فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف : 18]
والصبر عاقبته حميدة في جميع الأحوال
" فإن الله سبحانه جعل الصبر جواداً لا يكبو , وجنداً لا يهزم , وحصناً حصينا لا يهدم ، فهو والنصر أخوان شقيقان ، فالنصر مع الصبر ، والفرج مع الكرب ، والعسر مع اليسر ، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة
ولا عدد ، ومحله من الظفر كمحل الرأس من الجسد .
ولقد ضمن الوفي الصادق لأهله في محكم الكتاب أنه يوفيهم أجرهم بغير حساب .
وأخبر أنه معهم بهدايته ونصره العزيز وفتحه المبين ، فقال تعالى : وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال : 46] .
وجعل سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين ، فقال تعالى : وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة : 24]
وأخبر أن الصبر خير لأهله مؤكداً باليمن فقال تعالى : وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ [النحل : 126] .
وأخبر أن مع الصبر والتقوى لا يضر كيد العدو ولو كان ذا تسليط ، فقال تعالى : وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران :
120]
وأخبر عن نبيه يوسف الصديق أن صبره وتقواه وصلاه إلى محل العز والتمكين فقال : إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف : 90].
وعلق الفلاح بالصبر والتقوى ، فعقل ذلك عنه المؤمنون فقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران : 200].
وأخبر عن محبته لأهله ، وفي ذلك أعظم ترغيب للراغبين ، فقال تعالى : وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران : 146].
ولقد بشر الصابرين بثلاث كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون ، فقال تعالى : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ *
أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة : 157:155].
وأوصى عباده بالاستعانة بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا والدين فقال تعالى : وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة : 45].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة : 153]
وجعل الفوز بالجنة والنجاة من النار لا يحظى به إلا الصابرون ، فقال تعالى : إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون : 111].
وأخبر أن الرغبة في ثوابه والإعراض عن الدنيا وزينتها لا ينالها إلا أولو الصبر المؤمنون ، فقال تعالى : وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ
صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص : 80].
وأخبر تعالى أن دفع السيئة بالتي هي أحسن تجعل المسيء كأنه ولي حميم ، فقال : وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت : 34] وأن هذه الخصلة : وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت : 35]
وأخبر سبحانه مؤكدا بالقسم : إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر : 3:2] .
وقسَّم خلقه قسمين : أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة ، وخص أهل الميمنة أهل التواصى بالصبر والمرحمة .
وخص بالانتفاع بآياته أهل الصبر وأهل الشكر تمييزاً لهم بهذا الحظ الموفور ، فقال في أربع آيات من كتابه : إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم : 5].
وعلَّق المغفرة والأجر بالعمل الصالح والصبر ، وذلك على من يسره عليه يسير ، فقال : إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [هود : 11].
وأخبر أن الصبر والمغفرة من العزائم التي تجارة أربابها لا تبور ، فقال : وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى : 43] .
وأمر رسوله بالصبر لحكمه ، وأخبر أن صبره إنما هو به وبذلك جميع المصائب تهون فقال : وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور : 48] ، وقال :
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل :127:
128]
والصبر ساق إيمان المؤمن الذي لا اعتماد له إلا عليها , فلا إيمان لمن لا صبر له وإن كان فإيمان قليل في غاية الضعف وصاحبه يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر
الدنيا والآخرة ، ولم يحظ منهما إلا بالصفقة الخاسرة .
فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم , وترقوا إلى أعلى المنازل بشكرهم ، فساروا بين جناحي الصبر والشكر إلى جنات النعيم ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة
: 4] " انتهى .
" عدة الصابرين " لابن القيم ( ص 3 – 5 ) .
وأما الأحاديث في فضل الصبر ، فمنها :
روى البخاري (1469) ومسلم (1053) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قال رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَا
أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ ) .
روى مسلم (918) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ
اللَّهُ " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا " إِلا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا ) .
وروى مسلم (2999) عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا
لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) .
ولمعرفة المزيد من الأحاديث في فضل الصبر ، والترغيب فيه ، انظر : "الترغيب والترهيب" للمنذري (4/274-302) .
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاض ( أي عوضه ) مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيراً مما انتزعه .