وصية ذو الإصبع العدواني لابنه أسيد
ذو الإصبع العدواني اسمه حرثان ، حكيم وفارس، ناثر وشاعر، ينتمي إلى قبيلة عدوان
المضرية ويقال أنه سمي ذا الإصبع، لأن إحدى رجليه بها إصبع زائدة، وهناك من يرى
أن سبب التسمية أن حية نهشت إصبعه، وقد عاش طويلا، واستفاد من حياته تجارب
كثيرة وكان له من سعة العقل وبعد النظر ما جعله في مكانة الحكماء، توفي حوالي سنة
600م .
ووصيته لابنه أسيد هي من الأقوال المشهورة في الأدب العرب والتي يظهر من خلالها
مدى حرص الآباء على أبنائهم وفلذات أكبادهم بخلاصة تجاربهم، فقد أوصى ذو الإصبع
العدواني عندما كبر وتقدمت به السن ابنه بطائفة من الصفات الحميدة، لأنه يرجو له الخير
والفلاح في مستقبله بين قومه و عشيرته، وهذه الفضائل لو عمل بها أي إنسان فإنه يبلغ
بها أرفع المنازل وأعلاها بين من يتصل بهم ويعيش بينهم .
وقد جاء في تلك الوصية :
((يا بني إن أباك قد فني وهو حي وعاش حتى سئم العيش و إني موصيك بما إذا حفظته،
بلغت في قومك ما بلغته، فاحفظ عني:
ألِن جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وابسط لهم وجهك يطيعوك، ولا تستأثر
عليهم بشيء يسودوك، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم،ويكبر على مودتك صغارهم،
واسمح بمالك، واحرم حريمك، وأعزز جارك، وأعن من استعان بك، وأكرم ضيفك، وأسرع
النهضة في الصريخ، فإن لك أجلا لا يعدوك ، وصن وجهك عن مسألة أحد شيئاً، فبذلك يتم سؤددك)).
ـ2ـ
ومن النص يتضح أن ذو الإصبع بدأ نصائحه بالإشارة إلى حياته الطويلة التي عاشها والتي أكسبته خبرة بالحياة والناس، وعرفته ما ينفع ويضر ، وبهذا التمهيد يجذب الأب انتباه ابنه للاستماع لما يقول ولا يكتفي ذو
الإصبع بهذه الالتفاتة بل بين له أنه إن عمل بنصائحه نال مكان السيادة في قومه، وصارت له منزلة أبيه .
أما الوصايا نفسها، فقد دعا من خلالها إلى حسن المعاملة، والرفق بقومه ليحبوه،والتواضع
لهم ليقدروه، ولقياهم ببشاشة ليطيعوه، والبعد عن الأنانية ليجعلوه سيدا، وإكرام الكبير والصغير ليبادل الكبار الاحترام والتقدير، وينشأ الصغار على مودته .
ويختم ذو الإصبع العدواني وصيته بدعوة ولده إلى التمسك بأعز صفات العربي، ألا وهي الكرم، ورفض الظلم، وحماية العرض، ورعاية الجار، ومساعدة الناس، وإكرام الضيف، ونجدة المستغيث، وحفظ ماء الوجه من ذل السؤال
.
وأما عن الأحكام والقيم التي تظهرها الوصية، فهي تبين أن شخصية ذي الإصبع كانت ذات مكانة مرموقة في قومه اكتسبها بسجاياه الحميدة، كما تظهر لنا من وصيته خبرته بالحياة وبطبائع الناس، وفي الوصية إشارة إلى
ما في البيئة العربية الصحراوية من صفات يعتز بها العرب، من كرم، وشجاعة، ومروءة، ونجدة .
والقيم الخُلقية بارزة في الوصية، فالغرض من الوصية تربوي، فهي تعلم الأخلاق الحميدة
التي ترفع مكانة الفرد في المجتمع، وهذا الغرض قديم وحديث لحرص الآباء دوما على استقامة أبنائهم، مما يجعل من هذه الوصية صالحة ومفيدة للفرد في المجتمع اليوم كما كانت صالحة بالأمس البعيد .
ومن الدراسة الأدبية والفنية لنص الوصية يظهر ما يلي :
1. الفكرة العامة :
إن من ينظر إلى النص يجد أن فكرته العامة هي طريق السيادة والمجد.
2. الأفكار :
الأفكار كما تبدو واضحة بسيطة أتت متتابعة مترابطة، استهلها ذو الإصبع بمقدمة مهد
بها للوصية وشوق إليها، وحشد بعد ذلك صفات ومبادئ قيمه،واتبع كل صفة بما ينتج عنها مثل : اللين الذي يفضي إلى محبة القوم، والتواضع إلى الرفعة، والبشاشة إلى الطاعة، …الخ .
ـ3ـ
3. العاطفة :
وتلك الأفكار نابعة من الحب الأبوي في قوة صادقة لا يخطر بالذهن أبداً ما يخالف هذا،
لأن الأب ينقل تجربته لابنه، ولا يريد له إلا الخير في عمله بها .
4. الأسلوب :
إذا تأملنا الوصية بتأن، فإننا نجد ذا الإصبع قد أحسن اختيار الألفاظ والكلمات الفصيحة،
وعبارات ذات وقع موسيقي جعلها تتصل بالنفس وتنتشر بين الناس .
ومن قصائده المشهور:
(( سبيـل الرشـد ))
كـل امرئ صائر يوماً لشيـمته وإن تخـلـق أخـلاقـاً إلـى حـيـن
إنـي لعمرك ما بابي بذي غلق عـن الصديـق ولا خيـري بممنـون
وما لسانـي عن الأدنى بمنطلق بـالمنكـرات، ومـا فتكـي بمأمون
عندي خلائق أقوام ذوي حسب وآخـرون كـثيـر كلهـم دونــي
فإن علمتم سبيل الرشد فانطلقوا وإن جهلتـم سبيـل الرشـد فأتوني
يا رُب ثوب حواشيه كأوسطه لا عيب في الثوب من حسن ومن لين
قد كنت أعطيكم مالي وأمنحكم ودي على مثبت في الصدر مكنـون
يا عمرو لو لنت لي ألفيتني يسراً سمـحاً كريماً أجـازي من يجازينـي
والله لو كرهت كفي مصاحبتـي لقلت إذ كرهت قربـي لها : بينـي