) خليقة: طبيعة.
إن طبيعة الإنسان وسجيته التي جبل عليها لابد أن تظهر للناس مهما حاول صاحبها إخفاءها.
2- المناسـبة:
كان زهير بن أبي سلمى المزني نازلاً في بني مرة من ذبيان، وقد نشبت حرب ضروس بين ذبيان وعبس عرفت بحرب داحس والغبراء اصطلى زهير بنارها هو وغيره من بني ذبيان وقد استمرت تلك الحرب عشرات من السنين، وقد مالت
عبس في نهاية تلك الحرب إلى السلم ووافق ذلك رغبة من بني مرة الذبيانيين، فسعى رجلان فاضلان في الصلح بين عبس وذبيان، والرجلان هما هرم بن سنان والحارث بن عوف، فجمعا الديات التي بلغت ثلاثة آلاف بعير،
فأعجب زهير بهذين الرجلين ومدحهما بقصيدة طويلة هي معلقته، وقد ختمها بهذه الحكم التي أوردناها والتي يحث معظمها على الصلح.
3- دراسة الأفكـار:
أفكار زهير بن أبى سلمي فما حكمه هذه هو خلاصة تجاربه ونظرته للحياة والناس، وهي أفكار سائدة في المجتمع فهو لم يأت بجديد، وإنما الذي فعله هو لفت النظر إليها. والشاعر ماهر في استخلاص ما يهم الناس من
تجاربهم الكثيرة ولذلك جاءت أفكاره مطابقة للواقع، فهي حقائق ثابتة مسلم بها. فهو يرى أن الإنسان يمل من الحياة عندما يبلغ ثمانين سنة، وذلك تعبير عن الضجر الذي يحس به الشيخ الكبير، والإنسان يعلم ما في
اليوم والأمس ولا يعلم ما في المستقبل.
ومداراة الناس ضرورة لابد منها، والخوف من المنية لا يدفعها، وجعل المعروف في غير أهله يعود على صاحبه بالضرر، وطبيعة الإنسان يعلمها الناس لا محالة.
فزهير صادق فيما قال، والدليل على صدقه أن هذه الحكم جربها الناس فعرفوها وهو واحد منهم، مر عليه وضع المعروف في غير أهله، وجرب مداراة الناس ورأى أنها أصلح من مصادمتهم ومعارضتهم فصدق الشاعر فيما قال تشهد
له الوقائع.
وهدف زهير من طرح هذه الحكم الرقي بالمجتمع الذي يعيش فيه، فهو يريد أن يفهم مجتمعه الواقع على حقيقته ليتجنب الضرر قبل أن يقع فيه، فزهير يحب لقومه أن يتركوا بعض العادات السائدة من التطاول ومعارضة الحق
والسير في طريق الباطل، فحذيفة بن بدر الذبياني عارض الصلح مع عبس وتطاول فكانت نهايته القتل في يوم الهباءة عندما قتله قيس بن زهير العبسي وهذا هو ما عبر عنه زهير في قوله:
يطيع العوالي ركبت كل لهذم
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه
وقد كان لزهير ما أراد فقد أثرت حكمه في ذلك المجتمع وأصبحت دروساً تعظ الناس وتبعدهم عن الشر وتقربهم للخير.
وعندما ننظر في الأبيات التي تجمع هذه الحكم لا نجد بينها رابطاً، فيمكن أن نقدم ونؤخر في الأبيات بسهولة فلا يتأثر المعنى العام، ولكن الشيء الذي يجمع هذه الحكم هو المُثُل العُلْيا السائدة في القبائل
العربية في العصر الجاهلي. وحكم زهير هذه تتميز بوضوحها فهي أفكار واضحة لا لبس فيها ولا غموض وليست قابلة للتأويل.
وهذه الأفكار هي عصارة الفكر الجاهلي جمعها زهير في هذه القصيدة.
4- الأسـلوب:
الألفاظ هي اللبنات التي تكون الأسلوب، فإذا أحسن الشاعر اختيار الألفاظ فإن أسلوبه سيبنى على أساس متين، وزهير هو شاعر الصنعة في العصر الجاهلي يعرف كيف ينتقي ألفاظه، فقد اختار ألفاظاً سائرة بين الناس
ومفهومة، وترفع عن الألفاظ المبتذلة. كما أنه تجنب الألفاظ التي لا يفهمها الكثير من الناس، وإذا كان قد أتى بشيء منها مثل (يضرس، منسم، الزجاج، لهذم، يتجمجم) فإن هذه الألفاظ قليلة بالنسبة لألفاظ القصيدة
كلها.
أما التراكيب؛ فقد سبك الشاعر ألفاظه في تراكيب محكمة وتلك التراكيب ربط بعضها في بعض؛ بحيث كونت أبياتاً لا نرى فيها خللاً ولا فجوات وهذا هو السبب الذي جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "كان زهير لا
يعاظل في كلامه".
أي إنه يصْنَعُ تراكيبه بطريقة تفرض احترام شعره على القارئ، فتراكيب زهير ليس فيها تعقيد ولا إدخال تركيب ليس له حاجة، ولا نجد تركيباً مبتذلاً أو يشتمل على خطأ نحوي، وإنما نجدها تراكيب تشملها أصالة
الشاعر.
وأسلوب الشاعر تتوافر فيه اللباقة، فهو يتوخى سلوك الطريق السهل، ومن الطرق التي سلكها في أسلوبه طريق التشويق فقد اعتمد على الشرط في كثير من أبياته فجعل القارئ ينتظر الجواب دائماً.
وآخر ما نقوله في أسلوب زهير إنه أسلوب انتقيت ألفاظه وأحكمت تراكيبه، وسلم من الحشو والغرابة، والإسفاف، فهو من الأساليب المصنوعة البعيدة عن الارتجال والتسرع، وإذا تذكرنا عمل زهير في قصائده وأنه يبقيها
عنده سنة كاملة يستبدل كلمة بأخرى أو تركيباً بآخر ظهر لنا أن جودة أسلوبه لم تحصل له بسهولة وإنما هي ناتجة عن صنعة زهير المشهورة.