هذا الكون العجيب الغريب الذي نعيش فيه يعج بالحياة والأحياء الذين نشاهدهم والذين لا نشاهدهم ، وهم في حركة دائبة لا تهدأ ولا تتوقف ،
وسيبقى حاله كذلك إلى أن يأتي اليوم الذي يهلك الله فيه جميع الأحياء إلا من يشاء ( كل من عليها فان ) ، ( كل شيء هالك إلا وجهه )ا
وعندما يأتي ذلك اليوم ينفخ في الصور ، فتنهي هذه النفخة الحياة في الأرض والسماء ( ونفخ في الصور فصعق من السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله )، وهي نفخة هائلة مدمرة يسمعها المرء فلا يستطيع أن يوصي
بشيء ، ولا يقدر على العودة إلى أهله وخلانه ( ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون ، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون )ا
وفي الحديث : ( ثم ينفخ في الصور ، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا، ورفع ليتا ، قال : وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله ، قال : فيصعق ويصعق الناس ) رواه مسلم
والليت : صفحة العنق
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن سرعة هلاك العباد حين تقوم الساعة فقال ( ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما ، فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا
يطعمه ، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه ، فلا يشقي قيه ، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها ) رواه البخاري
الصور الذي ينفخ فيه
الصور في لغة العرب : القرن ، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور ففسره بما تعرفه العرب من كلامها ، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( ما
الصور ؟ قال : الصور قرن ينفخ فيه ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، وقال عنه الحلكم صحيح ووافقه الذهبي
وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ ( الصُور ) ، جمع صورة ، وتأوله على أن المراد النفخ في الأجساد لتعاد إليها الأرواح
ونقل عن أبي عبيدة والكلبي أن ( الصُّوْر) بسكون الواو جمع صورة ، كما يقال : سور المدينة جمع سورة ، والصوف جمع صوفة، وبسر جمع بسرة. وقالوا : المراد النفخ في الصور وهي الأجساد ، لتعاد فيها الأرواح وما
ذكروه خطأ من وجوه
الأول : أن القراءة التي نسبت إلى الحسن البصري لا تصح نسبتها إلى الأئمة الذين يحتج بقراءتهم
الثاني: أن ( صورة ) تجمع على ( صُوَر) ولا تجمع على ( صُوْر) كما ادعى أبو عبيدة والكلبي قال تعالى ( وصوركم فأحسن صُوَركم ) ولم يعرف عن أحد من القراء أنه قرأها : فأحسن صُوْركم
الثالث : أن الكلمات التي ذكروها ليست بجموع وإنما هي أسماء جموع يفرق بينها وبين واحدتها بالتاء
الرابع : أن هذا القول خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة ، فالذي عليه أهل السنة والجماعة أن الصور بوق ينفخ فيه
الخامس : أن هذا القول مخالف لتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم حيث فسره بالبوق
السادس : أن الله تعلى قال ( ونفخ في الصور فصعق من السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قياك ينظرون ) فقد أخبر الحق سبحانه أنه ينفخ في الصور مرتين ، ولو كان المراد بالصور
النفخ في الصُوَر التي هي الأبدان لما صح أن يقال ( ثم نفخ فيه أخرى ) لأن الأجساد تنفخ فيها الأرواح عند البعث مرة واحد
النافخ في الصور
قال ابن حجر العسقلاني : ( اشتهر أن صاحب الصور إسرافيل عليه السلام ، ونقل فيه الحليمي الإجماع ، ووقع التصريح به في حديث وهب بن منبه ، وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي ، وفي حديث أبي هريرة عند ابن مردويه
، وكذلك في حديث الصور الطويل)ا
وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم أن صاحب الصور مستعد دائما للنفخ فيه منذ أن خلقه الله تعالى ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن طَرْف صاحب الصور منذ زكل به مستعد
ينظر نحو العرش ، مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه ، كأن عينيه كوكبان دريان ) رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الاسناد ووافقه الذهبي
وفي هذا الزمان الذي اقتربت فيه الساعة ، أصبح اسرافيل أكثر استعدادا وتهيؤا للنفخ في الصور ، فقد روى ابن المبارك في الزهد ، والترمذي في سننه ,أبو نعيم في الحلية وأبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه ،
والحاكم في المستدرك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( كيف أنعم ، وقد التقم صاحب القرن القرن ، وحنى جبهته ، وأصغى سمعه ، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ ، فينفخ. قال
المسلمون: فكيف نقول يا رسول الله ؟ قال : قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، توكلنا على الله ربنا ) وقال الترمذي : حديث حسن صحيح
اليوم الذي يكون فيه النفخة
تقوم الساعة يوم الجمعة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا
يوم الجمعة ) رواه مسلم
وفي حديث آخر أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الساعة تقوم يوم الجمعة ، وفيها يبعث العباد أيضا ، فعن أوس بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة ، فيه خلق آدم،
وفيه قبض ، وفيه النفخة ، وفيه الصعقة ، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة عليّ) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارامي والبيهقي
ولما كانت الساعة تقع في هذا اليومفإن المخلوقات في كل يوم جمعة تكون مشفقة خائفة إلا الانس والجن ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة
، فيه خلق آدم ، وفيه هبط وفيه تيب عليه ، وفيه مات وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيخة - منتظرة قيام الساعة - يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس ، شفقا من الساعة إلا الجن والإنس ) روام
مالك وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد
كم مرة ينفخ في الصور؟
الذي يظهر أن إسرافيل ينفخ في الصور مرتين ، الأولى يحصل بها الصعق ، والثانية يحصل بها البعث ، قال تعالى ( ونفخ في الصور فصعق من السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام
ينظرون )سورة الزمر
وقد سمى القرآن النفخة الأولى بالراجفة ، والنفخة الثانية بالرادفة ، قال تعالى ( يوم ترجف الراجفة ، تتبعها الرادفة )ا
وفي موضع آخر سمى الأولى بالصيحة ، وصرح بالنفخ بالصور بالثانية، قال تعالى ( ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون ، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ، ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى
ربهم ينسلون )ا
وقد جاءت الأحاديث النبوية مصرحة بالنفختين ، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما بين النفختين أربعون ) قالوا: يا ابا هريرة : أربعون يوما ؟ قال: ابيت.
قال: اربعون شهرا ؟ قال : ابيت ، قال : أربعون سنة ؟ قال : ابيت ) رواه البخاري في صحيحه
وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:( ثم ينفخ في الصور ، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ، ورفع ليتا ، فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله ، قال : فيصعق ، ويصعق
الناس، ثم يرسل الله- أو قال: ينزل الله مطرا ، كأنه الطل ، أو الظل فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) رواه مسلم
وذهب جمع من أهل العلم إلى أنها ثلاث نفخات ، هي نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة البعث. وممن ذهب هذا المذعب ابن العربي وابن تيمية وابن كثير والسفاريني، وحجة من ذهب هذا المذهب أن الله ذكر نفخة الفزع في
قوله (ويوم ينفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله )ا
كما احتجوا ببعض الأحاديث التي نصت على أن النفخات ثلاث ، كحديث الصور الطويل ، الذي أخرجه الطبري وفيه ( ثم ينفخ في الصور ثلاث نفخات ، نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام لرب العالمين)ا
أما استدلالهم بالآية التي تذكر نفخة الفزع فليست الآية صريحة على أن هذه نفخة ثالثة، إذ لا يلزم من ذكر الحق تبارك وتعالى للفزع الذي يصيب من في السماوات والأرض عند النفخ في الصور أن تجعل هذه نفخة مستقلة
، فالنفخة الأولى تفزع الأحياء قبل صعقهم ، والنفخة الثانية تفزع الناس عند بعثهم
أما حديث الصور فهو حديث ضعيف مضطرب كما يقول الحجة في علم الحديث ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى ، ونقل تضعيفه عن البيهقي
وذهب ابن حزم رحمه الله تعالى إلى أن النفخات يوم القيامة أربع : الأولى نفخة إماتة ، والثانية نفخة إحياء ، يقوم بها كل ميت وينشرون من قبورهم ويجمعون للحساب، والثالثة : نفخة فزع وصعق ، يفيقون منها
كالغشي عليه ، لا يموت منها أحد ، والرابعة : نفخة إفاقة من ذلك الغشي
قال ابن حجر بعد أن حكى مقالة ابن حزم: هذا الذي ذكره من كون الثنتين أربعا ليس بواضح ، بل هما نفختان فقط ، ووقع التغاير في كل واحد منهما باعتبار من يستمعهما ، فالأولى يموت فيها كل من كان حيا ، ويغشى
على من لم يمت ممن استثنى الله . والثانية : يعيش بها من مات ، ويفيق بها من غشي عليه والله أعلم
الذين لا يصعقون عند النفخ في الصور
أخبر الباري جل وعلا أن بعض من السماوات ومن في الأرض لا يصعقون عندما يصعق من في السماوات ومن في الأرض( ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله )ا
وقد اختلف العلماء في تعيين الذين عناهم الحق بالاستثناء في قوله( إلا من شاء الله )ا<br /